أثناء تتبّع فظائع الحرب على غزّة، لا تستوقفني فيديوهات الأطفال والكبار الذين يهدون موتهم وذعرهم وارتجاف قلوبهم للأقصى أو للأرض أو لغزّة، أمرّ عن مقاطع الفيديو تلك بسرعة، وأشعر تجاهها بشيء من الغرابة، لكنني أقف مطوّلاً وأعيد تشغيل الفيديو مراراً وتكراراً إذا وجدت فيه طفلاً/ة يحكي/تحكي عن الخوف والقلق والفقدان لكل مقومات الحياة، أطفال يشكون من قلة المياه ومن انعدام النظافة، من فقدانهم لألعابهم وأصدقائهم، وآخرون يحملون ما تبقى من كتبهم وقرطاسيتهم بعد قصف إسرائيل لبيوتهم الدافئة.
تعجز اللغة كلها عن وصف مجازر الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزّة اليوم، والصعب بالنسبة لي كأم أنني وجدت طفلتيّ في كل الوجوه التي شاهدتها، لم أصادف فيديو لطفلة إلا وشعرت أنني أمّها، كيف يمكن لبديهيات الأمومة أن تجد حيزّها ضمن قتل أهوج وخوف ممنهج تقرّر إسرائيل كل يوم أن تزيد من وتيرته؟
الأمان والحماية والتطمين والاحتواء هي بعض أفعالنا اليومية والدورية لأطفالنا، إلا أن الأمومة قُتلت في غزّة لدرجة جعلت الأمهات يفقدن قدرتهن الفطرية على حماية أطفالهن، فلا دفء ولا خصوصية ولا لهو ولا رغبات يمكنهن تأديتها لأبنائهن، وأنا اليوم كلي شعور بالخجل أمامهن، وأمام أطفالهن من جهة، وأمام أطفالي من جهة أخرى.
أعتذر لأرحامكن التي تعبت كثيراً لتصنع الحياة، وأعتذر لأقدامكن التي كانت تمشي بهدوء في الليل لتساعد أطفالكن على النوم، وأعتذر لأحلامكن تجاه الطفولة المشاغبة في بيوتكن، وأعتذر لقلوبكن التي لم تملك متسعاً من الوقت لتبكي بحرقة
منذ بدء الحرب وأنا غاضبة وأكاد أفقد أعصابي، وانعكس غضبي هذا على أسلوبي مع ابنتي الكبيرة التي لم أعد قادرة على تحمّل بعض تصرفاتها الطبيعية جداً لطفلة في سنّها، وبعد إنكار طويل لفكرة أنني أتصرّف معها بطريقة خاطئة، صار علي أن أواجه السبب وراء ذلك، لأجده عجز الأمهات في غزّة أمام أطفالهن؛ لقد بَنَت فيديوهات الأطفال في غزّة حاجزاً يقف أمام تدفق مشاعري تجاه ابنتي، إذ لم أعد أسمع كلامها كما هو، بل يتدخّل عقلي ويضع الكلام كخلفية لمشاهد الأطفال وهم يتابعون قتل طفولتهم، ماذا يعني أن أغيّر طعام الغداء لمجرد أنه لم يعجبها، بينما هناك أمهات لا يستطعن إطعام أطفالهن خبز، وأخريات توقف حليب أثدائهن عن الإدرار بسبب قلة الطعام والشراب؟
لا يريد العالم اليوم يصدق أن الطفل في غزّة يخاف ويصاب بالهلع، لكن الأمهات يعرفن وتدرك كل منهن ما الذي يخيف طفلها. لا أستطيع أن أعطّل مشاهد بكاء الأطفال الرُضّع، غير المدركين لما يحدث في الساعات التي أرضّع فيها ابنتي، ولا أرى ابنتي تنام في سريرها دون أن تلاحقني مشاهد الأطفال المحرومين من النوم في أسرّتهم، حتى أنني غير قادرة على الانتباه للعادي الذي أعيشه كأم عليها واجبات لا تتوقف، بينما أشمّ رائحة الموت القريب والوشيك يحيط بمليون طفل.
سألتني صديقة غزّية عزباء في أيام الحرب الأولى: ماذا تشعرين كأم؟ لا أذكر كيف أجبتها، لكنني منذ تلك اللحظة سقطت في حفرة سوداء كئيبة ومرعبة ولم أستطع الخروج منها حتى الآن، في تلك اللحظة تقزّمت معجزات الأمومة في نظري، سيطرت علي الأسئلة عن جدوى الأمومة ومدى أنانيتها.
تتعرف طفلة غزّية على أمها الشهيدة من شعرها، فهي تعرف شعرها جيداً، ويصرخ طفل آخر ينادي أمه، بينما يحتضنه المسعف وهو غير قادر على مواجهته بحقيقة أنه صار يتيماً، وتطل طفلة من بين الركام تحمل علبة ماكياج وتلعب بها، بينما تتخيل نفسها وهي كبيرة، وبين كل هؤلاء، تلد امرأة طفلها ويصاب بشظية فور ولادته، وطفل آخر يصفع والده غير مصدق أن شقيقه مات، لأن موت شقيقه يعني أن طفولته وذكرياته ولهوه وصخبه قد ماتوا أيضاً.
تتعرف طفلة غزّية على أمها الشهيدة من شعرها، فهي تعرف شعرها جيداً، ويصرخ طفل آخر ينادي أمه، بينما يحتضنه المسعف وهو غير قادر على مواجهته بحقيقة أنه صار يتيماً، وتطل طفلة من بين الركام تحمل علبة ماكياج وتلعب بها، بينما تتخيل نفسها وهي كبيرة
هذه الكتابة ليست بغرض التدوين، بل بغرض التعبير عن الخجل من هويتي كأم، إذ لم تعد هذه الهوية الرقيقة، الصعبة، حمالة المعجزات كما كانت بالنسبة لي، فقد صارت هوية مذعورة، باكية، غير قادرة على التشدّق بقدرات الأم، ومستسلمة تماماً لفكرة أنها أضعف من حماية الأطفال وتلبية حاجاتهم، طالما أنها أمومة فلسطينية تواجه أقذر قوة قتل في العصر الحديث.
هذه الكتابة ليست بغرض التدوين، بل بغرض الاعتذار من أمهات غزّة، أعتذر بالدرجة الأولى لأرحامكن التي تعبت كثيراً لتصنع الحياة، وأعتذر لأقدامكن التي كانت تمشي بهدوء في الليل لتساعد أطفالكن على النوم، وأعتذر لأحلامكن تجاه الطفولة المشاغبة في بيوتكن، وأعتذر لقلوبكن التي لم تملك متسعاً من الوقت لتبكي بحرقة، وأعتذر لمخاوفكن على أطفالكن من سقطة في الشارع تتسبب في خدش للركبة أو تمزّق البنطال، أعتذر لأن الأمومة هذه المرة لم تكن معجزة تساعدكن على البقاء والحماية.
لقد أصيبت أمومتي في مقتل منذ لحظة وقوفي أمام حقيقة أنني أم فلسطينية، غير قادرة على حماية ابنتيّ وتأمينهن من خطر القتل والموت في ظل الاحتلال والحصار والإبادة، وصار علي أن أواجه هذا الكابوس وأتصرّف على أساسه -لا أعرف كيف- فأنا قبل الحرب بيوم كنت أدعي أن أمومتي هي أقوى هوية أتمتع بها، إلا أن ما يحدث اليوم سجن هذه الأمومة وسبّب لها المرض الذي يصعب التعافي منه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...