سأل الفنان المسرحي الشهير زكي طليمات، الموسيقار سيد درويش: "لماذا تركت التخت الشرقي واتجهت إلى الآلات الغربية؟". فرَدَّ درويش: "مثلما خلعت الجبة والقفطان (الزي المصري القديم)، ولبست البدلة (الزي الأوروبي)"، وهي قصة متواترة، ذكرها، على سبيل المثال، فيكتور سحاب في كتابه "سيد درويشك المؤسس".
يكشف هذا الردّ أن الاتجاه إلى الموسيقى الغربية في زمن الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وما بعدها، كان ضمن حركة تغيير كاملة اجتاحت المجتمع العربي، واصطلح على تسمية هذا الاتجاه بـ"التطوير".
اضمحلال السلطنة العثمانية ثم هزيمتها في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، واحتلال أغلب المنطقة العربية، سواء في مرحلة الاضمحلال العثماني أو بعد الهزيمة من قبل بريطانيا وفرنسا، أحداث أصابت المجتمعات العربية بصدمة حضارية ودفعتها للشك في قيمها.
وتسببت الصدمة في انقسام بين فريقين، اتجه أحدهما إلى تطوير الحياة من خلال القيم الأوروبية المنتصرة ثقافياً، بينما تمسّك الآخر بالتقاليد القديمة المهزومة. ويرى الناقد اللبناني الفلسطيني فيكتور سحاب، في كتابه "السبعة الكبار في الموسيقى العربية"، أن هذا الانقسام انعكس على الموسيقى وفنانيها.
الجانب الذي يغفله كثيرون، هو أن الأوروبيين المقيمين في مصر ساهموا بشكل كبير في تطوير الموسيقى العربية، بشكل يتجاوز فكرة محاكاة المصريين لهم
الفريق المحافظ رأى تطوير الموسيقى مجرد تغريب، ومنه الناقد أحمد أبو الخضر منسي، الذي قال في كتابه "الموسيقى الشرقية بين القديم والجديد"، الصادر عام 1949: "جديدهم هذا خليط من موسيقى شرقية وأخرى غربية، متنافر لأنه يحتال على أطرابك بمختلفين، ويروم التأثير في نفسك وذوقك بمتعارضين، لحنان، هذا من نبع، وهذا من نبع، اختلف ماؤهما ومسيلهما اختلافاً شديداً".
لكن برغم المعارضة الشديدة، انتصر تيار التطوير وصار هو السائد والمسيطر حتى يومنا.
ويرى سحاب، وهو نائب رئيس مجلس الموسيقى الدولي، أن سيد درويش الذي لقّب نفسه بـ"فيردي مصر"، تيمّناً بالموسيقار الإيطالي جوزيبي فيردي، هو أول من طوّر في الموسيقى العربية الحديثة، وأخرجها من طابعها التركي التطريبي الذي هيمن عليها لقرون، وأدخل عليها الطابع التعبيري الأوروبي، مستخدماً أدوات الأوروبيين من طابع تلحيني ومن آلات، وتبعه في الفترة نفسها آخرون.
لكن الجانب الذي يغفله كثيرون، هو أن الأوروبيين المقيمين في مصر خلال تلك الفترة، ساهموا بشكل كبير في تطوير الموسيقى العربية، بشكل يتجاوز فكرة محاكاة المصريين لهم، وإنما من خلال تواجد وعمل مباشرين داخل البيئة الموسيقية والإنتاج الموسيقي المصري.
حيث تبيّن، كما سنوضح بالتفصيل، أن خبراء الموسيقى الأوروبيين المقيمين في مصر، ربما فاق عددهم المصريين في ذاك التوقيت، حتى وإن توارت أسماؤهم، فهم لم يكونوا نجوماً وإنما أناروا بعلمهم وعملهم الفنيَين هؤلاء النجومَ، وأرسوا قواعد تعليم الموسيقى وفقاً للأسس العلمية الأوروبية.
كيف تواجد الموسيقيون الأوروبيون في مصر؟ وكيف ساهموا في تطوير الموسيقى العربية؟ وما الفروق التي أحدثوها في الموسيقى العربية من خلال تواجدهم المباشر داخل موسيقى أشهر الفنانين العرب، وأولهم سيد درويش ثم محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وغيرهم؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه في السطور التالية.
محمد علي وأحفاده والاحتلال... كيف توافد الموسيقيون الأوروبيون على مصر؟
منذ سقوط الدولة العربية في الأندلس عام 1492، والموسيقى العربية في اضمحلال مستمر سببه رَقْدَة الشرق، بحسب تعبير الناقد الموسيقي البارز محمود أحمد الحفني، وهو أول عربي يحصل على الدكتوراه في الموسيقى، في مقال له في مجلة "الموسيقى"، في عدد 16 أيلول/سبتمبر 1935.
ومع هيمنة الدولة العثمانية على المنطقة العربية منذ بدايات القرن السادس عشر الميلادي، بدأت الموسيقى العربية تكتسب الطابع التركي، في قوالبها الغنائية وأساليبها اللحنية، وهو ما بدا راسخاً ومسيطراً حتى بدايات القرن العشرين.
هناك من يرى أن الموسيقى العربية قبل عصور الاضمحلال العثماني، كانت تحتوي على البوليفونية، مستدلاً بابن سينا الذي اشترط 4 شروط في اللحن الجيد، هي: الترعيد، التمزيج، التوصيل، والتركيب.
وكانت أول محاولة لتحديث الموسيقى، وفقاً للطراز الأوروبي، على يد محمد علي باشا، الذي حكم مصر من سنة 1805 حتى سنة 1848، وسيطرت دولته على السودان وبلاد الشام والحجاز واليمن.
أنشأ محمد علي، 5 مدارس موسيقية مختلفة التخصصات في مصر، تولى التدريس فيها موسيقيون من ألمانيا وفرنسا، حسب ما يحكي أنطوان كلوت (كلوت بك) في كتابه "لمحة عامة إلى مصر".
وكان كلوت بك طبيباً فرنسياً، استقطبه محمد علي للإشراف على الإدارة الصحية للجيش المصري.
ويحكي كلوت أن أهم هذه المدارس أو المعاهد كانت في منطقة "الخانقاه" أو "الخانكة"، الواقعة على أطراف القاهرة اليوم، والتي أدارها موسيقيون فرنسيون، وضمت مئتي تلميذ، تدربوا على الآلات الموسيقية الغربية، بهدف توظيفهم في تشكيل فرق موسيقية عسكرية تعمل داخل الجيش المصري.
إلا أن هذه المحاولة لم تؤثر في الذوق الموسيقي المصري، حيث يحكي كلوت أن المصريين لم يتقبّلوا الموسيقى الأوروبية، بل كانوا يصابون بالملل وانحراف المزاج حين يسمعونها، ما أدى إلى إلغاء مدرسة "الخانقاه".
محاولة الاستعانة بالموسيقيين الأوروبيين كررها الخديوي إسماعيل حفيد محمد علي (حكم بين عامي 1863 و1879)، وذلك بإنشائه دار الأوبرا الخديوية في القاهرة، التي تخصصت في بداياتها في عروض الأوبرا الإيطالية.
وبدأت منذ عهده حركة مسرح غنائي واسعة، تزعمها أبو خليل القباني، وإسكندر فرح، بجانب آخرين، وأنتجت الحركة سلامة حجازي، الذي تتلمذ على يديه سيد درويش في ما بعد.
وبرغم ما سبق، ظلت الموسيقى الغربية مستقلةً عن العربية، لكل منهما جمهورها، ولم تندمج أيهما في الأخرى، بحسب فيكتور سحاب.
في هذه الفترة (النصف الثاني من القرن التاسع عشر)، شُيّدت مسارح خصيصاً للعروض التمثيلية والموسيقية الأوروبية، ولعل أشهرها مسرح "زيزينيا" في الإسكندرية، الذي ظل لسنوات لا يقدّم سوى العروض الأوروبية فقط، حسب ما يوضح أستاذ الأدب المسرحي سيد علي إسماعيل، في دراسة له.
ثم تطور الأمر مع نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، واستُحدثت مسارح تقدّم فقرات أوروبيةً بجانب فقرات أخرى عربية، ونشطت الحركة المسرحية بشكل كبير خاصةً في فترة الحرب العالمية الأولى، حتى شاعت في الصحافة عبارة: "إن عدد الممثلين سيزيد عن عدد المتفرجين"، حسب ما نقل المؤرخ والصحافي صبري أبو المجد، في كتابه "زكريا أحمد".
تلك الفرق والمسارح كانت موجهةً بالأساس إلى الأوروبيين المقيمين في مصر، والذين ازداد وجودهم بشكل كبير حتى قيل إنهم صاروا ربع سكان الإسكندرية، بخلاف القاهرة وباقي المدن.
حركة توافد الأوروبيين الكبيرة كان على مراحل، إذ كانت نشطة منذ عهد الخديوي إسماعيل الذي كان يسعى إلى تحويل مصر إلى قطعة من أوروبا، ثم مع الاحتلال الإنكليزي لمصر عام 1882، في عهد الخديوي توفيق، ثم خلال الحرب العالمية الأولى حين تحولت أوروبا إلى ساحة حرب طاحنة، وصارت مكاناً غير آمن.
نتيجةً لذلك، تشكلت فرق في مصر متخصصة في الفن الأوروبي، دعَّمها إقبال الحكومة والأفراد بقوة على إنشاء المسارح والملاهي، حتى تندرت الصحافة على بناء مسرح البوسفور خلال 3 أشهر فقط، بحسب أبو المجد.
الموسيقيون الأوروبيون يهيمنون على مصر
ولعل أهم وأدق وثيقة بين أيدينا حول حجم تواجد الموسيقيين الأوروبيين الكبير والفائق في مصر، هي أوراق مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي انعقد في القاهرة عام 1932، بدعوة من الملك فؤاد، وهذه الأوراق موجودة داخل كتاب حمل عنوان المؤتمر، أصدرته وزارة المعارف المصرية عام 1933.
أعدّت لجنة التعليم الموسيقي في المؤتمر إحصائيةً تبيّن منها أن عدد المدرّسين والمدرّسات الأجانب في عموم مصر وقتها بلغ 223 مدرّساً/ةً، بينما كان عدد المصريون 192 فقط.
وانعكس ذلك على الدارسين أنفسهم واتجاهاتهم الدراسية، حيث تبيّن أن عدد الدارسين للموسيقى الغربية 2،384 دارساً، بينما كان يدرس الموسيقى العربية 1،789 فقط.
والأرقام السابقة تخص التعليم الموسيقي النظامي، أما عدد المدرّسين الأجانب في التعليم غير النظامي عبر الأندية والفرق الموسيقية، فكان 14 مدرّساً، بينما بلغ عدد المصريين 59 معلماً ومعلمةً.
ولكن المثير أن هذا الفارق بين رقمَي "14" و"59"، بالنسبة إلى عدد المعلمين في هذا القطاع غير النظامي، يبدو غير متناسب مع نسبة عدد دارسي الموسيقى الشرقية في مقابل الموسيقى الغربية فيه، حيث بلغ عدد دارسي الموسيقى الشرقية بشكل غير نظامي 637 دارساً، أما دارسو الموسيقى الغربية فكانوا 425، أي أننا نستطيع الاستنتاج بأن هناك مصريين في هذا التوقيت كانوا يُعَلِّمون الموسيقى الغربية، بجانب المدرّسين الأجانب.
هذا التغوّل الأوروبي لم ينشأ عام 1932، وإنما بشكل تدريجي وفقاً للسياقات التاريخية التي أشرنا إليها، وانعكس على كثير من الألحان خلال الـ15 عاماً السابقة على المؤتمر، أي منذ نهايات الحرب العالمية الأولى، والتي اختلطت خلالها الموسيقى الشرقية بالغربية، وهو أمر استنكرته لجنة التأليف في المؤتمر، وقالت إنه شائع بين الجيل الجديد من الملحنين، ومنهم محمد عبد الوهاب الذي كان أحد أفراد اللجنة.
ما يثير التأمل أيضاً، ويثبت كيف كان المصريون والعرب في ذاك التوقيت يهتدون بأوروبا في تطوير موسيقاهم، هو حجم الخبراء الأوروبيين الحاضرين في المؤتمر، من فنانين وأكاديميين، والذين كادوا يسيطرون على لجانه.
بعض هؤلاء الخبراء كانوا يقيمون في مصر وآخرون استدعتهم وزارة المعارف المصرية، واجتمعوا لمدة ثلاثة أسابيع لوضع خطط وتوصيات لتطوير الموسيقى العربية، بجانب توثيق الإيقاعات والمقامات والقوالب الغنائية والسلم الموسيقي في الدول العربية كافة.
وعُدّ هذا المؤتمر أول وأهم محفل علمي موسيقي عربي في القرن العشرين، وحضرته فرق موسيقية ووفود مثّلت كل الدول العربية القائمة وقتها، وكان بدعوة ورعاية مباشرتين من ملك مصر فؤاد الأول.
دعونا نستعرض الأسماء الأجنبية بتعريفاتها من واقع أوراق المؤتمر، وبعضهم لم تُذكَر تعريفاتهم.
-نائب رئيس المؤتمر، البارون رودلف دي ألنجر.
-لجنة المسائل العامة، وترأسها البارون كارا دي فو، وضمت: هنري فارمر، الدكتور فون هورنبوستل، الدكتور روبرت لاخمان، وكورت زاكس، أستاذ الموسيقى في جامعة برلين ومدير متحف الآلات.
-لجنة المقامات والإيقاع والتأليف ترأسها ر. يكتا، وضمت: البارون ر. دي. ألينجر، مدام لافرني، هابا أستاذ الموسيقى في معهد براج في تشيكوسلوفاكيا، والبروفيسور سالازار قائد الأوركسترا ومدير قسم الموسيقى في مسرح لير في مدريد.
-لجنة السلّم الموسيقي، ضمت البارون كارا دي فو، الدكتور هنري فارمر، الدكتور أ. فون هورنبوستل، الدكتور ي. وولف.
-لجنة الآلات وترأسها الدكتور كورت زاكس، أستاذ الموسيقى في جامعة برلين ومدير متحف الآلات، وضمت: الإسكتلندي الدكتور هنري فارمر مدير الموسيقى في تياترو جلاسكو، وقائد الفرقة الموسيقية فيه، هابا (سبق تعريفه)، د. هاينتز، بول هيندميت "المؤلف الموسيقي الألماني"، فون هورنبوستل، مسيو ف. كانتوني.
-لجنة التسجيل، وترأسها الدكتور روبرت لاخمان أمين قسم الموسيقى في دار الكتب في برلين، وضمّت: بيلا بارتوك، المؤلف الموسيقي المجري، أ. شوتان، الدكتور هاينتز، الدكتور فون هورنبوستل، مدام هرشر كليمان، مدام لافرني، مسيو ب. ريكار، الأستاذ سترن.
-لجنة التعليم الموسيقي، وكان سكرتيرها العام مسيو كوستاكي، وضمت الأستاذ هـ. شانتوفان، بول هندميت، هـ. رابو، الدكتور كورت زاكس، البروفيسور أ. فيلزا لاس، أستاذ الموسيقى في جامعة فيينا، البروفيسور وولف ر. يكتا بك، ومسيو كانتوني.
-لجنة تأريخ الموسيقى والمخطوطات، وترأسها الدكتور هنري فارمر، وضمت البارون كرا دي فو، البارون دي أزلنجر، روبرت لاخمان، الدكتور أ. فيللز، الدكتور وولف، البروفيسور جوستو زامبيري، أستاذ علم التاريخ الموسيقي في معهد ميلانو في إيطاليا، الدكتور ج. بيزنق.
هذه الأسماء رافقتها أسماء عربية كثيرة داخل اللجان، ولكن كما رأينا فإنهم تغلغلوا في كل اللجان التي كانت رئاسة غالبيتها لهم.
ما الفارق بين الموسيقى العربية والأوروبية؟
قبل أن نستكمل كيفية تأثير الأوروبيين المباشر على الموسيقى العربية، دعونا أولاً نوضح أهم الاختلافات بينهما.
هناك أكثر من اختلاف، لعل أبرزها "الآلات"، "القوالب الغنائية"، و"صياغة الجمل اللحنية والموسيقية".
بالنسبة إلى الآلات، كان التخت الشرقي (الفرقة الموسيقية الشرقية) بسيط التركيب، يتكون في الغالب من الناي والعود والقانون، ثم دخلت عليه آلة الكمان (الفيولين) وصارت كأنها شرقية، مع آلات إيقاعية بسيطة مثل الرق والطبلة.
وكان عدد أفراد التخت لا يتجاوز 6 أشخاص، بحسب دراسة نُشرت في مجلة "الموسيقى"، بتاريخ 16 أيلول/ سبتمبر 1935، بعنوان "سيد درويش: حياته وفنه".
أما الأوركسترا الغربية، فكانت أغنى كثيراً، وتتكون من مجموعة أقسام، أهمها الوتريات بفصائلها "كونترباص، فيولينسيل، فيولا، فيولين"، وآلات النفخ النحاسية وأهمها "توبا، كورنو، ترومبون، ترومبيت"، وآلات النفخ الخشبية وأهمها "فلوت، كلارينيت، فاجوت، أبوا، بيكولو"، بالإضافة إلى الإيقاعات مثل التمباني والسينير، بجانب الآلات النوعية كالهارب والبيانو، وغيرهما.
وبخلاف التعدد في الأنواع والفصائل والأقسام، فالأوركسترا الغربية قد تضم من كل نوع عدداً كبيراً، وربما يتضح ذلك أكثر في الوتريات التي قد تضم عشرات الوحدات من الآلة نفسها.
وعلى مستوى القوالب، فالموسيقى الشرقية لها قوالبها المعروفة، ومنها "الموشح، البشرف، الموال، الطقطوقة، الدور، القصيدة..."، أما القوالب الأوروبية فتضم "الأوبرا، الأوبريت، المونولوغ، الديالوغ، السيمفونية... إلخ".
ولعل أبرز اختلاف بين الموسيقى الأوروبية والموسيقى العربية، يتعلق بالصياغة وأسلوب التأليف، ويتجلى ذلك في شقّين، الأول لحنيّ ويتعلق بتقسيم المسافات النغمية، فالموسيقى الشرقية تحتوي بعض مقاماتها مثل "البياتي والصبا والرست والسيكا" على ما يُعرف بـ"ربع النغمة"، بجانب أخرى لا تحتوي على هذا "الربع" كالنهاوند والكرد والعجم. أما الموسيقى الغربية فلا تحتوي إلا على النغمات و"أنصافها"، وتنحصر في الغالب داخل سلّمَين رئيسيين بدرجاتهما، وهما "السلّم الصغير" و"السلّم الكبير".
الشق الثاني يتعلق بتركيب الأصوات ومزجها، فالموسيقى العربية تعتمد على الخط اللحني الواحد الذي لا تخالطه أو تتداخل معه ألحان أو نغمات أخرى.
لنتأمل مثلاً: "الصب تفضحه عيونه" لأم كلثوم، وهي من ألحان الشيخ أبو العلا محمد، ولُحّنت بالأسلوب الشرقي التقليدي عام 1924:
أما الموسيقى الغربية فهي موسيقى بوليفونية، أي تتكون من أكثر من نغمة تسير جنباً إلى جنب في التوقيت نفسه، في ما يُعرف بالهارمونية، وقد تتوسع الهرمونيا إلى ما يُعرف بالكونتربوينت أو الكونترابانط، أي تزامن جملتين لحنيتين مكتملتين أو أكثر، ليكونوا معاً ناتجاً موسيقياً كاملاً.
لنتأمل معاً ولو الجملة الافتتاحية لـ"بحيرة البجع" لتشايكوفسكي (إنتاج 1877)، حيث نجد آلة الأبوا تؤدي اللحن الأساسي، وبالتزامن معها تؤدي الوتريات لحناً ثانياً، والهارب لحناً ثالثاً.
هناك من يرى أن الموسيقى العربية قبل عصور الاضمحلال العثماني، كانت تحتوي على البوليفونية، مستدلاً بابن سينا الذي اشترط 4 شروط في اللحن الجيد، هي: الترعيد، التمزيج، التوصيل، والتركيب. ثم استنبط من التمزيج فرعاً سمّاه التشقيق، ومن التركيب فرعاً آخر سمّاه الإبدال. وهذا التركيب والتشقيق للنغمات هو ذاته الهارموني.
ربما كان ذلك قبل عصر الاضمحلال العثماني، لأن الموسيقى طوال هذا العصر وحتى الفترة التي نتحدث عنها لم تكن تعرف الهارمونية.
زمن سيد درويش وما بعده... كيف استفادوا من الأجانب؟
إذا عددنا أن سيد درويش هو أول من اتجه إلى الموسيقى الغربية، كما يتفق المؤرخون، فسنجد أن التطوير الذي أدخله كان بالاستعانة بموسيقي إيطالي يقيم في مصر اسمه "مسيو كاسيو"، عيّنه قائداً لفرقته الموسيقية.
كان سيد يعزف اللحن منفرداً على العود ويسجله على الفونوغراف، ليدوّنه كاسيو بعد ذلك على النوتة، ويوزعه على الفرقة الموسيقية، ويضيف إليه تآلفات هارمونية تؤدَّى بالتزامن مع اللحن الأساسي، حسب ما يشيع بين المصادر.
وتجلت الموسيقى البوليفونية عند سيد في مسرحياته الغنائية، ومنها "شهرزاد"، التي ضمت أول الألحان البوليفونية في اللحن الختامي للفصل الأول، بحسب فيكتور سحاب، ولكننا لم نعثر على النسخة الأصلية لعرضها، والنسخة المتداولة لها هي ما قدّمه الموسيقار محمد حسن الشجاعي في ما بعد.
كما ذكرنا، كان التخت الشرقي لا يتجاوز عدده 6 عازفين، لكن عدد العازفين في فرقة سيد درويش وصل إلى 26 عازفاً بقيادة كاسيو، وشملت آلات غربيةً لعل أبرزها البيانو وآلات النفخ والوتريات.
هذه الحالة بدأها درويش عام 1917، حين افتتح كازينو غلوب مسرحاً يضم فقرات شرقيةً وغربيةً، وأسند إلى درويش تلحين المسرحيات، فشكل فرقته وبدأ نمطاً جديداً في حياته الفنية يختلف عما سبقه.
فقد كان قبل هذه المرحلة شرقياً، يؤدي القوالب التقليدية، ولكن حين بدأ التلحين المسرحي استعان بالأدوات الغربية، وكان حريصاً على استخدام المقامات التي لا تحتوي على ربع النغمة، كمقام العجم الذي يعادل السلّم الغربي الكبير ( major) والنهاوند الذي يعادل السلّم الصغير (minor)، كي تستطيع الآلات الغربية أداءها.
بخلاف مسيو كاسيو، الذي صاحب سيد درويش، هناك أسماء أوروبية أخرى برزت في الفترة نفسها، مثل جوزيف برجرين، جوزيف هوتيل، جينو تاكاش، أدولف منشا، وساندي روز دول.
وهؤلاء كانوا يُدَرِّسون الموسيقى بشكل حرّ، والبعض منهم أنشأ قاعات دراسيةً في القاهرة، مثل جوزيف برجرين الذي تعلم على يديه الموسيقار محمد عبد الوهاب، حسب ما ذكر عبد الوهاب نفسه في تقديمه للترجمة العربية لكتاب "كيف تتذوق الموسيقى؟"، لأرون كوبلاند.
كانت أول محاولة لتحديث الموسيقى، وفقاً للطراز الأوروبي، على يد محمد علي باشا، الذي حكم مصر من سنة 1805 حتى سنة 1848، وسيطرت دولته على السودان وبلاد الشام والحجاز واليمن
ولعل أبرز ما فعله هؤلاء الأساتذة أنهم خرَّجوا موسيقيين مصريين قادرين على قيادة الأوركسترا وتنفيذ وتوزيع الألحان التي تضعها أسماء كبيرة مثل محمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش.
من هذه الأسماء كان محمد حسن الشجاعي، عزيز صادق، إبراهيم شفيق، أحمد شريف، أحمد صبرة، علي فراج، وحسن الصياد، وكانت فرق هؤلاء الموسيقيين، وأبرزها فرقة الإذاعة المصرية، قادرة على أداء الموسيقى الأوروبية البوليفونية، حسب ما يذكر الناقد عادل كامل، في مقال له نشرته جريدة "الاتحاد" الإماراتية (عدد 14 تشرين الأول/أكتوبر 1996).
يقول الموسيقار كمال الطويل، إن عبد الوهاب لم يوزّع لحناً في حياته، وتالياً فإن التطويرات التي شهدتها أغانيه، لم يكن يستطيع إنجازها إلا بالاستعانة بقائد أوركسترا أو موزّع يستطيع تحويل اللحن الذي يضعه على العود، إلى عمل مُوَزَّع متكامل تؤديه أوركسترا.
وهكذا كان القصبجي والأطرش ومحمود الشريف ومحمد فوزي، فجميعهم لم يدرسوا فن التوزيع الموسيقي.
إلا أنهم كانوا يشرفون على هذا التوزيع بأنفسهم، ويتناقشون فيه مع قائد الأوركسترا والموسيقيين، ويبدون رغباتهم في تنفيذ تصوّرات معيّنة، وكذلك كانت بعض ألحانهم صالحةً للتوزيع البوليفوني.
وفي بداية الخمسينيات، بدأت تتبلور مهنة الموزّع، على أيدي اسمين أوروبيين، هما اليوناني أندريا رايدر، الذي استعان به عبد الوهاب في الكثير من أعماله، ويُعدّ أول من قدّمه في أغنية "أنا والعذاب وهواك"، والإيطالي بيبي ألمانزا الذي برز في أعمال فريد الأطرش ووزّع الكثير من أعماله، ولعل أشهرها "نجوم الليل"، حسب ما صرّح لنا الموزع والمؤلف الموسيقي الدكتور هشام خلف.
ولكننا نواجه دائماً أزمةً في العثور على اسم الموزّع الموسيقي مطبوعاً على الأسطوانات الغنائية أو يتردد على لسان مذيع الإذاعة في تلك الفترة، فدائماً ما كان يُكتَب أو يقال "لحن فلان"، دون أن يشار إلى اسم الموزّع، وقد يفهم الجمهور ضمنياً أن الملحّن هو الموزّع.
ومن خلف ألمانزا ورايدر، ظهر جيل جديد من الموزعين، لعل أبرزهم علي إسماعيل الذي تتلمذ على يد أندريا رايدر.
وابتداءً من هذا الجيل الذي احترف التوزيع في الخمسينيات، بدأ لمعان مهنة الموزّع واسمه تدريجياً، حتى صار اسمه يُكتب على شريط الكاسيت بجوار الملحن والشاعر والمطرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...