يقدم شكسبير شخصيته "ديدمونة" في مسرحية "عطيل"، في صورة امرأة محبّة لزوجها تمنعها براءتها الشديدة من تصديق وجود الشر في عالمها. تمتثل أمام رغبة زوجها في قتلها عقاباً لها على جريمة خيانة لم ترتكبها، راضية بدور ضحية الحب والصدق والبراءة.
صورة تطلّ على القارئ من عالم الملائكة. استدعى ذلك التصوّر مخرجي الأفلام المقتبسة عن هذا النص لاختيار ممثلات مثل بيتسي بلير، سوزان كلوتيير، ماجي سميث، كاتيا ريتشاريللي، ايرين جاكوب، ومريم فخرالدين، وتنويعات على نفس هذا النغم من ممثلات الأدوار الرقيقة الرهيفة. هناك امرأة واحدة فقط رأت في النص ملامح "معلمة وجدعنة" في شخصية ديدمونة، فتحمّست لتقديمها. كانت هذه الفنانة هي تحية كاريوكا، والتي مرّت ذكرى رحيلها منذ أيام، وكانت فرصة لي للغوص في سيرتها السينمائية والتوقف عند زيارتها الوحيدة لمسرح ويليام شكسبير.
لم تقدم تحية كاريوكا رؤية ملتزمة بالنص الأدبي مثل رؤية لورنس أوليفييه وأورسن ويلز وفرانكو تيسفاريللي وأوليفر باركر، فهذه الأعمال كانت معنية بالأساس بتكريس العمل الأدبي كعمل أيقوني، وتطويع عناصر اللغة السينمائية لتترجم النص الأدبي ترجمة حرفية. وهذا توجه رائع، ولكن لم يكن هذا هو المقصد. كما لم تقدم تحية رؤية تأويلية للنص بتقديم عناصره الأساسية في سياق زمني ومكاني مختلف مثل أفلام O و All Night Long.
حياة تحية كاريوكا وصراعها مع منظومة القيم في مجتمعها الصغير في الإسماعيلية أولاً ثم القاهرة ثانية، قد ساهم في خلق هذه النظرة النقدية لصورة المرأة في السينما المصرية
تلك الأفلام معنية بإثبات ملائمة النص لكل زمان ومكان، فرغم اختلاف الزمان والمكان، تسير الأحداث بنفس المنطق إلى نفس النهاية.
قدمت تحية كاريوكا في فيلمها الذي أنتجته عام 1958 رؤية نقدية للنص بإعادة تقديمه في سياق ثقافي مختلف تخلق بدائل درامية لبعض عناصره. هذا مسار أقرب إلى تقديم تاريخ بديل كإجابة على تساؤل، ماذا لو كان عطيل "مِعلّماً" مصرياً من حي الغورية وليس قائداً مغربياً في الجيش الإيطالي؟ والتحدي الأكبر في هذه الرؤية هو أن تكون الشخصية الرئيسية هي ديدمونة وليس عطيل أو ياجو. النص الشكسبيري لا يقدم الكثير من التفاصيل في شخصية ديدمونة. فهي عند شكسبير شابة صغيرة، فاتنة الجمال، محبة لزوجها ومخلصة له، ثم حائرة أمام تغير تعامل زوجها معها، ثم مدافعة عن نفسها وشرفها أمام اتهامات زوجها لها بالخيانة، وأخيراً ممتثلة أمام عزم زوجها لقتلها عقاباً لها على جريمة لم ترتكبها.
في السنوات السابقة لإنتاج هذا الفيلم، ضاقت الفنانة تحية كاريوكا من نوعية الأدوار التي تعرض عليها لتمثيلها، فقد حصرها الإنتاج السينمائي في ذلك الوقت في أدوار المرأة اللعوب. أرادت تقديم أدواراً أكثر قوة وبروزاً واكتمالاً من تلك التي قدمتها في السينما.
كان أكبر هذه الأدوار مساحة فيلم "لعبة الست" أمام نجيب الريحاني، ولكنه ظل دوراً نمطياً للمرأة التي تجري وراء المال والغنى، فتترك زوجها الفقير وتتزوج رجلاً غنياً، ثم تندم وتعود إلى زوجها.
يبدو أن حياة تحية كاريوكا وصراعها مع منظومة القيم في مجتمعها الصغير في الإسماعيلية أولاً ثم القاهرة ثانية، قد ساهم في خلق هذه النظرة النقدية لصورة المرأة في السينما المصرية. فقد خاضت تحية معارك ضارية مع أخيها من أجل ممارسة فنها، ثم خاضت حروباً مماثلة حتى تمكنت من تثبيت أقدامها كفنانة لها اسمها، في كازينو بديعة مصابني ثم في السينما.
