كنت أجلس على سطح منزلي بمفردي كل إجازة، تحاوطني أوراق وأقلام ملونة. أنظر إلى الشارع والحقول أمامي يلعب فيها الأطفال سوياً، أما أنا فأحاول أن أملأ هذه الصفحات البيضاء بالرسوم والكلمات، لا أترك مساحة فارغة.
كانت في البداية مجرّد شخبطة لا معنى لها، ثم تشكّلت وظهرت ملامحها، وكانت أول محاولة لرسم شخصيات فيلم "أحلى الأوقات". كان عمري حينها 8 سنوات، ممنوعة من اللعب، من الخروج، من الصداقات، حياتي ليس بها شيء غير شاشة التلفاز وما تعرضه من أفلام ومسلسلات.
عادت سلمى في الفيلم تبحث عمّن يرسل لها صور أيام المراهقة وأغنيات محمد منير، فوجدت أنها خسرت كنزاً مهماً. صديقاتها يسرية وضحى، ورغم اختلاف حيواتهن، إلا أنهن اندمجن سريعاً، تماهين في مشكلتها البسيطة وكأنها ذريعة، تجمعن حولها لكي يرجعن لحظاتهن سوياً، وتلك اللحظات هي من جعلتني أجلس باكيةً ذات مساء لأني ليس لدي ضحى ويسرية، وأنني عندما أكبر لن أجد صورة لي مع صديقات، ولن أجلس معهن أتذكر حكاياتنا سوياً، لن يكون هناك شيء أذكره، ولكن قرّرت خلق الذكريات بشكل آخر، أن أصادق هؤلاء، أن أعيش لحظات معهن وأتخيل وجودي معهن وتصرفاتي، لكي أجد ذكريات أحكيها عندما أكون في عمر هؤلاء البطلات.
كان مفتش الإدارة التعليمية أو المعلّم يقدر ويحترم باقي زميلاتي أكثر مني لأنهن يجدن قراءة القرآن وبعضهن ختمنه أكثر من مرة، لذلك زادت عزلتي وأصبحت في المرحلة الإعدادية وما تلاها داخل قوقعة مع ذاتي وشاشة التلفاز
كنت الطفلة الوحيدة
بالرغم من كوني طفلة وحيدة، ولكن لم تجذبني أبداً علاقات الأخوّة على الشاشة، على عكس علاقات الصداقة التي كانت تجذب نظري منذ مراحل مبكرة في طفولتي. كنت أرى أن الذكر سوف يسحب مني كافة مميزاتي، بل ويكون المسيطر على حياتي، بحسب ما رأيت في بيئتي الصعيدية حينها، لذلك كان دائماً داخلي يرفض فكرة وجود أخ ذكر.
لا أريد أن يستبيح أحد أشيائي وألعابي ويحصل على مميزات أكثر مني ويضربني وقتما يشاء، أعلم أن أبي وأمي مختلفان كلياً عن باقي الأسرة، وإلا لما سمحا لي بالاستقلال بمفردي في القاهرة منذ أكثر من 5 سنوات، ولكن في صغري كان القلق يأكل رأسي خوفاً مما يفعله باقي الصبية مع أخواتهن، وحمدت الله على أبي الذي لم يكن مثل هؤلاء الآباء غلاظ القلوب، وأمي التي جعلتني أحب الأفلام، بل أتوحّد معها أحياناً وأعيش فيها ما فقدته في حياتي الطبيعية.
ربما فعلت ذلك لتعوّضني عن حرمانها لي من كل شيء خارج باب المنزل، خوفاً من أن أصاب بمكروه. لم ألعب، لم ألوّث ملابسي، لم آكل من شجرة التوت بجوار المدرسة ولم أتسكّع في الشوارع بغزل البنات في يدي مثل باقي البنات. كانت تمنع عني كل شيء غير صحي ومضرّ برأيها، ولكنها جعلتني على مقربة من ذلك العالم السحري المليء بالحكايات والقصص.
كانت أول قصة صداقة انغمست فيها بوجداني مع والدتي قبل فيلم "أحلى الأوقات"، علاقة فاتن ووصال في مسلسل "أين قلبي" (لعب الدورين يسرا وعبلة كامل) أحببت هذه العلاقة الممتدة المتينة. شعرت أني أريد مثلها، وأعتقد أن أمي أيضاً كانت تشاركني نفس الشعور، فهي مثلي لم يكن لديها صديقات، وكان في مخيلتي الصغيرة حينها أنني لن أكون مثل أمي، سوف يكون لدي صديقات كثيرات، نعيش لحظات كثيرة معاً، ونلعب في فناء المدرسة، وعندما نكبر سوف نحكي عن خطابات زملائنا في المدرسة لنا، وتفكيرنا فيهم طول الليل.
كانت قصص المسلسلات والأفلام تسيطر على عقلي تماماً، وأعرف أني سوف أمر بهذه المراحل مثل بطلات الأفلام التي أحببتها، وكنت أتمنى أن يكون لي صديقة أحكي لها هذا طول الليل في الهاتف أو في صباح كل يوم في المدرسة، ولكن ليست كل الأحلام تتحقق.
لماذا لم يحبوا الفن مثلي
مرّت أيام الطفولة سريعة، وظلت الأفلام هي الصديق الأوفى، أعيش معها لحظات المرح والحب والعبث، ففي "بنات وسط البلد" أعجبت بلعبة تبديل الأدوار بين جومانا وياسمين (منة شلبي وهند صبري)، وعشقت قبلة سمير (خالد أبوالنجا) لياسمين وتمنيت مثيلتها، وعلق في ذهني رقص الفتاتين في "الكوافير" بمرح وأنوثة وحرية.
واستقبلت مرحلة المراهقة وما زلت أقف في شباك منزلي أشاهد الأطفال يلعبون دون أن أشاركهم، وما زلت أذهب للمدرسة صباحاً بمفردي دون أن أمارس الطقس اليومي للفتيات في المرور على منازل بعضهن البعض والتحرّك سوياً، وأصبح كل شيء ملوّناً بلون الوحدة، لا أحد معي تماماً، فلم استطع تكوين أصدقاء في مرحلة الطفولة، كانوا مجرّد زميلات لم تستمر علاقتنا طويلاً، فقد تزوجن مبكراً جداً، ما بين المرحلة الإعدادية والثانوية، وأصبحت ألوم نفسي: هل أنا السبب لأني لم أختر صديقات يمكنهن الاستمرار في التعليم بدلاً من الزواج، أم أن المشكلة ليست فيّ من الأساس، فقد حاولت التقرب كثيراً لفتيات أخريات ولكن دائماً الفجوة كانت أوسع من أن أقلص مساحتها، وكانت الفجوة سببها الأفلام أيضاً أو الفن عموماً؟
كان دائماً داخلي يرفض فكرة وجود أخ ذكر. لا أريد أن يستبيح أحد أشيائي وألعابي ويحصل على مميزات أكثر مني ويضربني وقتما يشاء
كنت أعشق عبدالحليم حافظ وكان صديقي الوحيد، وذلك أيضاً استوحيته من فيلم، عندما شاهدت "زوجة رجل مهم" ورأيت شخصية منى (ليس لديها صديقات ولكن لديها أشرطة كاسيت عبد الحليم) أعجبت بالفكرة واتخذت منه صديقاً، وبدأت أكتب كل أغانيه على ظهر كرّاساتي، وذلك سبّب لي مشكلة مع المعلمين في المدرسة، خاصة المتحفظين منهم، حيث أخبرني أحدهم أنني لن أدخل الجنة لأني أحب شخصاً هو في النار حالياً لأنه مغنّي.
أخبرني أحدهم أنني لن أدخل الجنة لأني أحب شخصاً هو في النار حالياً لأنه مغنّي
لم يكن حبي لعبد الحليم السبب الوحيد، كان الحديث عن الأفلام والمسرحيات جزءاً من حياتي، بينما الأخريات كن يجدن قراءة القرآن بأحكام وتجويد مختلف، ولم ينتج عن ذلك وحدة على مستوى الفشل في تكوين صداقات، وإنما أيضاً داخل الفصل. كان مفتش الإدارة التعليمية أو المعلّم يقدر ويحترم باقي زميلاتي أكثر مني لأنهن يجدن قراءة القرآن وبعضهن ختمنه أكثر من مرة، لذلك زادت عزلتي وأصبحت في المرحلة الإعدادية وما تلاها داخل قوقعة مع ذاتي وشاشة التلفاز، حينها لم يكن بمقدوري الذهاب إلى السينما، لأني كنت أعيش في قرية صغيرة في صعيد مصر.
وكلما انغمست في وحدتي كلما زاد تعلقي بعلاقة الصداقة التي أراها على الشاشة، وأحياناً كنت لا أركّز في الفيلم نفسه ولكن أركز فقط على هذه الثنائية، وذلك حدث معي أثناء مشاهدتي أول مرة لفيلم "الحياة منتهى اللذة"، ولم أشاهده في نفس العام الذي عرض فيه 2005، لكن وأنا في المرحلة الثانوية، برغم أن قصة الفيلم تحكي عن علاقة البطلة حنان ترك، بوالدها وتأثير رحيله عليها، لكني وقعت في غرام جزء آخر من شخصيتها، وهو علاقتها بصديقتها كيف كانت تستمع لها وتشعر بها وتحتضنها وتقسو عليها أحياناً ثم تعود وتضمّها، وعندما انفصلت عن زوجها أقامت معها في المنزل، لم تتركها في لحظات حزنها بل بذلت قصارى جهدها لكي تقنع طليق صديقتها بالعودة مرة أخرى، وتمنيت أن يكون لي حبيب وصديقة تشاركنا لحظات خصامنا وسعادتنا مثل حنان.
هل أخطأت من البداية عندما بحثت عن علاقة تشبه ما رأيت في الأفلام، أم أن الأفلام هي الشيء الأجمل الذي أنقذني طيلة السنوات الماضية، ومازال ينقذني في كل لحظات الوحدة والصمت وفقدان الأمان؟
هل كنت أنا السبب في وحدتي
إن مرور مشهد صداقة واحد أمامي على الشاشة كان كفيلاً أن يجعلني أنهار بالبكاء، مثلما حدث وأنا أشاهد علاقة الصداقة بين هند صبري وحنان مطاوع في مسلسل "حلاوة الدنيا". اختارت البطلة عند معرفتها بمرضها ألا تحكي لوالدتها أو أختها بل اختارت صديقتها الوحيدة، وردّ فعلها وبكاؤها مازالا يجعلان الدموع تغزو جفوني حتى الآن، لأنها تجعلني أشعر بمدى الفقد الكبير في حياتي، شخص يشاركني آلامي، على الرغم أن فترة عرض مسلسل "حلاوة الدنيا" كنت قد أصبحت فتاة جامعية، ولكن هذا لم يصلح مشاعري، فقد تدهور الأمر ولم يتحسّن، لأنني تحت وطأة البحث عن صداقة بأي شكل قبلت بصداقات لم تكن يوماً مريحة أو ملائمة لأفكاري ووجهة نظري في الحياة، وكنت دائماً محلّ انتقاد منهن بسبب شخصيتي التي وصفت حينها بـ "المتحرّرة"، ولكن كنت أتجاهل الضغط الذي يُمارس لكي أتخلى عن شخصيتي، وأحاول التمسّك بهم وبحياتي الشخصية واختياراتي أيضاً، ولكن في النهاية فشلت، وعندما كان يراودني حلم الصداقة الذي تكوّن داخلي ولم يتحقق يوماً في أي شخص التقيته، كنت أهرب إلى الشاشة وأشاهد فيلماً أو مسلسلاً، وأتتبع العلاقات فيه حتى أرى أي مشهد فيه احتواء أو حب بين اثنين أصدقاء.
حتى عندما اعتقدت أني وجدت العلاقة المثالية للصداقة بعد بحث وسنوات طويلة، وجدتني غير متناغمة بالدرجة الكافية معهن، تغيراتهن وقراراتهن كانت تبدو أقوى من قراراتي دائماً مما كان يصيبني بالإحباط من نفسي، وبناء تصورات غير حقيقية عن ذاتي وعنهن، ونسيت، أو تناسيت، أن لكل إنسان نقاط ضغط، وليس كل ما يظهره المرء حقيقة كامنة بداخله ولكنها ربما ادعاء أو قناع يرتديه، وظلت المشكلة الأكبر هي فقدان الأمان.
لم أر أبداً على الشاشة من الشخصيات التي تتبعتهن واحدة تقول للأخرى عبارات مثل "سوف أتركك، صداقتنا يوماً ما ستزول، هكذا الحياة لا أحد مستمر"، ولكن في علاقتي بهن كان هذا المعنى واضحاً جلياً بيننا طول الوقت، ورغم أني لا أنكر حقيقة تقلب الحياة لكن لم أكن احتاج إلى التذكير الدائم به، وعلى الرغم من حبي الشديد لهن، إلا أنني فقدت الواحدة تلو الأخرى. كن أعقد مما أظن وحياتهن ليست عادية، بل مليئة بالأحداث الصعبة وأحياناً الكوارث التي زادت من مشكلاهن النفسية وانعكست على تصرفاتهن مع من حولهن.
وأعود مرة أخرى لإلقاء اللوم على ذاتي وسؤالها: هل كانت غلطة كبرى عندما توحّدت مع شخصيات درامية كي أملأ حياتي بالصديقات الوهميات؟ هل أخطأت من البداية عندما بحثت عن علاقة تشبه ما رأيت في الأفلام، أم أن الأفلام هي الشيء الأجمل الذي أنقذني طيلة السنوات الماضية، ومازال ينقذني في كل لحظات الوحدة والصمت وفقدان الأمان؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع