يوم 21 شباط/ فبراير سنة 1910، نشرت صحيفة "الجريدة"، التي كان يرأس تحريرها أحمد لطفي السيد، خبر اغتيال بطرس باشا غالي، أول رئيس وزراء قبطي لمصر على هذا النحو: "نزل كعادته في جماعة من الموظفين، وعند باب نظارة الحقانية (وزارة العدل)، صافحهم وانصرف ومعه النائب العمومي، فما كاد يضع رجله على سلّم عربته حتى أصابه الرصاص المتعاقب من غدّارة (مسدس) شاب لعب الشباب برأسه وتصور ما تصور وتجسمت في نفسه الخيالات فلم تردعه هيبة الوزير ولا وقار الشيخ ولا خوف العقاب... أصابه الرصاص في العنق والكتف والبطن فخرّ صريعاً، فحمل إلى أودة (غرفة) ناظر الحقانية، ثم إلى مستشفى الدكتور ملتون، وهناك زاره سمو الخديوي -الخديوي عباس الثاني- وجميع الوزراء والسير جورست (المعتمد السامي البريطاني في مصر)، والأمراء وأعيان الأمة، وكلهم يرجون له الشفاء العاجل. فلما كانت الساعة السادسة عُملت له عملية جراحية لإخراج الرصاصة الباقية، ولكن كانت، مع الأسف، قد نسفت الأمعاء ونفذت في صدر المعدة".
الشاب الذي قام باغتيال رئيس الوزراء، أُعدم بعد استيفاء درجات محاكمته في صباح يوم 28 حزيران/ يونيو 1910. كان ينتمي من حيث مولده إلى الطبقة الأرستقراطية (الباشوات)، واسمه الذي أصبح مشهوراً، إبراهيم الورداني ناصف. تعامل معه مصريون كثر بعدّه بطلاً شعبياً ورمزاً وطنياً، فاستمرت المظاهرات حتى يوم إعدامه تطالب بالعفو عنه، وشاعت صوره في المقاهي والأماكن العامة بعد الإعدام، مما اضطر الحكومة إلى إصدار قرار بتجريم الاحتفاظ بصوره، وتسببت جريمته، كما يذكر المؤرخ د. حسين فوزي النجار في "سيرة أحمد لطفي السيد"، في تعريض وحدة الأمة القومية لخطر الانقسام.
كان الورداني ينتمي إلى الحزب الوطني الذي وُصف بعد رحيل مؤسسه مصطفى كامل، وخلال زعامة خليفته محمد فريد، بالتطرف، وهي المرحلة التي وصفها المؤرخ د. يونان لبيب رزق في كتابه "الأحزاب المصرية في مئة عام"، قائلاً: "عرفت الحياة الحزبية لأول مرة ظاهرة العمل السرّي، وتشير وثيقة سرية بريطانية مؤرخة في 30 حزيران/ يونيو عام 1911، إلى أن دوائر الأمن قد تمكنت من ضبط 28 جمعيةً سرّيةً تنتمي عشرون منها بصورة أو بأخرى للحزب الوطني، ومعلوم أن هذه الظاهرة هي التي أفرخت عمليات الاغتيال السياسي خلال تلك الحقبة، وكان أشهرها اغتيال رئيس الوزراء المصري بطرس غالي، على أيدي أعضاء تلك الجمعيات. وقد أدى البطش من جانب السلطات والتطرف من جانب الحزب الوطني إلى ذلك الصدام المروع بين الجانبين...".
المرثيات والقصائد التي أُلقيت في أعقاب اغتيال بطرس غالي، تبلور بصورة واضحة المحل الرفيع الذي شغله الراحل خلال حياته، ليس في الحياة المصرية العامة أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين فحسب، ولكن في وجدان المصريين ومخيالهم في تلك الآونة
العامي العصامي
المرثيات والقصائد التي أُلقيت في أعقاب اغتيال غالي، تبلور بصورة واضحة المحل الرفيع الذي شغله الراحل خلال حياته، ليس في الحياة المصرية العامة أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين فحسب، ولكن في وجدان المصريين ومخيالهم في تلك الآونة، فقد كتب فيه أحمد شوقي شعراً:
"والرأي للتاريخ فيك، ففي غدٍ
يزن الرجال وينطق الأحكاما
أنت الحكيم فلا ترعك منية
أعلمت حياً غير ربك داما
قد عشت تحدث للنصارى ألفة
وتجدّ بين المسلمين وئاما
الحق أبلج كالصباح لناظر
لو أن قوماً حكّموا الأحلاما
الدين للديّان جلّ جلاله
لو شاء ربك وحّد الأقواما".
كان بطرس باشا نموذجاً للمصري العامي الطالع بانتمائه القبطي من أقلية دينية من أعماق القاعدة الشعبية. وبطريق قدرته الشخصية الفذة وكفاءته الفردية الصرف، شغل أرقى منصب يمكن أن يصل إليه مصري على قمة الهرم الإداري والسياسي للدولة، وهو منصب رئيس الوزراء.
يصف المؤرخ جرجي زيدان، في كتابه "تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر"، خصاله، فيقول إنه "كان عالي الهمّة، كبير المطامع، ذكي الفؤاد، قوي الذاكرة، شديد العارضة، كارهاً للوساطات، لا يصعب عليه عمل لثباته وقوة عزيمته وجدّه وقوة عقله وسعة اطلاعه". ويتحدث عن مسيرته الحياتية منذ نشأته المدرسية في ستينيات القرن الـ19، في مدرسة حارة السقّايين في غمار نهضة تعليمية ظهرت على يد البطريرك كيرلس الرابع، الملقب بأبي الإصلاح، وقد لحظ في بطرس الطفل مخايل النباهة والامتياز فتحدث عما يرجوه في مستقبله.
كان بطرس راغباً في العلم بطبيعته، يتلذذ بالدرس وبالمعارف، لا يملّ من قضاء الليل ساهراً في المطالعة، يحفظ الصفحات تلو الصفحات لا يكلّ من تلاوتها حتى شكا بعضهم ذلك خوفاً على صحته. وفي نهاية دراسته التي أتقن خلالها الإنكليزية والإيطالية والقبطية، اتخذ له معلماً للّغتين التركية والفارسية، كان يمنحه شبرقته (أجره) من البارات (الملاليم) التي يعطيها له والده ليتفكّه بها.
بعد أن عمل معلماً في مدرسته، التحق بمدرسة الترجمة (الألسن) التي أنشأها رائد التعليم رفاعة الطهطاوي، ونبغ منها مترجمون لامعون. وظل غالي يرتقي في الوظائف الحكومية خلال عهد الخديوي إسماعيل، فشغل منصب رئيس مجلس تجار الإسكندرية، ولما تأسست المحاكم المختلطة (المصرية الأجنبية)، وصارت لها نظارة مستقلة هي نظارة الحقانية، أصبح رئيس كتّابها سنة 1874. ثم تولى وظيفة مساعد رئيس الوزراء، وأصبح وكيله في الدفاع عن مصالح الحكومة في أزمة الديون التي نشبت بين مصر والدول الكبرى الدائنة لها.
يقول زيدان: "وضع تقريراً ومذكرةً عن الضرائب والأطيان كأنه درس الموضوع من عدة أعوام، وقد طُبعا باللغتين الفرنساوية والعربية، وعوّل عليهما أكثر الذين كتبوا في مالية مصر وأطيانها بعده. ويقال إن السير ريفرس ولسون مندوب إنكلترا في ذلك العمل لما رأى اقتداره قال له: إنك ستكون ناظراً للمالية يوماً ما، ومنحته الحكومة الرتبة الثانية (البكوية)، والرتب يومئذ عزيزة جداً".
وتواصل صعوده الوظيفي خلال أحداث الثورة العرابية العاصفة، فعُهدت إليه الوزارة العرابية برئاسة شريف باشا بسكرتارية مجلس الوزراء، ثم عُيّن وكيلاً لوزارة الحقانية وأنعم عليه برتبة ميرمران (الباشاوية) الرفيعة سنة 1882، وكان أول من حازها من الأقباط. وبعد هزيمة عرابي عهد إليه العرابيون بالسفارة بينهم وبين الخديوي توفيق الذي عاد بحراسة جيش الاحتلال.
في سنة 1893، شغل غالي منصب ناظر المالية، ثم ناظر الخارجية، ليُكلَّف في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1908، بتشكيل الوزارة التي ترأسها مع احتفاظه بموقعه كوزير للخارجية، وكما يقول زيدان، أصبح بطرس باشا بذلك صاحب أكبر منصب يرجوه ابن النيل.
يتفق مؤرخو سيرة غالي، على أن الاتهامات التي وجهها إليه قاتله وخصومه السياسيون، تتمثل في أربعة، وهي أنه: "أمضى اتفاقية السودان، وترأس محكمة دنشواي، وأعاد قانون المطبوعات، ورضي بمشروع قناة السويس"
مسببات الاغتيال
يتفق مؤرخو سيرة غالي، على أن الاتهامات التي وجهها إليه قاتله وخصومه السياسيون، تتمثل في أربعة، وهي أنه: "أمضى اتفاقية السودان، وترأس محكمة دنشواي، وأعاد قانون المطبوعات، ورضي بمشروع قناة السويس".
يقول المؤرخ أحمد شفيق، في "حوليّات مصر السياسية"، إن "الحكومة البريطانية في سنة 1899، أرغمت مصر على التوقيع على اتفاقية جعلت السودان شركةً بينهما اختصت مصر فيها بكل الغرم، واختصت نفسها بالكسب والغنم كله، وذلك بحق اشتراكها في إعادة احتلال السودان بعد وقائع الثورة المهدية، رغم أن خمسة أسداس الجيش الذي فتح السودان كان مصرياً وأن نفقات الحرب كلها كانت من الخزينة المصرية".
خصوم بطرس غالي عدّوه المسؤول الأول والمباشر الذي وقّع الاتفاقية بيده أيام كان وزيراً للخارجية، برغم أن الحقيقة كما يذكر المفكر محمد حسين هيكل، في كتابه "تراجم مصرية وغربية"، هي أنه وقّع الاتفاقية باسم حكومته، فلا يتحمل غير مسؤولية التضامن مع زملائه الوزراء الذين دفعتهم إلى توقيع الاتفاقية موافقة العرش الملكي.
وبخصوص الاتهام الثاني، وهو ترؤسه محكمةً مخصوصةً أصدرت حكماً كان مثالاً للوحشية الاستعمارية بإعدام أربعة من أهالي قرية دنشواي، وجلد ثمانية، وسجن غيرهم، يقول هيكل إن غالي ترأس المحكمة بحكم منصبه نائباً عن وزير الحقانية الذي كان غائباً وقتها في إجازة، ويضيف: "يقول المدافعون عن بطرس باشا في هذه المسألة: إن حكم دنشواي كان حكماً سياسياً أملته السلطة الإنكليزية التي أمرت بإرسال المشانق قبل أن يصدر، وأنه كان صادراً من أغلبية إنكليزية لأعضاء المحكمة، فلم يكن للأقلية الموجودة فيها بحكم القانون بدّ من إقراره وتوقيعه، وبطرس غالي كرئيس للمحكمة كان لا مفر له من الخضوع لرأي أغلبية الهيئة التي يرأسها، والتي أصدرت ذلك الحكم الجائر".
الاتهام الثالث مرتبط بمسؤوليته كرئيس للوزراء عن فرض قانون المطبوعات، وتقييد حرية الصحافة بعقوبات مثل السجن والنفي الإداري، وهو قانون سُنّ سنة 1882، وبقي معطّلاً خلال سنوات الاحتلال الإنكليزي الأولى، وعارضت الحركة الوطنية إعادته بكافة أجنحتها، لكنه كان من بين فاتحة أعمال الحكومة.
يقول عنه هيكل: "الظاهر أن حرص بطرس باشا على تحقيق خطوة جديدة في سبيل الحكم الذاتي (الوطني)، كان شديداً، وكثيراً ما يلجأ السياسي شديد الحرص على تحقيق غاية معينة يراها ذات خطر في حياة أمّته، إلى قبول أشياء لا يقبلها غيره، ما دام يعتقدها أشياء مؤقتةً قليل ضررها إلى جانب الغاية العظيمة المرجوة منها، لذلك لجأ بطرس غالي بإزاء رفض زميليه (الوزيرين) سعد زغلول ومحمد سعيد، لطلب المعتمد البريطاني بعث قانون الصحافة وإصدار قانون النفي الإداري، إلى وساطة الخديوي عندهما، فأوفد سموه من رجاله من أقنعوهما، فصدر القانونان سنة 1909 فأحدث صدورهما في البلاد دوياً هائلاً".
"الظاهر أن حرص بطرس باشا على تحقيق خطوة جديدة في سبيل الحكم الذاتي (الوطني)، كان شديداً، وكثيراً ما يلجأ السياسي شديد الحرص على تحقيق غاية معينة يراها ذات خطر في حياة أمّته، إلى قبول أشياء لا يقبلها غيره، ما دام يعتقدها أشياء مؤقتةً قليل ضررها إلى جانب الغاية العظيمة المرجوة منها"
الاتهام الأخير الخطير، يخص قبول غالي بمشروع شركة قناة السويس، وكان يقضي بمدّ فترة استغلال الشركة الأجنبية لها إلى عام 2008، وتقول "حوليّات مصر السياسية" عنه: "اضطرت الحكومة في النهاية إلى التسليم بما طلبوه (المعارضون) من عقد الجمعية العمومية (وهي جهة سياسية للتمثيل الشعبي آنذاك)، والتي أعلنت الحكومة في 5 نيسان/ أبريل سنة 1910، بعدما عرفت حال الجمعية النفسانية (ميولها) جد المعرفة أنها ستنزل على حكمها في الأمر، فشكلت الجمعية لجنةً منها لنظر الموضوع ونشر المرحوم صابر باشا صبري المهندس المعروف، بياناً مستفيضاً عن المشروع أظهر فيه معائبه وما يعود من إقراره من الخسارة على مصر. وكان مقرر الحكومة أمام الجمعية العمومية والمدافع عن المشروع صاحب الدولة سعد زغلول باشا، الذي كان إذ ذاك ناظراً للمعارف، وعلى ذلك أصدرت الجمعية العمومية في 7 نيسان/ أبريل سنة 1910 قرارها بدون تردد، وهو يقضي برفض المشروع باتفاق 66 صوتاً على صوت واحد".
عندما صدر قرار رفض مشروع قناة السويس، كان قد مضى على اغتيال بطرس غالي أكثر من شهر ونصف، وكان الأقباط يعتقدون أن الجريمة لم تُرتكب إلا بدافع التعصب الديني، ومن شأن تصاعد وتيرة خلاف حاد كهذا يكتسب أبعاداً طائفيةً خطيرةً، أن يحيل النقاش حول المسؤولية السياسية لرئيس الوزراء إلى مسكوت عنه، وإلى أن يرتضي الكل بتجاوز الحادث رغبةً في إعادة الوئام الوطني كما ذكر أحمد شوقي في شعره، وهو وئام تجلّى بعد أقل من عشر سنوات في صورة رائعة خلال أحداث الثورة المصرية سنة 1919.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومينحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 3 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين