شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
عندما انتقلتُ من حياتي الفرديةِ إلى حياتي الزَّوجية

عندما انتقلتُ من حياتي الفرديةِ إلى حياتي الزَّوجية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 2 ديسمبر 202311:16 ص


 


العتبة.. ولمَ لا تقول الباب؟

يعودُ الكاتب الفرنسي بول كلوديل إلى منزله في اليابان ذات يوم، حيث مثّل بلده دبلوماسياً، فيجد منزله في طوكيو محترقاً .

يفكر الكاتب بمكتبته، فهي مليئة بالصور والمخطوطات والأوسمة، ثم فجأة، عبر دخان الحديقة، يخرج الخادم مختنقاً ويصرخ: "لا تقلقْ سيدي لقد أنقذتُ أهم شيء في البيت، ولعلّه الشيء الوحيد ذو القيمة". وما كان ذلك الشيء إلا بدلته التشريفية كدبلوماسي!

هل كانت تلك الحكاية طرفة أو واقعة حقيقية. لنقل إنها طرفة حقيقية جسّدت تفكيرين سطحيين: ما الأهم، البدلة أم القصيدة ؟

سأعود لاحقاً إلى تلك الحكاية، ولاحقاً قد تعني بعد سنة أو بعد ربع قرنٍ، عندما أكون قد قرأت بول كلوديل فعلاً.

في البداية، يكون القمر مدوراً

يغمر القمر نهاية العالم، يلتئم مع آخر شجرة فيه، تُزال أيدي البشر من أكتافي بآلة جارفة، فتواجهني حياتان، طالما اعتقدت أنني مطالب بأن أكتب عنهما، وهما لن يكونا حياتين فحسب، إذ ستتفرّع كلّ حياةٍ منهما إلى حيوات عدة، ولعلّ المرء لا يعيش إلا ليحصي حيواته.

إنه الشاعر ولا أحد غيره، هو الذي قرّر بين ليلة و أخرى أن يوقعَ نفسه بغرام غير محسوب بدقة، مدفوعاً بقوة شائعة أوهمته بأن الحب سيجعل قصائده أفضل، وبأنه سيكون ذات يوم عبرةً لشعراء صغار... مجاز

المؤسف في الأمر أن الكاتب فيّ يتصرفُ كموظف، والموظف فيّ يتصرف ككاتب، وأنا أتفرجُ ببسالةٍ محاولاً أن أجد حلولاً للأمر، فأعمدُ إلى قراءة السير والحوارات. كتاب كثر تصالحوا مع أنفسهم، حتى أن فكرة التصالح مع النفس ذاتها بدت لي مبتذلة، لأنها فكرة مرصوفة على أساس رملي مفضوح، فما الذات، وما التصالح، ولمَ على البشريّ الشهي، الطامح، المتذبذب، الكريم ،النذل، الروحاني، الهمجي، أن يتصالح مع شبح يعتقد جزافاً أنه قد يعود له؟

الإخفاق كان يتجلى في العلاقة الغرامية لا في التفكير والسلوك، أعني أني كنتُ أسلّي الإنسان الخاسر فيّ بإنسانٍ رابح، هو الشاعر الذي سيكون له شأن ذات يوم، ظاناً أن المرء يمكن أن يكون ذات يوم محبوباً من الجميع، محبوب بمعنى أنه معصوم من الخذلان والأذى والأسى.

لقد عشتُ في بداياتي قصة حب ذهبية، لم تكن خالية من اللحظات الرومانسية الطفيفة، إلا أنها لم تكن آمنة، فقد كان الحبُّ مع بداية الاقتتال الطائفي في العراق " 2008/2007" ضرباً من المخاطرة، وما كان هناك موضعٌ صحّي للقاء للعشاق أكثر من المقابر وأضرحة الأئمة والمستشفيات وعيادات الأطباء.

شخصياً، كانت عيادة أطباء الأسنان الأكثر انسجاماً مع رؤيتي الرومانسية، ولم أبحث عن السبب حتى الآن، وإن بدا أن بإمكاني تعليله بالهدوء النسبي والحالات الأقل بشاعة، مقارنة بأطباء المفاصل والمجاري البولية وغيرهم.

كانت له حياتان طويلتان

أقول إنّ لدي حياتين، ويقول الجميعُ ذلك، لكني ألمس حياتيّ بيدي حقاً، وأعرف أن هذا هو الشاعر وهذا هو الكادح، هذا هو الطفل المولود في المدينة، وهذا هو الصبي الذي ترعرع في مزابل القرى.

أزعم أني نبيل إلى حد كبير، لكني لا أنكر قبائحي، لدي طاقة كره بدت تطفح مع فيسبوك، حد أني أحياناً لا أتفاعل مع موت أحد لا أعرفه، ولا أقف دقيقة مع أي حالة مرضية تحتاج للعناية الإلهية، وأجد نفسي ملزماً بتجاوز تلك التوافه، فالناس سيموتون في أي وقت، مصادفةً كما تعطل الأجهزة الكهربائية، والآلهة لا تساعد أي أحد، لأنها موجودة لكي تتفرّج فحسب، مثلها مثل الأنظمة العالمية الكبرى.

أسأل دوماً: هل ستتابعُ المنظمات الإنسانية كل حالة جوع في أقصى مدن العالم؟!

حياتاي طويلتان بما أني أعيش وأستهلكهما، أما حين يفاجئني الموت على سرير بارد، فأعرف حينها أن حياة الإنسان أقصر بقليلٍ من حياة الشاعر.

بداية التواطؤ

في الوظيفة، وجدتُ المكتب يناقضُ تعريفه، الصباح ليس كما كنت أعهدُ، ينفلت من بين يدي دون أن ألاحظ أني أضيّع الوقت دون استمتاعٍ واعٍ.

وبالفعل كنت، كإنسان، غير راض عما يحدثُ، وكشاعر، متواطئاً مع الأمر، حتى وإن بدوتُ معارضاً لضياع وقتٍ شاغر بقراءة كتب لافتة أو تصفحها، فالمرء مع مرور الزمن يتحوّل من قارئ إلى متصفّح، من راءٍ إلى متفرّج، من فاعل إلى متفاعل. وهكذا تتحول حياة الشاعر، من حماس و طموح إلى تزجية وتأقلم، من نقمة وثورة إلى إحباط وغضب باهت، فيما تنقلب حياة المرء من حياة فردية إلى حياة زوجية.

غالباً ما نقع في الحب ليتاح لنا الحديث عن أننا وقعنا لا عن أننا أحببنا

ولعلي سألتُ نفسي أكثر من مرة: مَن الذي أحبَّ حتى اضطر لأن يرتكب حماقات؟ من الذي تزوّجَ  ليكفر عن حماقاته؟ - يا للهولِ مع فتح الفم-  مَن الذي شاهد ميتات رفاقه؟ مَن الذي تجاوز الشجون بتجاهلها؟

إنه الشاعر ولا أحد غيره، هو الذي قرّر بين ليلة و أخرى أن يوقعَ نفسه بغرام غير محسوب بدقة، مدفوعاً بقوة شائعة أوهمته بأن الحب سيجعل قصائده أفضل، وبأنه سيكون ذات يوم عبرةً لشعراء صغار.

غالباً ما نقع في الحب ليتاح لنا الحديث عن أننا وقعنا لا عن أننا أحببنا، و نجد الحب سبيلاً لاختبار صلاحية مشاعرنا ومقدرة قلوبنا على النسيان أو التذكر، غالباً نحب لنختبر كراهيتنا، وهو الأمر الذي تطول معالجته. هل بالفعل بوسعنا أن نكره المحبوب أو أننا تتوهم ذلك؟ هل أجاب بول كلوديل عن ذلك مثلاً؟

عشتُ لأتزوج

إن هذا الفعل الاجتماعي هو الفعل الأصدق تعبيراً عن حياتي، حتى لو جاء متبوعاً بثنائية السعادة والبؤس، مع أهمية السؤال بالنسبة لأناس يفكرون بالزواج من أجل أن نضعهم على بينة من أمرهم.

أقول إنّ لدي حياتين، ويقول الجميعُ ذلك، لكني ألمس حياتيّ بيدي حقاً، وأعرف أن هذا هو الشاعر وهذا هو الكادح، هذا هو الطفل المولود في المدينة، وهذا هو الصبي الذي ترعرع في مزابل القرى... مجاز

هل سأعيش سعيداً إن تزوجتُ؟ هذا ما يواجهني من قبل رفاق عزاب يعزّ علي أن أخبرهم بمساوئ الزواج، فيظلون عزاباً. ذلك أني أرى الزواج مأساة اجتماعية وأرغبُ بأن يتشارك الجميع حملها، ولطالما سألني صديق أعزب عما يعكّر مزاجي، فأجيبه بما أنك لم تتزوج، فلن تعي ما سأقوله.

وإذا أعدنا مقود الحديث للشاعر والإنسان، الحياتان اللتان أحاول استهلاكهما بقدر معقول، فبوسعي القول إن الزواج ردم الهوة بينهما، فأنا الشاعر المتزوج، أو أنا الموظف المتزوج، أو أنا الشبح المتزوج. كل تلك التسميات لا تغير من حقيقة أن الزواج وضعني بمواجهة الزمن، جعلني زواجي أباً وأماً وأخاً ورفيقاً، خليلاً وعدواً، جعلني أشد حساسية وأقل نفوراً.

والحال إنه أقنعني بأنها واحدة ووحيدة، حتى إذا شطرتنا إلى نموذجين متغايرين فإنها لا تعدمنا في أي مرحلة من مراحلها فرصة التعلمِ، وليس من الغريب أن يتعلم الشاعر فيّ من حياة الإنسان، ويستضيء الإنسان فيّ بظلال الشاعر، ثم أن النهاية تلوحُ شاخصةً:

تتطاير حيوات كثر أمام أنظار المرء، حيوات عالية حدّ أنه لا يستطيع أن يلمسُ لذته وموته وموهبته إلا في حياته الدنيا. إنها حياته الأخيرة بما أنه يعيشها للمرة الأولى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image