ربما شعرت تحية بأزمة تمثيل النساء في الدراما المصرية، جعلتها تبحث عن فرص لتقديمهن بعد أن أثبتت قدراتها التمثيلية في الأدوار الصغيرة والكبيرة التي لعبتها. ظلت تحية لسنوات بعدها أسيرة لأدوار رئيسية، كامرأة لعوب "شباب امرأة" كمثال، أو دور ثانوي لزوجة شهمة (الفتوة)، حتى تحمست لفكرة فيلم "المعلمة".
هذا الحماس الذي أرغمها على بيع خاتم من الألماس كانت تعتز به، من أجل استكمال عجز ميزانية الفيلم التي قدرته بـ 1500 جنيه مصري، بحسب تصريح لها في لقاء تلفزيوني ببرنامج "حوار صريح جداً"، ليخرج هذا الفيلم إلى النور. وسمت بطلة الفيلم التي تلعب دورها باسم "توحة"، وهو اسم الدلع لتحية، إمعاناً في توضيح الرسالة للجميع أن هذه هي تحية كما تحب أن تكون.
رأت تحية كاريوكا ديدمونة كامرأة ذات سيادة، بـ"100 رجل" كما تحب أن تصف نفسها ويصدق أبوها على ذلك بعدم تمنيه أن ينجب ذكراً، لأنه لن يكون في رجولة وجدعنة ابنته. يعلم المار بوكالات العطارة والعطور في حي الغورية، وباقي الأسواق الشعبية في القاهرة، أن هناك العديد من السيدات اللائي يدرن أعمالهن على أكمل وجه. لا تنقص أنوثتهن شيئاً من حسن إدارتهن، ولا ينقص حسن الإدارة من أنوثتهن شيئاً. ربما تساءلت تحية كاريوكا يوماً ما أثناء تبضعها من الغورية، كيف ستتصرف إحدى تلك السيدات لو اتهمت زوراً بخيانة زوجها؟
كان متاحاً لتحية كاريوكا أن تصنع فيلماً كلاسيكياً عن مأساة عطيل، ولكن يبدو أنه كان لها رأي شديد الانتقاد لتصور ديدمونة في النص الأصلي، عبّرت عنه في فيلم أسمته "المعلمة".
المعلمة هنا ليست فقط الشخصية القوية التي حلت محل ديدمونة الضعيفة الممتثلة، ولكنها المعلمة التي استطاعت إنتاج فيلم جريء في معالجته لنص كلاسيكي يحفظه الجمهور عن ظهر قلب، وأن تحافظ على الإطار العام للنص، وتعيد صياغة عناصره بشكل شديد الإقناع.
استعانت تحية كاريوكا، في مغامرتها الفنية هذه، بمخرج الفيلم وكاتب المعالجة، المخرج حسن رضا، الذي قدّم قبل 4 سنوات من إنتاج هذا الفيلم معالجة مميزة لنص عطيل، ككاتب سيناريو في فيلم "الشك القاتل" من إخراج عزالدين ذوالفقار. في "الشك القاتل"، يقدّم لنا حسن رضا عطيلاً كضحية للخيانة في زواجه الأول، ما يبرّر له درامياً شكه القاتل في زوجته الثانية (ديدمونة في النص الأصلي)، ويدعونا كمشاهدين للتعاطف معه. في زيارته الثانية للنص الذي أراد تقديم ديدمونة كضحية أو بطل تراجيدي، ينزع حسن رضا عن عطيل أسباب التعاطف.
موسيقى فؤاد الظاهري تأتي محافظة على مصرية التناول، فنسمع الأكورديون الشعبي والأغاني الشعبية والدفوف التي تختفي خلف نغمة بيانو تسيطر على مشاهد شك وحيرة المعلم عباس، تتصاعد بعدها كمنجات أوركسترالية كلما تحول هذا الشك إلى غضب.
تظل هذه المباراة بين الألحان الشرقية التي تغلف مشاهد يوميات الأبطال والكوردات الغربية بتصاعداتها، والتي تعبر بشكل مباشر عن مشاعر الشك الدخيلة على طبيعة العلاقة بين عباس وزوجته، كما أن اختيار البيانو والكمانجات في ذروة الصراع يذكرنا بالأصل الأجنبي للنص الشكسبيري، بسبب الجو المختلف عن جو أحداث الفيلم، وكأنه يذكرنا أن هذا الفيلم الذي نشاهده هو رؤية نقدية للنص الأصلي. لا ينكر الفيلم أصله الأجنبي ولا يتنصل من استلهامه، بل يدعو المشاهد إلى التوحّد مع أحداثه والانفصال عن النص الأصلي، ليرى كيف تستطيع سينماه المحلية إبداء رأيها في عمل كلاسيكي هام كهذا.
الفيلم عن المعلم "عباس" الذي يدافع عن شرف زوجته المعلمة توحة فيُسجن، وهو المقابل لشخصية عطيل، فيما تتولى زوجته شؤون تجارته، وهي المقابل لشخصية ديدمونة. في غياب عباس، المعلم حافظ، المقابل لشخصية ياجو، يشتهي المعلمة توحة، ولكنها تسد أمامه الباب معلنة إخلاصها لعباس، فيضمر حافظ الضغينة والغيرة تجاهه. وعندما يعود عباس يجد أن المعلمة تتعامل بشكل وثيق مع فتحي، الشاب الجامعي الذي يدير حسابات الوكالة، والمقابل لشخصية كاسيو. لا يهتم بالأمر في البداية ولكن حافظ ينتهزها فرصة لإشعال نار الغيرة وهز ثقة عباس في نفسه وإفساد ما بينه وبين توحة، وتتوالى الأحداث إلى أن يقنعه بخيانتها.
جسّد اختيار يحيى شاهين لأداء دور "عباس" (عطيل). العنصر الفيزيائي المتمثل في طول وعرض قامته وملامحه الذكورية القوية ووسامته أيضاً، أضف إلى ذلك قوته البدنية وشهامته في الدفاع عن زوجته، والتي ستدفع به لقضاء عامين في السجن. قدرات يحيى شاهين التمثيلية في تقديم الهشاشة الذكورية المتضادة مع هذه الصورة المكتملة للمعلم عباس، صنعت توتراً وصراعاً بارعاً على الشاشة مدة عرض الفيلم. وعدم قدرة يحيى شاهين على اتهامها بالخيانة، ولو حتى بالتلميح، يعكس ميزان القوى في العلاقة في صالح النسخة الجديدة من ديدمونة، المتمثلة في تحية كاريوكا. وهذا تصرف في المعالجة يحسب لصناع الفيلم، لموائمته المنطق المنحاز ضد عطيل.
ياجو في النص الأصلي فاقد الثقة في جاذبيته كرجل، فيعمل على إفساد العلاقة بين عطيل وزوجته، ليس طمعاً في ديدمونة فقط، ولكن لرغبته في تدمير هذا الكيان المستفز لرجولته المتمثل في عطيل.
في الفيلم، محمود المليجي، أو المعلم حافظ، يطمع في ديدمونة، يعبر عن ذلك بمنتهى الوضوح في ظهوره الأول في الفيلم. هنا يختلف دافعا الشر لدى كلا "الياجوهين". لن يغير هذا الاختلاف شيئاً جوهرياً في سير الأحداث. فياجو سيظلّ يبثّ الشك في قلب عطيل بنفس أساليب النص الأصلي، فهو يلعب بكارت الأخوة والمحبة والحماية من الأعداء لنيل الثقة، وسيعمد إلى تشكيك عطيل في سلوك زوجته بافتراض حسن النية في تفسير سلوكها الذي قد سبق وقدمه لزوجها بشكل صادم، حتى يميل عطيل إلى تكذيب حسن النية الآتي على لسان صديقه، بدلاً من أن يدافع عن زوجته لو كان ياجو قد اتهمها بالخيانة بشكل مباشر.
في النص الأصلي، يحصل عطيل على مكانته مكافأة له على بسالته في القتال، فبالرغم من عدم انتماء أصوله لإيطاليا، إلا أنه أظهر جلداً لم يكن له نظير في صفوف المحاربين الطليان. لم يقترب منه سوى "كاسيو"، وعلى مسافة كبيرة. أما عن مكانته في قلب "ديدمونة"، فقد حازها لعكس هذا السبب. فقد رأت ديدمونة في كل هذه البطولات والمخاطر التي خاضها عطيل معاناة إنسانية. أشفقت عليه من هذا العالم، وتمنت لو أنه عاش عيشة هادئة مريحة، ثم سعت لأن تكون هي من توفر له ذلك.
هذه ليست ديدمونة كما رآها شكسبير، بل هي "توحة" كما تمنت تحية كاريوكا أن تكون
تثير المكانة التي حصل عليها عطيل حسد وغيرة الطليان بالرغم من إعجابهم به كمحارب. أما أن يعيش كالأمراء، يأمر ويحكم ويتزوج ابنة أحد النبلاء، فكان ذلك عسيراً عليهم بدرجات. ياجو يعي عدم استحقاقه لهذه المكانة، لذلك فهو يسعى فقط لأن يجرد منها عطيل بدفعه إلى كل الحماقات التي سيرتكبها.
في الفيلم، يُظهر المعلم عباس جلداً في حماية المعلمة ووكالتها، ويدخل في معركة طاحنة يخرج منها مظفراً، ولكن محكوماً عليه بقضاء سنوات في السجن، بعد عقد قرانه على المعلمة وقبل ليلة الزفاف. تحافظ المعلمة بمفردها على وكالتها وعلى نفسها من كل الطامعين فيها في غياب زوجها. لا يساعدها في ذلك سوى "فتحي" (عمر الحريري)، الطالب الجامعي المنمق، الذي يعمل أثناء دراسته لمساعدة والدته المريضة. تشعر المعلمة بحب زوجها لحمايته لها من عصابة بيومي، وبعد خروجه من السجن ترى أن حبه لها قد ازداد، وبالمثل يزداد حبها له.
جسّد عطيل البطل التراجيدي في النص الأصلي. حسب تعريف الكلاسيكي للبطل التراجيدي، فهو شخص ذو مكانة اجتماعية كبيرة، يفقدها بسبب عيب جذري في شخصيته يدفعه لأن يقوم بتصرفات تطيح به هذه المكانة، مثل طموح ماكبث الزائد، وحب الملك لير للإطراء، وتردّد هاملت. في مأساة عطيل، تميل معظم التفسيرات النقدية لأن ترجع عيب شخصية البطل إلى الغيرة، بينما تتعمّق بعض الأقلام لأن ترجع ذلك لشعور البطل بالدونية التي تعود، حسب النظرة العنصرية الأوروبية، إلى حماقة الإنسان الأفريقي، وكما يتكرّر على لسان ياجو ورودريجو وآخرون في النص الأصلي. يتبنى شكسبير وجهة النظر هذه ولكن بروح الفنان، فيظهره كبطل تراجيدي يدعونا للتعاطف معه في مأساته، ويدفعنا للتوحّد معه طوال النص.
في الفيلم، تصبح المعلمة هي البطلة التراجيدية التي تستحق التعاطف. تصبح هي ضحية المؤامرات وليس المعلم عباس. لا يشترك صنّاع الفيلم مع شكسبير في نظرتهم للإنسان الأفريقي الشاعر بالدونية وعدم الاستحقاق، فيصبح المعلم عباس أحمقاً يستحق ازدراء المشاهدين، ويذهب التعاطف كله إلى المعلمة. تختلف اللعبة هنا باختلاف المواقف الأيديولوجية للمؤلفين.
يتمسك شكسبير بنبل شخصية عطيل، فيحافظ على تقديمه كزوج مخلص رغم تأكده من خيانة زوجته. يظل كارهاً ومحتقرا للخيانة، مع تمسّكه بفكرة قتل ديدمونة من أجل الشرف، دون أي دليل مادي على خيانتها، وهو ما يضفي نبلاً على مثل هذا التصرف! بل ويدفعه نبله إلى التراجع أحياناً بسبب عدم وجود هذا الدليل المادي، ثم الإقدام عليه بعد العثور على دليل واهٍ حبكه ياجو بخسّته ونذالته. يظل عطيل نبيلاً وأحمقاً في أعين القراء المتعاطفين معه لهشاشة وضعه كغريب في هذا المجتمع.
كان متاحاً لتحية كاريوكا أن تصنع فيلماً كلاسيكياً عن مأساة عطيل، ولكن يبدو أنه كان لها رأي شديد الانتقاد لتصور ديدمونة في النص الأصلي، عبّرت عنه في فيلم أسمته "المعلمة"
بينما ينزع فيلم المعلمة هالة القداسة عن هذا العطيل، فنراه لا يمانع في أن يذهب لقضاء وقت مثير وممتع مع غانية متزوجة، بتدبير من صديقه ياجو. لا يعكر صفو هذه السهرات غير البريئة إلا ذكر الزوج المغفّل، فتثور ثائرته لثوان ثم يعود إلى ما هو عليه. وتحت تأثير طمع ياجو هذا الفيلم في ديدمونته، فيدبر لها عن طريق "رودريجو" (محمد توفيق) كشف عطيل أمامها في مشهد خيانة مكتمل الأركان. تواجه ديدمونة عطيل بخيانته، فيلقي عليها يمين الطلاق حفاظاً على ذكورة هشة، فتسعد هي بيمين الطلاق هذا، وتلعنه وتلعن اليوم الذي رأته فيه، وتترك المكان مرفوعة الرأس، ويظل هو ذليلاً حتى يأتي ياجو فيطعنه بسيف الصداقة قائلاً: "ما صدقت!".
ينتهي هذا الفصل من الفيلم بطلب ديدمونة من خادمتها بأن تلقي بملابس عطيل من شباك منزلها أمام المارة. الشيء الملفت للنظر في هذه المعالجة هو تجاهله المتعمد لأحد أهم أركان النص الأصلي، وهو العثور على منديل عطيل الذي أهداه إلى ديدمونة في حوزة كاسيو (عمر الحريري). ما الذي يجعل صناع الفيلم يتعمدون تجاهل لعبة درامية مثيرة كهذه سوى إخلاصهم لتقديم القصة هذه المرة من زاوية ديدمونة؟
يبدأ الفيلم بياجو وهو يقدم هدية عبارة عن قطعة قماش فاخرة إلى ديدمونة المتزوجة. ترفضها ديدمونة قائلة له: "ماينفعش ست متجوزة تاخد هدية من راجل غريب من غير إذن جوزها". فينساها ياجو متعمداً، فتذكره ديدمونة بها ليأخذها في طريقه إلى الباب، وتذكره بسبحته التي نسيها أيضاً. يقطع حسن رضا وتحية كاريوكا الباب أمام أي شبهة تدين ديدمونة. بل لا تبدو ديدمونة واعية بشك زوجها في سلوكها. تفسّر سلوك زوجها فقط كتأثير سلبي من صديق سوء، كالمعلم حافظ، لا أكثر ولا أقل. لا تعلم بشكه فيها إلا بعد أن تفيق من غيبوبتها. الغيبوبة التي دخلت فيها بعد أن خنقها زوجها دون أن تعرف لماذا.
تظل هيبة ديدمونة قائمة حتى وهي في قبضة طليقها المجنون لا يجرؤ على اتهامها بالخيانة، فيقدم لنا الفيلم مشهد القتل الأخير دون هالة التطهير والعقاب الإلهي، كما يقول النص الأصلي، بل عمل خسيس لا يسمح لديدمونة للدفاع عن نفسها، ناهيك عن معرفة سبب قتلها بهذا الشكل. في الفيلم تظن ديدمونة أن عطيل أتى إليها نادماً، طالباً الصفح!
لا تنسى تحية كاريوكا أن تقدم مشاهد تبرز فيه أنوثة ديدمونة واحتياجها لرجلها، في فيلم تظهر فيه كبطلة ملحمية. مشهدان رئيسان تظهر فيه كامرأة في كامل أنوثتها، الأول ترقص فيه لزوجها في منزلهما احتفالاً بخروجه من السجن. يبدأه مخرج الفيلم بصورة بديعة مع مدير تصويره وحيد فريد، بالمعلم عباس يغلق الشباك ثم يستدير جالساً على الكنبة لينظر مبهوراً إلى ظل تحية كاريوكا وهي ترقص على الحائط. يقطع بعدها المخرج على لقطات لتحية وهي ترقص بأسلوبها المميز القائم على السكون لا على الحركة والاهتزازات، ما يضعف الكشف عن المفاتن ويقوي الإيحاء بقوتها وتأثيرها.
المشهد الثاني يأتي بعد أول شجار ينشب بينهما. تترك تحية حجرتها غاضبة فتذهب لتدخن سيجارة تنفس فيها عن غضبها بجوار الشباك. يلحق بها يحي شاهين متململاً، باحثاً عن سيجارة في جيبه فلا يجد. تراه تحية، فتلقي علبة السجائر باتجاهه. يثأر هو لكرامته، فيلقيها عليها على الفور غاضباً. تبتسم تحية، فتقوم متحركة باتجاهه وهي تشعل سيجارة جديدة لزوجها من سيجارتها المشتعلة، وتعطيها له برقة مبدية نية للصلح والصفح. هذا الضعف الذي تبديه أمام زوجها الذي تحبه تسحبه مباشرة عندما يعود إلى الإساءة إليها مرة أخرى. هذه ليست ديدمونة كما رآها شكسبير، بل هي "توحة" كما تمنت تحية كاريوكا أن تكون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعتين??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 22 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون