خلال العصور الوسطى كانت تُهمة رائجة تجاه المرأة، هي ممارستها السحر والشعوذة. ولكن لماذا المرأة بالتحديد هي التي أُلصقت بها تهمة السحر؟
كتب القس الألماني هينريتش كريمر، كتابه "Die Hexe hammer" أو "مطرقة الساحرات"، الجملة الأكثر لفتاً للنظر: "بشعة جداً هي جرائم الساحرات حتى أنها تتجاوز خطايا ملائكة الشرّ الساقطة". يُعدّ هذا الكتاب، الكتاب الأكثر شرّاً على الإطلاق؛ فبسببه تم قتل العديد من النساء حول العالم، وحتى الأطفال بلا ذنب حقيقي ولا تهمة منطقية يستحققن القتل عليها، فما أصل الفكرة؟
كتاب "إينوخ-أخنوخ" و"الملائكة الساقطة"
"إخنوخ" هو الاسم العربي وEnoch "إينوخ" هو الاسم بالإنكليزية. أما חֲנוֹךְ "حانوخ"، فهو الاسم بالعبرية. سُمّيت أربع شخصيات توراتية بهذا الاسم "حانوخ" חֲנוֹךְ، أولهم الابن البكر لقاين، كما ورد في سفر التكوين (4: 17)، وثانيهم ابن يارد وهو من أولاد قاين كما ورد في سفر التكوين (5: 18)، وثالثهم هو الابن الثالث "لمدين" كما ورد في سفر التكوين (25: 4)، ورابعهم: هو الابن البكر لرَأُوبَيْنُ كما ورد ذكره في سفر الخروج (6: 14)، ولم يتوقف ذكر اسم "إخنوخ" عند العهد القديم فقط، بل نجد ذكره في العهد الجديد في رسالة يهوذا الرسول (1: 14): "وتنبأ هؤلاء أيضاً أخنوخ السابع من آدم"، كما ذكر البروفيسور أندريه أورلوف أستاذ الدراسات اليهودية في جامعة ماركيت في الولايات المتحدة، في بحثه " Mysterious Writings in the Book of Enoch". فهو في رسالة "يهوذا" يُعدّ نبيّاً، وله نبوءة.
إذا عُدنا إلى العصور الوسطى، فكانت تُهمة رائجة تجاه المرأة آنذاك، وهي ممارستها السحر والشعوذة. ولكن لماذا المرأة بالتحديد هي التي أُلصقت بها تهمة السحر؟
أما معنى الاسم العبري فمن المرجح اشتقاقه من الفعل العبري التوراتي "חָנַךְ" بمعنى أرشدَ، عَلَّمَ، دَرَّسَ، ومنه المصدر "חִנּוּךְ" أي التعليم.
ولكن ما هو سفر "إينوخ" أو "حانوخ"؟
سفر إينوخ هو أحد الأسفار المنحولة وتُسمّى بـ"Pseudepigrapha"، وهي كلمة لاتينية والتي يطلق عليها أحياناً "الأبوكاريفا"، وهي أسفار لم تُضمّ إلى الكتاب المقدس سواء التناخ (العهد القديم)، أو الأناجيل (العهد الجديد)، ويذكر لنا البروفسور روبرت تشارلز أستاذ علم اللاهوت (متخصص في الإسكاتولوجي والأبوكاريفا اليهودية) في جامعة كوين البريطانية، في كتابه "The book of Enoch or Enoch 1"، أن السفر كُتب ما بين 200 ق.م و100 ق.م، باللغة العبرية والآرامية، وهناك حتى الآن ثلاثة كُتب واحد باللغة الإثيوبية، والثاني باللغة السلافية، والأخير باللغة العبرية.
تناولت النسخة العبرية مجموعةً من الأحلام والرؤى التي رآها إخنوخ والد متشوالح قبل طوفان نوح، ويشير بروفسور "أندريه أورلوف" إلى أن هذه الرؤى ملفقة وغير صحيحة وتم استعمال اسم إخنوخ ليعطيها مسحةً دينيةً، وللدعاية عن بعض الطوائف الدينية. ويكمل البروفسور بأن أول نسخة ظهرت لهذا الكتاب كانت باللغة الجزعية الحبشية عام 1821، والتي تُرجمت إلى الإنكليزية بواسطة البروفسور ريتشارد لورانس، ثم عُثر على النسخة العبرية والآرامية في لفائف القمران عام 1948، ومن خلال تحليل النصوص والتأريخ الكربوني وجد أنه كُتب في عصر ما قبل المكابيين، ويتكون السفر أو مجموعة إيخونيك، من ستة إصحاحات (أحياناً تسمّى الكتب الستة)، وهي في الأصل منفصلة عن بعضها البعض، تستخدم جميعها اسم "إخنوخ" بأهداف مختلفة.
ما يعنينا في سفر "إخنوخ"، هو إصحاح المشاهدين-المراقبين أو Th watchers، والذي يسرد فيه المؤلف النسخة السلافية من سفر إخنوخ عن الملائكة الساقطة كما يوضح بالتفصيل البروفسور "أندروا أورلوف" في بحثه "The watchers of satanail: The fallen angels traditions in (Slavonic) Enoch 2" (هم لا يميزون بين الشياطين والملائكة في تلك الكتابات).
أرادت تلك الملائكة أن تدخل عالم البشر وتنشر الفوضى والمعاناة، عن طريق تلبّسهم ونشر الشرّ بينهم، وهذا ما استدل عليه بعض الباحثين مما ورد في سفر التكوين الإصحاح السادس (1 – 2): "وَحَدَثَ لَمَّا ابْتَدَأَ النَّاسُ يَكْثُرُونَ عَلَى الأَرْضِ، وَوُلِدَ لَهُمْ بَنَاتٌ، أَنَّ أَبْنَاءَ اللهِ رَأَوْا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ. فَاتَّخَذُوا لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا"، أي أبناء الله وهم الملائكة أو الشياطين وأصبحوا بعد ذلك يُسمّون "الملائكة الساقطة" في الدين المسيحي، واستحسنوا بنات الناس أي بنات البشر، فتزوجوهنّ، وكان هذا أحد أسباب جلب الطوفان على الأرض. ومن هنا أيضاً تم ربط السحر عادةً بالنساء، وكُتب في القرن الثالث أو الرابع قبل الميلاد، مثلما حدد خبراء اللغة ويُعدّ "إصحاح المراقبين" أحد أهم مصادر التصوف اليهودي، كما يوضح البروفيسور أندروا أورلوف.
تعليم الملائكة الساقطة السحر للنساء
تأخذنا الباحثة حنان جابر، وهي باحثة في جامعة إلينويز في الولايات المتحدة، خلال بحثها "Harut and Marut in the Book of Watchers and Book of Jubilees"، نحو عالَم سفر إخنوخ فتوضح لنا حكاية "The watchers – المراقبون": في كتاب "المراقبون" من سفر إخنوخ، اشتهت ملائكة السماء بنات البشر وقرروا أن يختاروا منهن زوجات لهم وأنجبوا أطفالاً منهن، وكان الملاكان "شيميزاها" و"إسائيل" هما قائدا تلك الملائكة الساقطة، فبعد نزولهم إلى الأرض وزواجهم من بنات البشر، عَلَّم أولئك الملائكة زوجاتهم السحر والتعاويذ الشريرة، وأسرار السماء، فورد في سفر إخنوخ 1 (6: 2) (وهي ترجمة عربية للفقرات الإنكليزية من سِفر إخنوخ): "دخلا 'شيميزاها' و'إسائيل' على بنات البشر وتنجسوا معهن، وكشفوا لهن كل الآثام، وعلّموهن صنع التعاويذ الشريرة"، وكانت نتيجة تلك الزيجات العمالقة الذين أخذوا يعيثون في الأرض فساداً وينهبون ويقتلون، حسب ما ورد في سفر إخنوخ.
والجدير بالذكر أن الحكاية نفسها وردت أيضاً في سفر The jubilees اليوبيلات، وهو أحد الأسفار المنحولة، ويبدو أن ما فيها حدث في الزمن نفسه الذي حدثت فيه حكايات سفر إخنوخ، ويرجّح الباحثون كتابته ما بين القرن الثالث والثاني قبل الميلاد، فورد في سفر اليوبيلات (4: 15) (هي ترجمة عربية للفقرات الإنكليزية من سفر اليوبيلات): "سقطت ملائكة السماء على الأرض، أولئك الملقبون بالمراقبين The watchers، الذين كان واجباً عليهم تعليم رجال البشر الاستقامة والعدل". وتوضح لنا الباحثة حنان جابر أن نزولهم إلى الأرض كان بأمر إلهي، لكي يعلّموا الناس البرّ والتقوى، وليس تمرداً كما ذُكر في سفر إخنوخ (وهذا هو الاختلاف بين الحكايتين)، ولكن الملائكة اشتهت بنات البشر وتزوجوهنّ، وعلموهنّ السحر.
ثم يُكمل "سفر اليوبيلات" كيف أن الربّ ردع تلك الملائكة، (5: 6) (ترجمة من الإنكليزية): "فغضب (الربّ) وأمر أن يجرَّدوا تلك الملائكة من كل قدراتهم، وأمر أن نوثقهم في أعماق الأرض، وها هم مقيّدون في الوسط، ومنفصلون عن بعضهم بعضاً".
وبسبب ما حدث من فساد في الأرض، قرر الرب أن يهلك البشرية عن طريق الطوفان (طوفان نوح)، وهذا ما تم ذكره في سفر التكوين (6: 1 – 17): "وَحَدَثَ لَمَّا ابْتَدَأَ النَّاسُ يَكْثُرُونَ عَلَى الأَرْضِ، وَوُلِدَ لَهُمْ بَنَاتٌ، أَنَّ أَبْنَاءَ اللهِ رَأَوْا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ. فَاتَّخَذُوا لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا، ... وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ، ... فَهَا أَنَا آتٍ بِطُوفَانِ الْمَاءِ عَلَى الأَرْضِ لأُهْلِكَ كُلَّ جَسَدٍ فِيهِ رُوحُ حَيَاةٍ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ. كُلُّ مَا فِي الأَرْضِ يَمُوتُ".
ويوضح بالتفصيل أستاذ علم اللاهوت في كلية اللاهوت جامعة أوتريخت في هولندا، جاب دويدينس، في بحثه "The sons of god"، أن هناك تفسيرات عديدةً على من هم "בני אלוהים – أبناء الرب"؛ فأحد التفسيرات أنهم ملائكة لهم قدرات خارقة، والبعض يرى أنهم كائنات إلهية لها قدرة على القضاء والحكم على البشر، وآخرون يرون، أنهم مُعارضون لنسل قاين الشرير، وهم من نسل شيث، وهكذا، فهو يعرض كل التفسيرات ويبدأ بتحليلها بشكل عميق.
مطرقة الساحرات
وكما أوضحنا أن كاتب سفر التكوين أشار إلى زواج الملائكة الساقطة من بنات البشر، ثم أتى سفر إخنوخ واليوبيلات ليعرض كيف أن الملائكة الساقطة علمت النساء وحدهنّ، السحرَ والقدرات الخارقة، فأصبح هذا الأمر ملاصقاً للنساء على مرّ العصور، مما جعل العديد من الكهنة ورجال الدين المسيحي خاصةً في فترة العصور الوسطى في أوروبا، يكتبون كتباً تشير إلى ذلك الأمر، وليس هذا فحسب، بل كيف يمكن أن يُطرد الشياطين من أجساد البشر في حالات التلبس، مثل كتاب "مطرقة الساحرات - Die Hexe hammer" للقس الألماني هينريتش كريمر.
ورد في سِفر إخنوخ، "دخلا 'شيميزاها' و'إسائيل' على بنات البشر وتنجسوا معهن، وكشفوا لهن كل الآثام، وعلّموهن صنع التعاويذ الشريرة".
كُتب الكتاب باللغة اللاتينية تحت عنوان " Malleus maleficarum" عام 1487، ثم تُرجم إلى الألمانية بعد 400 سنة أي عام 1906، ثم تُرجم إلى الإنكليزية بعد سبعة عشر عام أي عام 1923، وترجم إلى العربية بعد مئة عام أي عام 2020.
طرح القس فيه تساؤلات عدة بلغ عددها 31 سؤالاً، أجاب عليهم في 391 صفحةً، من أبرزها: "هل الإيمان بوجود كيانات شريرة كالساحرات هو شيء مهم؟"، و"عن الطريقة التي يتلبس بها الشياطين بالإنسان عبر أعمال الساحرات"، وغيرها من الأسئلة التي راحت ضحيتها أكثر من ربع مليون امرأة سُفكت دماؤهن باسم هذا الكتاب وحُرقن باسمه، وتكفي حادثة قرية سالم في الولايات المتحدة وما حدث هناك من تهم لم تثبت في معظمها على النساء قط.
ولكن لم تكن عمليات القتل مقتصرةً على النساء، فقبل هذا الكتاب عُقدت "محاكم التفتيش"، ويذكر المؤرخ الفرنسي هينري تشارلز في كتابه "A history of the inquisition of Spain"، أن محاكم التفتيش هي المحاكم المقدسة التي كان يرأسها الباباوات ومن قبل الآباء الدومينيكان والفرنسيسكان مباشرةً، واتفق العديد من الباحثين على أن بداية تلك المحاكم كانت على يد البابا "جريجوري التاسع" تحديداً بين عامي 1227 و1229، وكانت ضد الهراطقة أي كل من يخالف الإيمان والعقيدة الكاثوليكية المسيحية، أمثال اليهود والبروتوستانت والمسلمين والأحرار، كما يوضح دكتور علي مظهر في كتابه "محاكم التفتيش".
طاردو الأرواح الشريرة في الفاتيكان
"حين سخرنا من الشيطان وقلنا لأنفسنا إنه غير موجود، تلك كانت أسعد لحظاته".
الأب جابريل آمورث، رئيس طاردي الأرواح الشريرة في الفاتيكان (1986-2016)
هكذا افتتح فيلم "The Pope's Exorcist"، الذي سعى إلى أن يقدّم لنا رؤيةً أخرى، لما حدث في العصور الوسطى من قتل وتعذيب باسم الكنسية والدين، وهو فيلم مقتبس من قصة حقيقة حدثت للأب غابريال آمورث، وهو رئيس طاردي الأرواح الشريرة في الفاتيكان، توفي عام 2016، وتلك القصة مقتبسة مما كتبه عن حكايته في العديد من مؤلفاته.
كتب القس الألماني هينريتش كريمر في كتابه "مطرقة الساحرات" الجملةَ الأكثر لفتاً للنظر: "بشعة جداً هي جرائم الساحرات حتى أنها تتجاوز خطايا ملائكة الشرّ الساقطة"
فيذكر كاتب الفيلم الذي اقتبس الحكاية من مذكرات الأب "غابريال"، أن المسؤول عن الأمر بالقتل والحرق، الأب "دي أوهادا" (لا أحد يعلم صحة اسمه)، كان متلبساً من قِبل شيطان قوي، وسعى هذا الشيطان إلى أن ينشر القتل والفساد في الأرض، وهذا الشيطان هو أحد الملائكة الساقطة التي لها قدرة على التلبس وإيذاء البشر.
فورد على لسان الأب غابريال في الفيلم: "1475 م، كل ما حدث بعد ذلك هو من عمل الشيطان، قرون من التعذيب والاضطهاد وأسوأ الانتهاكات في مؤسسة القضاء، شرع بها الراهب تحت اسم الرب بفعل الشيطان"، ثم: "مئتا ملاك مارق قد دُفن في الأرض (دفن في أعماق الأرض كما ورد في سفر اليوبيلات)، وكان الشيطان يحاول أن يعثر عليهم ليشكل جيشاً، وكان هذا الدير واحداً منهم" (الدير الذي جرت فيه أحداث الفيلم).
في محاولة جديدة لتبرئة الفاتيكان من تلك الجريمة التي فعلتها في تلك العصور، والتي تسببت في مقتل آلاف بل أكثر من البشر، سواءً كانوا غير كاثوليك أم ممن اعتنقوا ديناً آخر، وكان يعيشون في بلاد حكمتها الفاتيكان آنذاك.
ونجد تيمة الملائكة الساقطة في العديد من أفلام الرعب، ففي فيلم من بطولة الفنان أنطوني هوبكينز، باسم "The rite"، يسأل الأب البطل: "هل تؤمن بالخطيئة؟"، ثم يردف: "المعركة ضد الشيطان هي المعركة الرئيسية التي لا تزال رحاها تدور حتى الآن، لأن الشيطان لا يزال حياً وناشطاً في العالم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...