جنيات، وشيطانات وكاحاجيتَك ماجيتَك.."، مقولة فريدة ليس كمثلها مقولات، فهي إعلان واضح عن بدء وقت الاستمتاع والمتعة، حين يتجمع الصغار كما الكبار حول الأجداد والجدات لسماع حكايات غابرة. إنها مقابل "كان يا مكان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان". وسواء داخل البيت أو خارجه، يتجمع المستمعون حول الراوي/ة المغربي، إلى يومنا هذا ليقصّ حكايته.
معظم هذه القصص تحمل طابعاً تعليمياً وأخلاقياً، يمرر "موعظة" عبر المبالغة في تصوير الشخوص والحوادث والأفعال، وغالباً ما تتمحور بالأساس حول قطبي الخير والشر اللذين يهيمنان على حياة الإنسان ويسيّران مصيره منذ الولادة وحتى الموت.
نساء مظلومات
لا تتعدى كتابة التاريخ نقل الرواية كما حصلت باستخدام قواعد اللغة، لكن الأمر مختلف تماما عن كتابة الحكاية الشعبية، بطبيعتها التي تحتمل الصدق والكذب وطابعها الخيال. وعلى الرغم من أن الحكايات الشعبية لا تعترف بالبشر لوحدهم، فهناك الحوريات والجنيات والوحوش والمتحولون إلى حيوانات وكائنات خرافية وغيرهم الكثير، إلا أن النساء يحضرن في كل هذه الحكايات بقوة.
لكن ما قصة اختيار النساء كأكثر المجسدات لقوى الشر في الحكايات والأساطير المغربية؟ هل للأمر علاقة بطبيعة الأنثى المتقلبة والمختلفة تماماً عن الرجل؟ أم هناك لغز حيال هذا الأمر؟
"أخبرونا بأنها عجوز، جمالها يسحر الأعين، وجاذبيتها لا تقاوم، نهارها الأحد ولونها المفضل هو الأصفر، تستطيع تحقيق الأمنيات سواء في اليقظة أو المنام، شديدة الغيرة، سريعة الغضب، لذا يجب التعامل معها بروية".
ما قصة اختيار النساء كأكثر المجسدات لقوى الشر في الحكايات والأساطير المغربية؟
هكذا يصف الناس "ميرا الحارثية" أو كما يسمونها "بسالبة العقول" الجنية التي ذاع صيتها في الأحياء المغربية لقرون من الزمن والتي تعد رمز الحب والجمال، وتنتمي لواحدة من أقوى قبائل الجن.
ميره.. قرينة الأنثى
يقال إنها تتلبس إناث الإنس، وينعكس جمالها عليهن، فيسلبن عقول الرجال، كما بإمكانها إنهاء حياة الأنثى رويداً رويداً إذا ما أصابها سحر أو شعوذة، لذلك يحذر بعض "الفقهاء" من التعامل معها، سواء من خلال زيارة الأضرحة أو حضور طقوس تستحضرها.
اختلف الناس في وصفها، بين الحورية أو الجنية، وهناك من يؤمن بوجود أكثر من ميرا واحدة، فبالإضافة إلى كبيرتهم ميرا الحارثية، هناك ميرا الزهوانية، البشوشة كثيرة الضحك، وميرا الزيانِيّة صاحبة الوشوم الجميلة، وميرا الصحراوية التي تتقن العديد من اللغات، وميرا الأمازيغية التي تتسم بالفطنة والحكمة، وميرا النصرانية المتميزة بالعطف والحنية ثم ميرا الشيطانية..
قنديشة.. جنية بحوافر بقر
في أعماق المستنقعات أو أسفل الوديان الصاخبة، يسمع حسيسها، تتغدى من لحم الرجال وتشرب من دمائهم، تخفي جمالها الفتان من خلف ثوب أبيض فضفاض، تظهر منه حوافرها بارزة للعيان، تختار من بين فرائسها الرجال ثم الأطفال الذكور وتقتلهم، ولا تخاف سوى النار.
هذه القصص تتجاوز الخيال فيؤمن بها كثيرون معتقدين أن الجنيات جزء من عالم مواز يتقاطع مع عالمنا متى أراد.
ميره الحارثية وعيشة قنديشة وملكة الأسماك في شالة... مثلت الأساطير النساء بأشكال وحكايات مختلفة
تقول فاطمة وهي من سكان مدينة مراكش لرصيف22 "لا أستطيع نسيان حكاية سائق الشاحنة الذي أقل الجنية في منتصف الليل ولا قصة نساء القبيلة اللواتي استقبلنها في وليمة وعرضن عليها المبيت. أخبروني أنها لا تظهر إلا لتختطف الأطفال والنساء، كانت دائماً تحضر في كوابيسي كلّما تذكرتها أو تحدثّ عنها".
ويكاد يجزم الكثير من المغاربة، رؤيتهم إياها في منتصف الطرقات الخالية أو في الغابات الموحشة أو قرب شواطئ المحيط الأطلسي والأضرحة. مع ذلك تختلف معتقدات الناس في المغرب حول صحّة قصة هذه الجنية.
إذا نادتك باسمك فلا تلتفت
في قديم الزمان، في أرض الحكايات الأمازيغية، عاشت تولزيمت أو الجنية العاشقة، على قمم سوس الشاهقة، طفلة جنية، تجيد الطيران بخفة عالية، تجد في أطفال الإنس التائهين والعزّل ضالتها، تناديهم بأسمائهم ومن تم تجرهم للعب لعبة الغميضة معها في أعماق الغابة، يقال كذلك إنها تعترض سبيل المارّة ليلاً، وقد تنادي الشخص باسمه، لذا لا ينبغي الالتفات إليها كما يعتقد، أمّا من خافها فقد حلّت عليه لعنة العقم الأبدية.
تقول ندى (اسم مستعار) وهي من أهل وسكان مدينة أكادير لرصيف22 " في كل جلسة عائلية، كانت جدتي تنتهز الفرصة وتخيفنا بتولزيمت التي كانت تختطف الصغار إذا انعزلوا أو أرادوا اللعب ليلا، ثم تصيبهم بلعنتها المؤذية، أظن أن جدتي كانت تخيفنا فقط لشدة خوفها علينا من الغرباء".
تبقى هذه الحكاية سرّ هذه الأرض، التي جرى تناقلها بين الأجداد والأبناء والأحفاد، فكانت الأم ترويها لأطفالها لإخافتهم من اللعب خارجاً في أوقات متأخرة من الليل، مخافة أن يخطفوا، أو لتحفيزهم على النوم مبكراً.
تمغارت نسمدال أو بغلة القبور... حكاية الأرملة الملعونة
في إحدى القرى المعزولة في المغرب، يعتقد الناس أن بغلة "الرّوضة" (المقبرة) هي جنية في هيئة بغلة، تخرج من المقبرة حين يجن الليل، لتبدأ ركضها المجنون الذي لا تنهيه إلا مع تباشير الصباح الأولى، يتطاير من عينيها الشرر وتمزق صمت الليل الموحش بالجلبة التي تحدثها حركتها.
بغلة القبور جنية مرعبة، تقول الحكايات الشعبية في حياتها السابقة كانت امرأة أرملة، لم تلتزم بتعاليم العرف الديني أي العدّة بعد وفاة الزوج، أو ما يعرف محلياً باسم "حق الله"، فلعنت وتحولت إلى بغلة، تنام النهار مع الموتى وتمضي الليل كله تتعذب.
الأسطورة هنا أيضاً تعيش بين أذهان السكان منذ قرون. وما زال ثمة من يعتقد بأنها حقيقية.
يقول عزيز (56 سنة) لرصيف22 "كنت في طريقي عودتي إلى منزلي وكان الليل قد حل، مررت بأحد المقابر وصادفتها كانت دابة نحيلة تنظر إلي مباشرة بشكل مريب، وما كدت أقع حتى هرولت في اتجاه المنزل، ولم أعد لطبيعتي إلّا بعد مرور بضعة أيام بمشقة الأنفس".
عروس قلعة شالة
أسطورة أخرى تسمى "جنية قلعة شالة" أو "حوض الجنيات والحوريات" بحسب ما يعتقده المغاربة فهي تتمثل في أن حوض القلعة يسكنه الجن، وأن ما يسبح بداخله ليس مجرد أسماك نون عادية، وإنما جنيات تحكمهن ملكة عظيمة الشأن والجاه مكلفة بحراسة كنوز سليمان، يتم تمييزها عن الأخريات بأنها ضخمة الحجم، تشبه الأفعى وترتدي قرطين ذهبيين يتدليان من جانبي رأسها.
تقول الأسطورة إنه عند هبوط الظلام، تخرج الجنية من مخبئها في جلال وهابة، وتلحق بها بقية الجنيات تباعا، واللواتي يتمظهرن على شكل سمكات تقفز وتحوم في سماء القلعة وتغطيها كأسراب النحل اللامتناهية.
وإن قضيت معظم وقتك قرب الحوض وصادفت الجنية الملكة تخرج من الحوض فإن ذلك يوم سعدك.
وجهات نظر متضاربة
من المؤكد أن الحكايات الشعبية والفلكلورية ترسخ قيم الخير والشر والحب والعدالة والسلام، ترويه وإن بلغة يغلب عليها طابع الخيال والفانتازيا، وهذا ما يجعلها ميراثاً أصلياً للبشرية جمعاء، لكن ما علاقة المرأة بقوى الشر والأذية في مثل هذه الحكايات بالضبط؟
توجه رصيف22 بهذا السؤال لبعض المواطنين، وكان جوابهم كالتالي، ترى سكينة (25 عاما) أن الأمر له علاقة بأمبة المجتمع، الذي ينظر للمرأة كإنسان من الدرجة الثانية، في حين يقول حمزة (30 سنة) "إن المرأة في الأصل ذكية، تنال مرادها كيفما كانت الطريقة، ولا تبالي بالنتائج وإن كانت وخيمة".
ويقول علي شعباني الأستاذ والباحث في علم الاجتماع: "إن المرأة دائماً ما كانت عرضة للاستغلال في العديد من القضايا. وغالباً ما يتم الالتجاء الى المرأة لتجسيدها في أدوار الشر وهذ الأمر ربما كان مقصوداً من البعض حتى أصبحت عادةً بغاية تهميش المرأة والمسّ من كرامتها والتبخيس من إرادتها التي لم تكن تروق لذلك الرجل الذكوري، لذلك كنا نجد ولازلنا نجد مثل هذه الأدوار التي تسند للمرأة، وهي بطبيعة الحال أفكار مغلوطة يمكن تقبلها في مشاهد تمثيلية لكن الواقع يبقى بعيداً عن كل ذلك."
من المهم أن ندرك منذ البداية أن تحليل طبيعة هذه الرمزية التي أعطيت للمرأة ليس بالأمر الهين وتتظافر فيه الأنثربولوجيا والأديان وثقافات غابرة في. التاريخ. وإذا تساءلنا: كيف تشكلت هذه الصورة عن المرأة الخارقة؟ كانت الإجابة أنه يعني الكشف عن طبيعة تشكل المجتمعات وأدوار النساء فيها وتشمل صورتها في الثقافة الشعبية. لكن مسؤولية الجميع اليوم هو احترامها وتصحيح الوضع المتدني للمرأة الذي وضعتها فيه العادات والتقاليد المتهالكة، مع حفظ ذاكرة الخيال الجماعي وإعادته إلى طبيعته كقصص وهمية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين