شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
زهرة النيل

زهرة النيل "تبتلع" مياه أنهار سوريا... الهديّة التي تحوّلت لعنة!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الاثنين 27 نوفمبر 202304:08 م

لم يدرك ذلك البستاني أن جذور الزهرة التي اقتلعها وحملها من مصر إلى سوريا، ستأتي بالكوارث على جيل من الفلاحين ومسطحات كبيرة من المياه في آن واحد، وأنه لن يكتشف شيئاً جديداً أو يُسعد بها أبناء بلده، إذ خدعته تلك الزهرة بجمال منظرها الخارجي الجذاب.

هي إحدى الروايات المتداولة حول انتشار زهرة النيل الغازية في سوريا خلال العقدين الماضيين، وبغض النظر عن كونها الرواية الحقيقية، فالواقع يشير إلى انتشار خطير وآثار كارثية لهذا النبات في أنحاء البلاد.

فلاح الغاب الذي يفهم بستانه ونباتاته ونهره أكثر ربما مما يفهم أبناءه، أصبحت زهرة النيل تداهم مياهه في كل موسم زراعي لتبتلع أكبر قدر ممكن منها، على حساب أشجاره ونباتاته التي يغرسها بيده حتى يعيش منها هو وعائلته في أحلك الظروف القاسية التي تمر بها بلاده.

يرى المزارع منهل أمام عينيه كيف تتناقص كمية المياه بشكل مرعب نتيجة اكتساح زهرة النيل لسطح الماء.

يشكو أبو عمار الذي غيّرت أشعة الشمس لون وجهه وساعديه العريضين في حديثه لرصيف22 من انتشارها السريع وهو يطلق اللعنات على من تسبّب في نموّها بمنطقته.

ويضيف شارحاً: "من يشاهد الزهرة يغترّ بجمالها، لكن من يعيش بقربها يدرك جيداً أنها شرك أنجبته الطبيعة وسارع بامتدادها البشر من دون إدراك أو وعي، فهي تنمو بسرعة وتهاجم المزروعات والأسماك التي تربّى في المزارع السميكة والبحيرات، وبالتالي تزيد أعباء الفلاح المادية من ناحية شراء الأدوية والأسمدة التي قد تساعد في بقاء حقله صامداً أمام ‘شيطان النيل’، الذي ينمو بسهولة دون عبء ضارباً جذوره بعمق المياه، ما يصعّب مكافحته بالطرق التقليدية".

زهرة النيل "تبتلع" مياه أنهار سوريا... الهديّة التي تحوّلت لعنة!

يشارك المزارع منهل (أبو أحمد) جاره بهمومه وعتبه على المسؤولين، فأبو أحمد لديه حقل يتاخم مجرى نهر البارد، أحد الأنهار الرئيسية في منطقة الغاب، وهو يرى أمام عينيه كيف تتناقص كمية المياه بشكل مرعب نتيجة اكتساح زهرة النيل لسطح الماء، مبيّناً أن عملية الري تغدو بذلك أشدّ صعوبة، إذ تخرج الأتربة مع المياه والحجارة ويتعطل بذلك مضخّ الماء الذي يستخدمه لري محاصيله، فيقف مكتوف الأيدي وينقل المياه مجبراً بالطرق البسيطة.

روايات الانتشار

تتعدّد الروايات عن ظهور هذه الزهرة في سوريا، إلا أن مدير هيئة تطوير الغاب المهندس أوفى وسوف لم يخفِ عن رصيف22 كون بداية هذا الظهور مجهولة المصدر، ورغم أنها دخلت لأول مرة عام 2005 في منطقة الغاب عن طريق أحد المزارعين عند زيارته إلى مصر، غير أن هذه الرواية لا تزال غير مؤكدة.

من يشاهد الزهرة يغترّ بجمالها، لكن من يعيش بقربها يدرك جيداً أنها شرك أنجبته الطبيعة وسارع بامتدادها البشر من دون إدراك أو وعي، فهي تنمو بسرعة وتهاجم المزروعات والأسماك التي تربّى في المزارع السميكة والبحيرات، وبالتالي تزيد أعباء الفلاح المادية

ويبين بأن الهيئات المعنية في وزارة الزراعة لم تلحظها إلا عندما انتشرت في منطقة الغاب وبدأ القلق ينتاب الفلاحين والمسؤولين معاً، وما زاد التخوّف سرعة انتشارها وانتقالها عبر المياه إلى أنهار الأبرش والعروس والكبير الجنوبي في محافظة طرطوس، ما يعني أن الكارثة البيئية محتّمة، وبالتزامن انتشرت في نهر العاصي والغاب بمحافظة حماة إضافة إلى إدلب.

وفي عام 2009 أدّت إلى انسداد مجاري أنهار عدة في المنطقة، وألحقت أضراراً كبيرة بالبيئة والزراعة، مع كونها من النباتات المائية الطافية المعمّرة العريضة الأوراق، والمؤثرة في الموارد المائية في أكثر من 70 بلداً حول العالم، ومن ضمنها سوريا، وفق معطيات الإعلام الزراعي في سوريا.

"شيطان النيل"

زهرة أو شيطان النيل كما يحلو للفلاحين مناداتها تهدّد ليس فقط المياه، وإنما الأسماك والإنسان أيضاً، فهي من أكثر النباتات إنتاجية على وجه الأرض، وتُضاعف أعدادها خلال فترة من 5-18 يوماً، وتكوّن مسطحاتٍ كثيفة على سطح الماء ما يحجب ضوء الشمس وينافس النباتات الأخرى المغمورة في الماء.

ويفيد الإعلام الزراعي في سوريا بأن "النبتة الواحدة تشغل مساحة قد تصل إلى 2500 متر مربع في الموسم الواحد، وتعيق تدفق الماء وقد توقفه كلياً في قنوات الري، وتتراكم أوراقها وجذورها بسماكة قد تصل إلى أكثر من ثلاثة أمتار وتكلّف إزالتها مبالغ طائلة.

وعدا ذلك، فهي تستهلك كمياتٍ هائلة من المياه، إضافة إلى امتصاصها كمياتٍ كبيرة من الأوكسجين المذاب في الماء، ما يغيّر من طعمه ويجعل رائحته كريهة، وينتج عنها بيئة غير صالحة لأنواع الأحياء النافعة، وتشجّع على نموّ أحياء أخرى ضارة، فتكون بذلك ملوّثة للبيئة وتشكل تهديداً حقيقياً للثروة المائية في البلدان التي تنتشر فيها".

زهرة النيل "تبتلع" مياه أنهار سوريا... الهديّة التي تحوّلت لعنة!

حاضنة لمرض البلهارسيا

تناول وسوف في حديثه متأسفاً العوامل التي ساعدت على انتشار عشبة النيل، ومنها سرعة تكاثرها، وبقاؤها محتفظة بحيويتها لفترة قد تصل إلى خمسة عشر سنة، وإمكانية انتقالها بواسطة الطيور المهاجرة، أو مع مياه الفيضانات، كونها سهلة الحركة بمساعدة أوراقها وأعناقها، وقابلة للتكيف مع الحياة في بيئات مائية راكدة أو جارية على حد سواء.

أضف أن العوامل البشرية ساهمت في زيادة هذا الانتشار بسبب زراعة الإنسان لها في الأحواض والحدائق للإعجاب بشكلها ولونها.

وأهم مخاطر هذا النبات والمشكلات البيئية التي سردها مدير هيئة تطوير الغاب أنها "تعيق الملاحة وجريان الأنهار من خلال تكوين مسطحاتٍ كثيفة متشابكة، وتضغط على الجسور المنصوبة على الأنهار ما يعني احتمالية تحطمها، كما أن أوراقها تحجب ضوء الشمس عن الأحياء المائية الأخرى وبعضها يشكل قاعدة أساسية للنظام البيئي والغذائي الأساسي للأسماك، ما يسبب خللاً في التوازن الحيوي، فضلاً عن إعاقة عمليات الري".

زهرة أو شيطان النيل كما يحلو للفلاحين مناداتها تهدّد ليس فقط المياه، وإنما الأسماك والإنسان أيضاً، فهي من أكثر النباتات إنتاجية على وجه الأرض، وتُضاعف أعدادها خلال فترة من 5-18 يوماً، وتكوّن مسطحاتٍ كثيفة على سطح الماء ما يحجب ضوء الشمس وينافس النباتات الأخرى

لذا لا بدّ من التحذير من أن هذا النبات يمكن أن يصبح مكاناً لتكاثر أنواع من الذباب والبعوض التي تنقل مرض البلهارسيا الذي يسبب حمى وآلاماً عضلية وهضمية، كما أنه يحتوي على مادة قلوية مخرّشة لجلد الإنسان وتهدّد الأبقار والأغنام في حال تناولها.

مكافحة بدائية

ثمة عدة طرق لمكافحة زهرة النيل، حسب المهندس أوفى، ولكنها بدائية وغير مجدية، غير أن أفضل طرق التخلص منها يكمن باستئصالها من جذورها بشكل يدوي، دون المعالجة بالمواد الكيماوية.

ولا بد أيضاً كما يقول المهندس من نشر الوعي بين السكان والمزارعين والصيادين حول هذا النبات الخطير، سواء من خلال وسائل الإعلام أو مواقع التواصل، والتشديد على ضرورة عدم زراعته والإكثار منه على أساس كونه نبات زينة، فهو ليس كذلك.

زهرة النيل "تبتلع" مياه أنهار سوريا... الهديّة التي تحوّلت لعنة!

وهنا لا بد أيضاً من التشجيع والتعريف بإمكانية جمع الزهرة وإتلافها بالتجفيف أو الحرق، واستخدام بعض الأدوات مثل السلال لتنظيف مجاري الأنهار، كما يمكن استخدام تقنية حجب الضوء عن الزهرة بتغطيتها لتموت بشكل بطيء وتدريجي بسبب قلة الإضاءة، إلا أنها طريقة بطيئة ومكلفة وتساهم بشكل جزئي فقط في مكافحة النبات.

علماً أن طرق المكافحة الكيمائية واردة أيضاً باستخدام مبيدات الأعشاب، مع الأخذ بعين الاعتبار مدى ملاءمة المبيدات للمكان والطبيعة وعدم خطورتها، والتركيز على الأنواع التي تتلاشى في المياه ولا تؤثر في البيئة والناس، وذات السمية المنخفضة خاصة على الأسماك.

تعاون عربي وعالمي

لم تبقَ بعض الدول مكتوفة الأيدي، بل حاولت التوصّل إلى طريقة للتخلص من هذه الزهرة، ويشير الإعلام الزراعي إلى تعاون بين سوريا ومصر عام 2015 لمحاصرة زهرة النيل عن طريق معهد بحوث الوقاية وبالتعاون مع السفارة السورية. وساهم هذا التعاون بانخفاض أطوال النباتات إلى أكثر من النصف، وتآكل الأوراق وتناقص حجمها.

لا بد من التوعية والتشديد على ضرورة عدم زراعة هذا النبات والإكثار منه على أساس كونه نبات زينة، فهو ليس كذلك.

كما بدأ التفكير في برامج التحكم بنمو نبات زهرة النيل في معظم البلدان التي ينتشر فيها هذا النوع الغازي، واستخدمت طرق المكافحة الكيميائية والميكانيكية في العديد من البلدان، ولكن هذه الأساليب التي توفر السيطرة بشكل مؤقت على هذا النوع مرتفعة التكلفة الاقتصادية. إضافة إلى ذلك تؤدّي الطرق الميكانيكية إلى ارتفاع مستوى التلوث في المسطحات المائية، ولهذا السبب بدأت التفكير في المكافحة الحيوية التي تعدّ الطريقة الوحيدة الممكنة للسيطرة.

من الذاكرة

الرواية التي احتفظ بها الصحافي محمد فرحة في ذاكرته منذ الثمانينيات، وهو ابن محافظة حماه، اختلفت مع سالفه من ناحية بدء ظهور الزهرة في نهر العاصي.

يقول فرحة إن سبب وجودها هو طالب سوري كان يدرس في مصر جلبها معه في إجازته بالصيف إلى حبيبته، وعندما ذبلت رمت بها في نهر العاصي وانتشرت حينها على مساحات واسعة من مجراه.

وفي حين أن الزهرة حينها لم تكون موجودة إلا في نهر العاصي، لكنها أصبحت حالياً منتشرة في نهر السن في الساحل السوري، والعديد من المسطحات المائية الأخرى في البلاد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما أحوجنا اليوم إلى الثقافة البيئية

نفخر بكوننا من المؤسّسات العربية القليلة الرائدة في ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺇﺫﻛﺎﺀ ﺍﻟﻮﻋﻲ البيئيّ. وبالرغم من البلادة التي قد تُشعرنا فيها القضايا المناخيّة، لكنّنا في رصيف22 مصرّون على التحدث عنها. فنحن ببساطةٍ نطمح إلى غدٍ أفضل. فلا مستقبل لنا ولمنطقتنا العربية إذا اجتاحها كابوس الأرض اليباب، وصارت جدباء لا ماء فيها ولا خضرة.

Website by WhiteBeard
Popup Image