كانت ومازالت شخصيّة الراقصة الشرقيّة من أهمّ الأنماط التي ارتبطت بالسينما المصريّة منذ بداياتها، وربما يعود الفضل في ذلك لاتجاه كثير من الراقصات إلى العمل في هذا الفنّ الناشئ حينها، فكنّ يظهرن في أدوار لا تمتّ لمهنتهنّ بصلة، أو يظهرن كراقصات في سياق الحكاية، خاصّة في الأفلام الكوميديّة والرومانسيّة الكوميديّة، الغنائيّة منها تحديداً.
ومنذ هذه البدايات ظهرت عدّة محاولات لمعالجة شخصية ممتهنة الرقص الشرقي، كشخصيّة جديرة ببعض الاحترام، واعتبار الرقص الشرقي فنّاً كأي فنّ آخر، لكنها تبقى محاولات طفيفة لا تتعدّى أصابع اليد الواحدة، أما غالبية الأفلام فقد اتجهت إلى قولبة شخصيّة الراقصة كنمطٍ مرفوضٍ اجتماعيّاً، سيء السلوك، وفي أفضل الأحوال، ضحية لظروف اجتماعيّة واقتصاديّة.
كان فيلم (أحب الغلط 1942)، إخراج حسين فوزي وتأليف بديع خيري، محاولة مبكّرة، وربما وحيدة، للانتصار لمهنة الرقص الشرقي، وتقديم الراقصة كفتاةٍ مهذّبةٍ، حسنة السلوك، تحبّ الرقص لأنه فنّ وليس لأنها فتاة منحرفة أو سيئة السمعة، من خلال شخصية بدوية (تحية كاريوكا) التي تلتقي بطبيب شاب، نال شهادته الجامعيّة من الخارج، يساعدها في تحقيق حلمها في امتهان الرقص، وحينما يحاول أن يتزوّجها، يعترض والده الإقطاعي لأنها راقصة، لكنه يقبل في النهاية ويغيّر وجهة نظره عنها.
فيلم (أحب الغلط 1942) محاولة مُبَكّرة، وربما وحيدة، للانتصار لمهنة الرقص الشرقي، وتقديم الراقصة كفتاةٍ مهذّبةٍ، حسنة السلوك، تحبّ الرقص لأنه فنّ وليس لأنها فتاة منحرفة أو سيئة السمعة.
يقول الناقد السينمائي أحمد شوقي، إنه على الرغم من أنَّ السِّينما المصريّة ظلّت لفترة طويلة، تحافظ على وجود الرقص الشرقي، وشخصيّة الراقصة في الغالبيّة العظمى من الأفلام، بشكل يفوق وجودها على أرض الواقع بكثير، إلَّا أنَّ ظُهور الشخصيّة في الدراما ظلّ دائماً يسحب على ممارسي مهنة الرقص سماتٍ سلبيّة، ربما يتعلّق الأمر بما تحتويه مهنة الراقصة من وجودٍ دائمٍ لفكرة الغواية والجاذبيّة الجسديّة، أو لأن السينما تحمل داخلها، بشكل ما، قناعات الطبقة الذي جاء منها صنّاع الأفلام، لكن المهمّ أن الصورة العامة لراقصات الشاشة كانت سلبيّة دائماً، حتى في الحالات التي يروي فيها الفيلمُ قصّةَ حياة راقصة (ككثير من أفلام حسن الإمام)، أو التي تلعب فيه الراقصةُ دوراً إيجابيّاً في الدراما (الهروب مثلاً)، يظلّ ذلك في إطار ما يمكن تسميته "العاهرة الشريفة"، فهي طيّبة القلب، لديها أسبابها لممارسة المهنة وتقوم بأفعال إيجابيّة، لكن كلّ ذلك "على الرغم" من كونها راقصة، أي أن تكوين الشخصية يحمل الإدانة داخله.
مغوية الرجال و "خرّابة بيوت"
في الحقيقة، لا يمكننا أن نلمس تطوّرات كبيرة في شخصية الراقصة، وبمرور الوقت أصبح هناك اتجاه لوضعها في قالب واحد، وهي فتاة الليل المنحرفة، مغوية الرجال و "خرّابة البيوت"، وأيضاً إحدى أفراد العصابات الإجراميّة، وهو نمط ظلّ مستمراً إلى حدّ كبير حتى وقتنا الحالي.
