"أيّ فرحٍ أن نكون سعاة بريدهم؟"؛ هذا ما عنون به الشاعر فراس سليمان، مقدّمة كتاب، بل دفتر حسب تسمية الناشر "محترف أوكسجين"، "صناديق بريد منسيّة"، الصادر ضمن سلسلة دفاتر أوكسجين، وضمّ مجموعة نصوص لعدد من اليافعين السوريين المقيمين في مخيم الزعتري في الأردن، قام بإعدادها وتحريرها من خلال ورشة إبداعية أقامها في المخيم بالشراكة مع الشاعرين محمد النعيمات وأمجد محمد الفرحان، بتمويل من منظّمة Catalyst Foundation، التي تدعم البرامج التعليمية للشبّان النازحين، وقامت بترجمتها الأكاديمية الأمريكية إيميلي دوتري.
القصّة في الواقع ليست قصّة فرح فحسب، إنّما هي قصّة نبل، إذ إنّ فكرة إقامة ورشة إبداعية للنبش عن جمال قابع في أرواح أولئك الأطفال واليافعين الذين ظلمتهم الحرب وقذفت بهم إلى ذلك المكان اللا مكان، وإيصاله إلى العالم بأسره، هي شيء أشبه بضرب من الخيال بالنسبة لنا كقراء. فكيف إذاً بالنسبة إلى اليافعين أنفسهم؟ ما أحوج العالم العربي إلى مثل هذه المبادرات المحتضنة، سواءً من قبل مثقفين أو دور نشر.
القصّة في الواقع ليست قصّة فرح فحسب، إنّما هي قصّة نبل، إذ إنّ فكرة إقامة ورشة إبداعية للنبش عن جمال قابع في أرواح أولئك الأطفال واليافعين الذين ظلمتهم الحرب وقذفت بهم إلى ذلك المكان اللا مكان
تعجُّ هذه النصوص المقتضبة شكلاً والمتفجّرة مضموناً، بمفردات تشي بالتلاشي والعدم، وتنتمي إلى الحقول الدلالية المتعلّقة بالبياض والفراغ والعمى والذكريات وفقدان الذاكرة. تقول صفا مجاريش في نصّ "ذاكرة الأعمى":
"أشتري لوحةً فارغةً
ألوّنها بالأبيض
وأكتب في أسفلها
رسمتُ لكم شكلي الدّاخلي".
أما براءة الكفري، فتقول:
"كيف سيرى الأعمى
لو لم يكن هنالك جدران
تستدلُّ بها يداه؟".
فكأنّها تقول إنّ من ترك أرضه ونزح، هو أشبه بالأعمى الذي يريد الاستدلال على طريقٍ ما بجدار، لكنّه لا يجده، إذ لا جدران في مخيّمات اللجوء. وغياب الجدران ما هو إلا كناية عن فقدان الأمان الصارخ الحضور في نصوص المجموعة.
نتوقّف أمام نصّ "مجرّد دمية"، لدعاء مجاريش، دون أن نجرؤ حتّى على إعلان ذهولنا، فأيّ شعور قد ينتابنا هو ترف، مقابل إحساس هذه الشابّة التي يحار معها المسدّس الذي أطلق النار عليها كيف لم تشعر بطلقته:
"أردتُ الاستدارة ورؤيةَ قاتلي
لكنْ لا فائدة
إنّني لا أشعر بأنفاسِ أحدٍ من ورائي
دوّى صوتُ رصاصةٍ اخترقت رأسي
ميتةٌ تحت زخّات مطرٍ
كأنّها خيوطٌ لتحريكِ الدّمى
تكافحُ لإيقاظي
لكنّني مجرّد دميةٍ سئمت الحركة".
إنّها حياة النازح بأبسط تعريف وأقساه. تلك الدمية التي لا تتحرّك هي نفسها ذاك "الظلّ الثقيل" عند هاجر حسين:
"ظلٌّ ثقيلٌ لا يتحرّك".
وكذلك "حارسة القمر"، عند ملك إسماعيل التي تقول:
"جامدةٌ كالحجر أمام نافذتي
صامتةٌ كالقبر
أتأمّلُ القمرَ وكأنّي أحرسُه".
شللٌ يكبّل الأجساد والنّفوس، لكنّه لا يستطيع تكبيل القلوب، فتظلّ خافقةً بمحاولات التحليق خارج المسافات الخانقة الفاصلة بين الكرافانات.
كثيراً ما يحضر فعل الطيران في المجموعة؛ ها هي نور الحريري مثلاً تترك نفسها للطيران بين الحاضر والمستقبل:
"وها أنا أخرجُ الآن من جسدي
كما تخرجُ الفراشة من الشرنقة
وها أنا أطيرُ
متنقّلةً بين الحاضر والمستقبل".
تكاد صفحات المجموعة تمطر لكثرة حضور مفردات الغيم والسّحب والمطر فيها مثل "بلل الغيوم الحزينة"، "غيمة عابرة"، "المطر الحارق" و"الغيمة: ستارة السماء"... وكأنّ هؤلاء الأطفال يريدون أن يغسلوا آلام أنفسهم بمطر ذلك السحاب ويروون تشققَ أرواحهم.
وفي خضمّ زخم المفردات المحمّلة بأشد المعاني وجعاً، يحضر شعاع الوطن المفقود متوهّجاً في أرواحهم، وإذا بهم يبثّون في نصوصهم حبّهم له.
واللافت أنّه حين يحضر الفرح، فإنّه يحضر على سبيل الخيال أو الحلم. تقول عهود الفرحان، في نصّ "غرفتي":
"فتحتُ بابها ودخلت
رأيتُ طفولتي مرسومةً على الجدران
رأيتُ أمّي تنظرُ من السقف
وتضحك لي بوجهها الجميل
وتلك دميتي
صاحبة أسراري
ودفاتري المدرسيّة
وخزانة ملابسي
وسريري الذي أسارع إليه فأغفو
ثمّ سرعان ما أستيقظ مرعوبةً
فأجد أنني ما زلتُ في خيمةِ لجوء".
فالحزن هو العنصر الثابت في واقعهم، وكل ما يناقضه هو محض حلم أو خيال.
أمّا حين يتواجد مَن يلقي التحيّة ويكسر وحدة النازح، فلا يكون سوى شبح. تقول نور الحريري:
"كما أحلم بأشباح رقيقين
مهذّبين، جميلين
يحلّقون في غرفتي
قائلين لي: ليلة سعيدة".
لذا كان لا بدّ لهم في هذا المخيّم الذي يضيق بأحلامهم، أن يحاولوا إيجاد نوافذ على عوالم أرحب، وإن في الخيال. يقول إسلام مجاريش، في نصّه "سفر":
"ولو كانت الكرة الأرضية صغيرةً لاستطعت حملها
واللّعب بها
يا إلهي كم سيكون الأمر رائعاً
يا إلهي أبقِ خيالي كي أبقى على سفر".
أمّا بتول داغر، فتبحر في مكتبتها التي تراها بحراً يهبها الدّرر.
وملخّص القول، لا يملك أطفال مخيّم الزّعتري سوى ذاكرتهم وأحلامهم ليتكئوا عليها، وهو ما يعبّر عنه محمد أبو جيش في نصّه "متشبّثاً بالماء"، الذي يلامس فيه فكرة الاتكاء على الذاكرة بحساسية عالية:
"متشبّثاً بالماء
وبعد أن قذفتني عواصف الحرب
استيقظتُ على حافّة الحياة
أقفُ
كلّ يومٍ وأهوي
فأعودُ وأتسلّقها
حتّى إذا وصلتُ قمّتها
أمعنتُ النّظرَ بالبحرِ
فأقفزُ
حاملاً معي بعض الذكريات
لكي تنقذني من الغرق".
وفي نصّ "والداي"، تكتب سدين الحريري، مخاطبةً والديها لتطمئنهما بسخرية سوداء عن كونها لا تزال بخير طالما أنها تملك ذاكرةً، بالرغم من أنّ الرضوض تملأ جسدها، ونصف قلبها أصابته شظية فمات وبقي نصفه الثاني ينتظر موته. تقول:
"كنتُ روحاً
الآن لا أتحدّث
لكن
أنا لستُ عاجزةً عن المضي قُدُماً
فما زال لديّ ذاكرة".
لقد أرجح الزّمن هؤلاء الصغار رامياً بهم خارج فسحة أمانهم بدلاً من أراجيح العيد التي تركوها وحيدةً يفترسها الخراب. تتذكّر سارة الحمد كيف كانت تقضي العيد مع الأطفال وهم يلعبون بأراجيح قديمة لكن ممتعة، ويذهبون إلى السدود والأنهار:
"نتسابقُ مَن سيصل إلى تلك الشمس القريبة البعيدة
وصلنا جميعاً
لكن إلى تلك البلاد الغريبة".
وبالرّغم من مفردات العذاب التي تصوغ حياة أطفال الزّعتري من وحدة وخوف وتمزّق وغربة وحنين، إلا أنّ توقهم إلى التحليق خارج الحدود المكانيّة التي زجّهم فيها مصيرهم يجمعهم، وكذلك إصرارهم على إعلاء الحبّ فوق كلّ كره وحقد. فها هي سندس داغر، تدعو الله أن يثبّت المحبة في قلبها المنكسر، وهي ترى الناس سعداء:
"أرى الحياةَ تبتسم
وأنا وسط الزحام
يضحك الناسُ غيرَ مبالين
وقلبي خزين منهدم مثل تلك البيوت.
ساعدني ياربي
اغرس في قلبي المحبّة".
يشاركها عمر سعود، النيّة ذاتها في الحرص على الحبّ:
"لا للحقد لا للكره
(...)
نحن هنا ما زلنا نصلّي للحبّ".
تعجُّ هذه النصوص المقتضبة شكلاً والمتفجّرة مضموناً، بمفردات تشي بالتلاشي والعدم، وتنتمي إلى الحقول الدلالية المتعلّقة بالبياض والفراغ والعمى والذكريات وفقدان الذاكرة
يؤمن أطفال الزعتري بأنّ لهم الحقّ في الحياة التي تليق بكلّ إنسان، ونصّ "فراغ روح" لآية مجاريش من أكثر النصوص تجسيداً لهذا الإيمان، فهي تعي تماماً في أي سجن تقبع الرّوح لكنّها لا تستسلم:
"اخرجْ من هذا الفراغ، حطّم الجدران
افتحْ القضبان بيديك، لا تبقَ أسيراً
انظر إلى الحياة متوهّجة
قمْ وتخلّصْ من هذه الأثقال
أنتَ من تهب الحريّة لنفسكَ
كنْ أنتَ النور
كنْ أنت".
يصعب الحديث عن مُنتَج على هذا القدر من الألم الإنساني، ويحار المرء ما إذا كان عليه قراءته كمنتج أدبيّ أم كوثيقة عن الظلم البشري، إذ لا مفرّ من قراءته على المستويين؛ من جهة لأنّ النصوص تنبئ حقّاً بأنّ هنالك طاقاتٍ مكبوتةً في تلك الرقعة ولا بدّ من الأخذ بأيدي أولئك اليافعين للصعود بهم إلى مستقبل قد يليق أكثر بإنسانيتهم، ومن جهة ثانية لأنّ كلّ كلمة كتبوها هي شاهدة على كمّ الأسى الذي يكابدونه بعيداً عن أعين العالم الذي غالباً ما يكتفي بالإشفاق ويكمل نومه ملتحفاً ببعض شعورٍ بالذنب لكيلا يعاني من أي أحلام مزعجة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع