الموسيقى والميتافيزيقا، فن الموسيقى من منظور فلسفي، الموسيقى السحرية، والأثر الماورائي للموسيقى. في هذه المحاور نتناول موضوعاً قدمه لنا الكاتب والمؤلف العراقي (علي الشوك 1930 – 2019) قبل أن يفارق الحياة هذا العام، حيث أنه كرس جهداً كبيراً للكتابة عن فن الموسيقى، فخصص لهذا الفن العديد من مؤلفاته: "الموسيقى الإلكترونية، 1978"، "أسرار الموسيقى، 2003"، وكتابه الأخير الذي صدر قبل وفاته، حمل عنوان "الموسيقى والميتافيزيقا"، خصصه المؤلف لدراسة العلاقة بين الموسيقى والفلسفة.
لكل آلة موسيقية فلسفتها
يعتبر المؤلف أن تاريخ ابتكار الآلات الموسيقية هو تاريخ محاولات العلم والتقنية الوصول إلى الصوتية الأكمل والأفضل، لذلك فإن كل ابتكار لآلة موسيقية عبر التاريخ هو نتيجة إنجاز علمي في خدمة الموسيقى: "الكمال في التقنية هو الجمالية العالية التي نلمسها في الآلات الموسيقية"، لقد فتحت آلة العود الطريق أمام الآلات الوترية التي تعزف بالقوس، ومع تطور صناعات الآلات الوترية في المدرسة الإيطالية ظهر (الكمان، الفيول، والتشيلو)، ومع اكتشاف محدودية آلة الأورغن والهاربسيكود، وصعوبة التحكم في ارتفاع الصوت وخفوته مع آلة الكلافيكورد، جاء ابتكار آلة البيانو، ليعد أهم إنجاز ثوري في تاريخ الآلات الموسيقية. وبعد أن كان القرن الثامن عشر قرن الهاربسيكورد، أصبح القرن التاسع عشر قرن البيانو، كما هو قرن الرواية في الأدب. البيانو جاء نتاج عبقرية هندسية وموسيقية. هو إبداع حالمين، ميكانيكيين، نجارين، مفكرين، كلهم شاركوا في إنجازه، فابتكاره نموذج للفكر الساعي في خدمة الموسيقى".
الموسيقى السردية
كما مع الآلات الموسيقية، فإن القوالب والأشكال التي عرفتها الموسيقى في تاريخها، تتعلق أيضاً بالفكر والفلسفة السائدة في لحظة ظهورها. فمثلاً، يربط المؤلف بين ظهور القوالب الموسيقية الرباعية البنية مثل: النوبة، المتتالية، السوناتا والسمفونية، مع ظهور الرواية، ويرى أن لهذه القوالب البنية ذاتها في الأدب الروائي. لذلك يمكن أن نطلق على هذه القوالب الأربعة لقب الموسيقى السردية. أولها "النوبة" الذي يعود إلى الموسيقى الإسلامية، ابتكر على يد ابن حرز، تتألف من أربع مقطوعات تترافق فيها القصيدة مع الموسيقى. أما المتتالية Suite، فهي أيضاً قالب رباعي لكنه يقتصر على الموسيقى، لا يصاحبه الغناء، بل يصاحبه فن الرقص الجماعي المضبوط على الإيقاعات والألحان للمقطوعة الموسيقية الرباعية. ثم أتى الشكل الأكثر إسهاماً في تطوير الموسيقى الآلاتية، حسبما يرى تشارلز روزن، وهو السوناتا Sonata، هذا القالب حمل الطابع الدرامي إلى الموسيقى، ولننظر كيف تتألف المتتالية من ثلاث حركات: العرض، التطوير، والخلاصة. كأنها تتشارك البنية الدرامية مع النصوص المسرحية، التي تتألف أيضاً من: بداية، عقدة، حل أو خاتمة. أما الشكل الموسيقي الأخير في القوالب الدرامية، فهو الأكثر شهرة في تاريخ الموسيقى الأوركسترالية، وهو السمفونية Symphony، يعتبرها المؤرخون الموسيقيون واحدة من السرديات الكبرى في تاريخ الحضارة الإنسانية، أشهرها: سمفونيات بيتهوفن التسع، سمفونيّتا شوبرت الثامنة والتاسعة، سمفونيات براهمز الأربع، سمفونيات بروكنور التسع، سمفونيات ماهلر العشر، سمفونيات سبيليوز التسع، وسمفونيات شتوستاكوفيتش الخمس عشرة، والسمفونية أيضاً قالب ذو بنية رباعية أو خماسية في بعض الأحيان، مثل باقي الأشكال الموسيقية السردية.
"القوة الخفية التي تكمن في الموسيقى هي ضرب من الميتافيزيقا"
"كيف يمكن للموسيقى الحزينة أن تريحنا وتسرنا، وحتى تسعدنا؟ ضرب غريب من الحزن يجترح السرور"
الموسيقى الشعرية
جون فيلد
مع بداية القرن التاسع عشر، اتخذت الموسيقى منحى جديداً بعيداً عن السرد، إذ راحت تميل إلى الشعر في الموسيقى، خصوصاً مع ظهور قالب الليليات Nocturnes، مع مؤلفات الموسيقي الإيرلندي جون فيلد. الليليات مقطوعات موسيقية رباعية أيضاً تؤدى على آلة واحدة، تحديداً البيانو، لكنها تنحو باتجاه الألحان الشعرية والصوتيات الرقيقة، تطورت على يد مؤلفين مثل: بيتهوفن، شومان، شوبان، وليست. لكن ما الذي يعنيه ميل الموسيقى نحو الشعر؟ يصف علي الشوك ليليات جون فيلد بأنها موسيقى غير متبجحة، تحوي صوراً ذات مزاجية شعرية، تستنهض حساً شفافاً عند المستمع، هذا برأيه ما سعى إليه جون فيلد في مؤلفاته، فنقل رغبة البحث عن الشعر في الموسيقى إلى فريدريك شوبان، وكلود ديبوسي من بعده.
الموسيقى كقاعدة رياضية
ريتشارد فاغنر عام 1868
مع سعي ريتشارد فاغنر للوصول إلى "الموسيقى المتنافرة Dissonant music" تنتقل الموسيقى إلى فلسفة وفكر آخر، تصبح الموسيقى خاضعة لمنطق رياضي، ذلك يظهر بوضوح مع تجربة الموسيقي النمساوي آرنولد شونبرغ، والذي كان هدفه كنس كل الأشكال الموسيقية التي خدمت الموسيقى على مدى ألف عام، والاستعاضة عنها بنظام يستند بالكمال إلى نظام رياضي، مبتكراً نظام الموسيقى الاثني عشرية، الذي يفرض على الموسيقي نظاماً رياضياً عند التأليف، يُمنع فيها المؤلف من تكرار أي نوتة في الجملة اللحنية، قبل أن تمر النوتات الاثنا عشر الأخرى كاملة. لذلك، أطلق البعض على موسيقاه لقب "الموسيقى اللا لحنية"، حيث لا مركز ثقل لحني يجذب المستمع، بل قاعدة رياضية تحمل بنية الموسيقى، لا يجب إعادة أية نوتة في التأليف قبل أن تستعمل النوتات الأخرى كاملة. وسمي هذا النظام أيضاً بالنظام التسلسلي أو اللامقامي، واعتبر كثورة في عالم التأليف الموسيقي، في بدايات القرن العشرين.
موسيقى العوالم الخرافية
إيغور سترافنسكي
من القرن العشرين أيضاً، يهتم المؤلف بموسيقى الباليه عند الروسي إيغور سترافنسكي، الذي اعتبرت مقطوعة الباليه خاصته "الطير الناري" مفصلاً في تاريخ الموسيقى. فمن حيث الحكاية قدمت هذه الباليه مزيجاً من عدة حكايات عن طير سحري، جمعت بين شخصيات إنسانية وكائنات فوق طبيعية، مزجت العالم الفانتازي مع الإنساني البشري. أما على مستوى الموسيقى فقد عزز سترافنسكي بموسيقاه عنصر التناقض بين العالم الإنساني والفانتازي، فجعل لكل من العالمين أسلوبه الموسيقي المختلف. ربط الشخصيات الإنسانية، كالأمراء، بالغناء الفلكلوري، بينما صمم موسيقى الكائنات الفانتازية على السلم الأوكتاني ليجعل مقطوعاتها أكثر غرابة وتعقيداً. باليه "الطائر الناري" نموذج مثالي في تأسيس الحكاية والموسيقى على مفاهيم مشتركة.
الموسيقى الكونية
كارلهاينز شتوكهاوزن
وفي الحديث عن المؤلفين، يختار علي الشوك أيضاً، موسيقى كارلهاينز شتوكهاوزن، فتحت عنوان "شتوكهاوزن وموسيقى الكون"، يتحدث عن مؤلفيه: Telemusik، Hymnen. عملان موسيقيان حاول فيهما شتوكهاوزن بلوغ ما أطلق عليه لقب "موسيقى الكون"، وفي مؤلفه Kurzwellen طلب من العازفين أن يكونوا على استعداد دائماً لسماع نداء المجهول، ومن بعدها فصاعداً أعطى شتوكهاوزن لموسيقاه أبعاداً ميتافيزيقية. في العام 1982، قدم شتوكهاوزن عمله Clepsydra، لست عشرة أيقونة صوتية وضعت حول المستمعين، كانت النتيجية "بلازما صوتية": "صوت حي يمكن إدراكه فقط من منظور كوني، مشابه لصورة الأرض عندما تصور من الفضاء الخارجي"، الصوت يرتعش بحياة داخلية في حين يصبح ساكناً في الإطار العريض، ثم يتحرك بصورة بطيئة من مادة كثيفة إلى نغمة واحدة ليتحرك إلى الوراء من جديد.
الموسيقى السحرية
امتلكت الموسيقى عند السومريين قدرة التقريب من الآلهة، والتماس رضاها عندما تغضب. وفي الأسطورة الإغريقية تمتلك موسيقى أورفيوس سحراً يجعل الحيوانات وحتى الأشجار والصخور تتبعه حين يعزف. كما أن بحارة أوديسيوس يفقدون رشدهم من تأثير غناء السيرينات، فتنصحه كيركة بأن يضع شمعاً في آذانهم، وأن توثق أيديهم وأرجلهم إلى سارية السفينة، ولا يفك وثاقهم مهما افتتنوا بغناء السيرينات.
موسيقى أورفيوس
وفي الحكاية الشعبية "عازف مزمار هاملن"، يسحر العازف الأطفال فيتركوا منازلهم ويتبعونه. وتدفع الموسيقى "الملك ريتشارد" في مسرحية شكسبير إلى الجنون. كما يذكر أبو حيان التوحيدي في "الرسالة البغدادية" حكايات عديدة عن المنصتين إلى الغناء والموسيقى الذين يفقدون صوابهم. وفي الرواية الحديثة تودي "سوناتا كروتزر" ببطل قصة تولستوي التي تحمل العنوان نفسه، إلى الجنون. كلها شواهد عن التأثير السحري للموسيقى، فيكتب علي الشوك: "القوة الخفية التي تكمن في الموسيقى هي ضرب من الميتافيزيقا"
عازف مزمار هاملن
الحزن الموسيقي والحزن الفلسفي
السمة الشعورية التي تستحق التوقف عندها، والتي تربط الموسيقى والفلسفة هو الحزن. طالما ارتبطت الموسيقى بالحزن والفلسفة كذلك. العلاقة بين الحزن والفكر، تسمى بـ"الميلانخوليا الفلسفية"، يكتب عنها هارتموت: "إن الفلسفة كانت ولا تزال فكراً ميلانخولياً في جوهره"، هناك تقليد قديم حول العلاقة بين الكآبة "الميلانخوليا" والثقافة أو المثقف. أرسطو وضع الكآبة في مصاف الأشياء البطولية التي تقترن بالعباقرة، وأشار هايدغر أيضاً إلى أن التفكير الفلسفي يصاحب بمسحة ميلانخولية قاتمة، وتعتريه نزعة سوداوية غامرة، ولاحظ هايدغر أن هذه النزعة تستبد أيضاً بكل المبدعين العباقرة، فبرأيه أن هذا الإحساس الذي يرافق كل فعل إبداع وتفكر، هو انفعال عميق يرافق الإبداع الحقيقي.
هذا عن الحزن في الفلسفة، أما عن الحزن الموسيقي، فيصرح نيتشه أن الموسيقي المفضل لديه هو ذلك القادر على التعبير عن آلام السعادة، وهنا يقف علماء الجمال أمام السؤال المحير عن التلذذ بالألم في الموسيقى، يكتب جون هوسبرز عن ذلك السر الذي يمتعنا في الموسيقى الحزينة: "كيف يمكن للموسيقى الحزينة أن تريحنا وتسرنا، وحتى تسعدنا؟ ضرب غريب من الحزن يجترح السرور"، يميز جون هوسبرز بين الحزن الحقيقي والحزن الموسيقي، يرى أن الاستجابة العاطفية للموسيقى الحزينة هي في الواقع ليست حزناً حقيقياً، بل حزناً موسيقياً: "الحزن الذي يتم التعبير عنه في الموسيقى يختلف تماماً عن الحزن في الحياة. الحزن في الموسيقى يتخذ طابعاً لا شخصياً، إن له بعداً تجريدياً".
سمفونية إيرويكا لبيتهوفن
يحاول نيتشه أن يشرح لنا أن الحزن الموسيقي شيء يبعث البهجة في النفس على نحو غامض، ويقدم لنا الأمثلة على المقاطع الموسيقية التراجيدية التي تنعش الروح، يعدد منها: الحركة البطيئة في سمفونية إيرويكا لبيتهوفن، المارش الجنائزي في أوبرا غوتردامرونغ لفاغنر، وبالتالي، يصل المؤلف علي الشوك إلى فرضية تقول: "إذا كانت الفلسفة فكراً ميلانخولياً، فإن الموسيقى هي الفن الميلانخولي".
القوى الماورائية للموسيقى
على القارئ الانتظار حتى الفصل الثاني عشر حتى يقدم المؤلف أطروحته الواضحة عن العلاقة بين الموسيقى والميتافيزيقا.
الميتافيزيقا تتعامل مع المبادئ الأولى، وبخاصة الوجود/ الأنطولوجيا، والمعرفة/ الأبستمولوجيا. يبين علي الشوك أنه من رافضي فكرة الميتافيزيقيا، أي الماوراء، لكنه يذكر كتابات الفيلسوف إيمانويل كانط عن ميتافيزيقيا الطبيعة، وميتافيزيقيا القيم. استعمل مصطلح الميتافيزيقيا أيضاً في الإشارة إلى الرغبة التقليدية في الوصول إلى معرفة العالم الذي يقع خارج عالمنا الطبيعي، أي العالم المتعالي، أو المتسامي. لذلك يحاول أن يستعمل الميتافيزيقيا بمعنى الفكر المتعالي عن العالم الحسي، من هنا بدأ ربطها مع أثر الموسيقى وخواصها.
لإثبات ذلك، يحاول تقديم تعريفه للموسيقى، على أنها أصوات تستعذبها الأذن، وتولد متعة استطيقية، الموسيقى تنطوي على بناء تقني رفيع في تراكيبه الصوتية، تخلق تأثيراً سايكولوجياً يخاطب الروح، هذا التأثير السيكولوجي الذي يخاطب الروح هو البعد الميتافيزيقي الماورائي بحسب نظرية علي الشوك.
الموسيقى والميتافيزيقا، عنوان محرف عن أحد فصول كتاب "فاغنر والفلسفة" للفيلسوف البريطاني المعاصر بريان ماجي. العنوان الأصلي هو الميتافيزيقيا كموسيقى، فيه يكتب بريان ماجي عن تأثر فاغنر المباشر بأفكار شوبنهاور الفلسفية. شوبنهاور من بين الفلاسفة الذين اهتموا بالموسيقى في بعدها الفلسفي من خلال تقنيتها. الموسيقى عند شوبنهاور هي أكثر الفنون تجريداً، ولها طابع خاص، لأنها تعبر عن الحقيقة المطلقة مباشرة. وبمقتضى فلسفته فإن الإرداة / الفكر هو معاناة، أما التجربة الإستطيقية، لا سيما الموسيقية، فتحقق لنا خلاصاً مؤقتاً، خلاصاً قصير العمر. يعتقد شوبنهاور أن الموسيقى هي حياة بديلة موجودة في دخائلنا، وهذا يعني أن الماوراء الميتافيزيقي موجود داخل ذواتنا، تساعدنا الموسيقى على التثبت من حقيقة وجوده وحيويته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...