فيقدّم فيلم (الرجل الثاني- 1959) إخراج عز الدين ذو الفقار، الراقصةَ سمرة، التي تعمل مع عصابة لتهريب العملة الصعبة ومتزوّجة من البارمان، في حين أنها عشيقة لرئيس العصابة، الذي لا تُقْدِم على تسليمه للشرطة إلا انتقاماً لكبريائها الجريح ووفاة ابنتها، وفيلم (الإمبراطور-1990- إخراج طارق العريان)، الذي قدّم الراقصة كمدمنة مخدرات، تنقل ولاءها لمن يفوز بزعامة عالم المخدرات.
وفي فيلم (إحنا التلامذة- 1959) إخراج عاطف سالم، عن قصة لنجيب محفوظ، تحتضن الراقصة جمالات ثلاثة شبان يعانون من مشاكل أسريّة، وتشجّعهم على شرب الخمر والتمرّد على عائلاتهم، إلى أن يرتكبوا جريمة قتل في النهاية.
يرى الناقد محمد ماهر بسيوني، أنَّ شخصية الراقصة لم يصبها إلا تطوّر طفيف مع التغيرات الزمنيّة والاجتماعيّة، وإنما غلبت عليها صفات الشرّ وسوء السمعة، وأن الأفلام التي قامت بتقديمها بشكل أكثر إنسانيّة وغير معنية بكونها ضحية أو شيطانة، هي أفلام قليلة جداً، منها على سبيل المثال فيلم (لعبة الست- 1946) إخراج ولي الدين سامح، وتأليف بديع خيري ونجيب الريحاني.
بينما يرى دكتور نادر رفاعي، أن الراقصة كانت تُقَدَّم غالباً في صورة المرأة المغوية، ولم يكن هناك اهتمام برسم تفاصيل شخصيّتها إلا في فترة متأخّرة، وتحديداً في فيلم (الراقصة والسياسي- 1990) إخراج سمير سيف وسيناريو وحيد حامد.
الراقصة كضحية للظروف الاجتماعيّة
يُعَدّ المخرج حسن الإمام صاحب الرصيد الأكبر في تاريخ السينما المصريّة، في عدد الأفلام التي تناولت شخصية الراقصة الشرقيّة، وقد أعدّ الإمام قالباً واحداً صبَّ فيه جميع بطلاته، حتى وهو يقدّم السير الذاتيّة، الخاصّة براقصات كنّ مشهورات في زمنهنّ، فقدّم الرقص الشرقي كمهنة منحطّة، مساوية لبائعات الهوى، بطلاته لا يلجأن إليها إلا بسبب أزمات اجتماعيّة أو اقتصاديّة، أو بسبب غدر الرجال، أو إغراءات المال أو الطيش.
ففي فيلم (شفيقة القبطيّة- 1963)، تقدّم هند رستم شخصية شفيقة، التي تضطرّها الظروف للهرب من بيت أهلها، تاركةً طفلها الوحيد لتعمل راقصة، ويذيع صيتها وتصبح نجمة معروفة وعشيقة لأحد الوزراء، وحينما يقوم هذا الوزير بقهر ابنها، تنتقم منه بفضحه أمام زوجته، وفي (خلّي بالك من زوزو- 1972) يقدّم زينب (سعاد حسني)، الفتاة الجامعيّة، ضحيّة بنوّتها لراقصة في شارع محمد علي، والتي كان عليها أن تساعد والدتها التي كبرت في السن، وتحلّ محلّها في الفرقة كراقصة، لأن هذا هو عملهنّ الوحيد ومصدر رزقهنّ الذي لا يعرفن غيره، وفي فيلم (ليال- 1982) يقدّم شخصية نعيمة، التي تهرب من زوج أمها ويغدر بها حبيبها، فتضطر لامتهان الرقص، وتتلقّفها أيدي المستغِلّين من الرجال، إلى أن تنتهي حياتها نهاية مأساويّة.
السينما المصرية قَدَّمَت أفلاماً تعكس ثقافة الجمهور، لذا عرض المخرجون أفلاماً تُظهر الراقصات بشكل "رخيص"
يقول محمد ماهر إن حسن الإمام هو النموذج الأوضح للفنان الذي يمتثل للتيار الأشدّ محافظةً وتخلّفاً في المجتمع المصري، لكونه يمثّل القوّة الشرائيّة، فهو جمهور أفلامه في ذلك الوقت، وهو التيار الذي ينظر للراقصة بمزيج من الانبهار والاحتقار، والذي لا يمكنه أن يتعاطف معها إلا إذا كانت مضطرّة لذلك، في حين يرى نادر رفاعي أن الإمام كان هدفه الأساسي، تقديم أفلام ناجحة تجارياً، وكان تقديمه للرقص الشرقي بغرض عرض جسد المرأة كسلعة للجمهور، للحصول على مزيد من الإيرادات.
الراقصة بين السياسي والطبال
لا يمكننا أن نتحدّث عن شخصية الراقصة دون أن نقف أمام أهمّ فيلمين قاما بمعالجة شخصيتها وتوظيفها درامياً، في أفلام تقوم بعمل تحليل وتشريح للمجتمع، وهما فيلما (الراقصة والطبّال- 1984)، إخراج أشرف فهمي وسيناريو مصطفى محرم، و(الراقصة والسياسي- 1990) إخراج سمير سيف وسيناريو وحيد حامد، وكلاهما بطولة نبيلة عبيد.
في الراقصة والطبّال، يتمّ تقديم شخصية الراقصة "مباهج"، كفتاة ريفيّة مكافحة، تعمل راقصة لتَعُوْلَ أسرتها المكوّنة من أختها وأولادها وزوجها المستغلّ، بينما هي لا تأمل من الحياة سوى الزواج والإنجاب، تلتقي بعبده الطبّال، خرّيج معهد الموسيقى، والذي يعلّمها الرقص لتمتهنه كفنّ، عموده الفقري هو طبلته، بينما هي لا تهتمّ سوى بزواجها منه، وحينما يرفض من أجل فنّه تهجره من أجل المال والشهرة.
تقول الناقدة رشا حسني، إن الفيلم كان يهدف من استخدام شخصية الراقصة، إلى مناقشة الانحدار الثقافي والاجتماعي الذي أصاب مصر في عصر الانفتاح، والتحوّلات الشديدة في البنية الطبقيّة، فأصبح الذين يشاهدون الرقص الشرقي هم طبقة الأغنياء الجدد، أمثال هريدي أبو الهدد، الذين لا يهمّهم ولا يشغلهم فن عبده وإنما جسد مباهج.
أما فيلم الراقصة والسياسي، فهو يناقش بُعْدَاً آخر من علاقة الراقصة بالمجتمع، وهو الراقصة كمواطنة، لها حقوق كما عليها من واجبات، وأنه لا يجب نبذها والتعامل معها بعنصريّة لكونها تعمل بمهنة منبوذة اجتماعياً، فيقدّم الفيلم شخصية "سونية" الراقصة المعروفة، التي تمتنع الدولة عن منحها ترخيص إقامة ملجأ للأيتام.
تعتبر رشا حسني هذا الفيلم نقداً لطبقة الحكّام، الذين يحرصون على تواجد الراقصة في حفلاتهم من أجل الترفيه عنهم، سواء بالرقص أو بالتنمّر عليها واستغلالها أحياناً أخرى، ومع ذلك يتنصّلون منها إذا احتاجت إليهم، كما يمثّل نقداً للدولة التي تستبيح أخذ الضرائب من الراقصة لكن لا تمنحها الحق في إقامة عمل خيري، لأنها موصومة بمهنتها.
أيهما الأكثر تأثيراً السينما أم المجتمع؟
لا شكّ أن هناك على أرض الواقع من الراقصات، من اتجهن لاحتراف هذه المهنة حبّاً بهذا الفن، ومنهنّ خرّيجات جامعات، ومن طبقات اجتماعيّة مختلفة عن الطبقة التي تُقدّمها لنا شاشات السينما، ومع ذلك لم تتمّ معالجة مثل هذه النماذج درامياً في الأفلام المصريّة.
المجتمع المصري خائف من تقديم الراقصة كفتاة محترمة، مُحِبَّة لهذا الفنّ، وأبرز المحاولات لذلك فيلم "الدكتورة منال ترقص".
يقول محمد ماهر إن السبب في ذلك، هو الخوف من عدم تقّبل المجتمع لهذه القراءة للواقع، وسوف يعتبرها دعايةً مقنّعةً أو تشجيعاً لخرّيجات الجامعة على امتهان الرقص الشرقي، ومع ذلك هناك فيلم للمخرج سعيد مرزوق وهو (الدكتورة منال ترقص- 1991) قدّم شخصية الراقصة المتعلّمة التي تنتمي إلى طبقة اجتماعيّة مختلفة.
بينما يرى أحمد شوقي أن تقديم حكاية حياة راقصة أتت من خلفيّة مختلفة، فهو أمر شبه مستبعد داخل السياق الحالي للسينما المصريّة، والذي يرتبط بشكلٍ واضحٍ برغبات الجمهور فيما يشاهده على الشاشة، والمرتبط بدوره بثقافة هذا الجمهور، وأحكامه الأخلاقيّة الجاهزة، بصورة تجعل من العسير أن تكون الراقصة شخصيّةً رئيسيّةً في الفيلم أصلاً، قبل التفكير في كون هذه الشخصيّة مُقدّمة بشكل إيجابي أو سلبي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت