تحظى حادثة إسراء النبي إلى المسجد الأقصى بقدر كبير من الأهمية والاعتبار في المُتخيل الإسلامي الجمعي. يحتفل المسلمون بذكرى وقوع تلك الحادثة في السابع والعشرين من شهر رجب في كل عام. على الرغم من وجود قصة تقليدية شائعة لتلك الحادثة إلا أن هناك الكثير من الروايات والتأويلات المختلفة التي لم تحظ بالانتشار والذيوع بين عامة المسلمين.
القصة التقليدية
وردت تفاصيل حادثة الإسراء في متون العشرات من المصادر الإسلامية. على سبيل المثال تحدث ابن هشام الحميري المتوفى 218هـ عن الظروف التي وقعت فيها تلك الحادثة في كتابه السيرة النبوية فقال إن النبي قد أُسري به من مكة إلى بيت المقدس قبل هجرته إلى يثرب بعدة سنوات. وأن السبب الرئيس لوقوع تلك المعجزة كان أن الله قد أراد أن يعزي النبي ويفرحه بعدما أُصيب بحالة من الحزن والضيق لوفاة كل من زوجه السيدة خديجة بنت خويلد، وعمه أبي طالب بن عبد المطلب.
يحكي ابن هشام تفاصيل وقوع المعجزة فيقول: "أُتي رسول الله بالبراق -وهي الدابة التي كانت تُحمل عليها الأنبياء قبله، تضع حافرها في منتهى طرفها- فحُمل عليها، ثم خرج به صاحبه، يرى الآيات فيما بين السماء والأرض، حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم الخليل وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له، فصلى بهم". بعدها تحدث ابن هشام عن المعراج إلى السماء بوصفه المعجزة المتممة لمعجزة الإسراء.
قيل إن الله أراد أن يعزي النبي ويفرحه بعدما أُصيب بحالة من الحزن والضيق لوفاة كل من زوجه السيدة خديجة بنت خويلد، وعمه أبي طالب بن عبد المطلب، فأراه الآيات في ما بين السماء والأرض... عن حادثة الإسراء في المتخيّل الإسلامي
ارتبطت حادثة الإسراء بعدد من الأحداث المهمة في حقبة الإسلام المكي. صدق البعض النبي لمّا حكي عن تفاصيل زيارته لبيت المقدس، بينما كذبه الكثيرون فيما روى. كان أبو بكر بن أبي قحافة من ضمن المصدقين لرواية النبي. وتذكر المصادر السنية أن أبا بكر لمّا سمع من الناس أن النبي قد أُسري به إلى بيت المقدس فإنه ذهب له وطلب منه أن يصف له بيت المقدس وكان أبو بكر قد زاره من قبل في واحدة من رحلاته التجارية إلى بلاد الشام "فجعل رسول الله يصفه لأبي بكر، ويقول أبو بكر: صدقت أشهد أنك رسول الله، كلما وصف له منه شيئاً، قال: صدقت، أشهد أنك رسول الله، حتى (إذا) انتهى، قال رسول الله لأبي بكر: وأنت يا أبا بكر الصديق. فيومئذ سماه الصديق".
الرواية الشيعية
إذا ما تطرقنا للروايات الشيعية التي تطرقت لتلك الحادثة فسنجد أن هناك تداخلاً واضحاً قد وقع بين حادثتي الإسراء والمعراج. تذهب أغلبية المصادر الشيعية إلى أن الإسراء لم يحدث في فلسطين، وأن بيت المقدس المقصود كان في السماء.
على سبيل المثال ورد في تفسير علي بن إبراهيم القمي المتوفى 329هـ "عن إسماعيل الجعفي قال كنت في المسجد الحرام قاعدًا وأبو جعفر -يقصد الإمام محمد الباقر- ناحية فرفع رأسه فنظر إلى السماء مرة وإلى الكعبة مرة ثم قال: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وكرر ذلك ثلاث مرات ثم التفت إلي فقال: أي شيء يقولون أهل العراق في هذه الآية يا عراقي؟ قلت يقولون أُسرى به من المسجد الحرام إلى البيت المقدس فقال: لا ليس كما يقولون، ولكنه أُسرى به من هذه إلى هذه وأشار بيده إلى السماء وقال ما بينهما حرم....".
المعنى نفسه جاء في الرواية التي حكاها محمد باقر المجلسي (المتوفى 1111هـ) في كتابه بحار الأنوار عن الإمام جعفر الصادق. جاء في تلك الرواية أن رجلاً سأل الإمام الصادق عن أفضل المساجد "فقال الصادق: المسجد الحرام ومسجد الرسول، فقال الرجل: والمسجد الأقصى جُعلت فداك؟ فقال: ذاك في السماء إليه أسري رسول الله".
ورد المعنى نفسه في المناظرة المشهورة التي وقعت بين المتكلم الشيعي هشام بن الحكم والوزير جعفر بن يحيى البرمكي في مجلس الخليفة العباسي هارون الرشيد. جاء في تلك المناظرة أن هشاماً لما سأل جعفر "أخبرني عن هذا المسجد الأقصى أين هو؟ قال يحيى: هو بيت المقدس. قال هشام: إنَّ الله عزّ وجلّ قال: الأقصى، والأقصى لا يكون وراءه شيء، لأنَّ الله عزّ وجلّ ذكر أنّهُ الأقصى، وهذا لا يكون وراءه شيء، وبيت المقدس، إنْ كان وراءه شيء لا يستحيل، فهذا وراء هذا".
التأويل الصوفي
عملت التيارات الصوفية أيضاً على تقديم مقاربة روحية باطنية لحادثة الإسراء. اعتمدت تلك المقاربة -بالمقام الأول- على بعض الروايات التي تؤكد على أن الإسراء قد وقع بالروح، لا بالجسد. من تلك الروايات ما نُقل عن أم المؤمنين السيدة عائشة "مَا فُقِدَ جَسَدُ رَسُولِ اللَّهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِرُوحِهِ". وما جاء عن الصحابي معاوية بن أبي سفيان إنه كان إذا سُئل عن مسرى رسول الله، قال: "كانت رؤيا من الله تعالى صادقة". وكذلك ما تواتر عن التابعي الحسن البصري من أن حادثة الإسراء كانت رؤيا، وأن الآية الستين من سورة الإسراء "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس." قد نزلت بشأنها.
تذهب أغلبية المصادر الشيعية إلى أن الإسراء لم يحدث في فلسطين، وأن بيت المقدس المقصود كان في السماء
يُعد التأويل الذي قدمه الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي (المتوفى 638 هـ) في كتابه الفتوحات المكية واحداً من أهم التأويلات الصوفية التي قاربت حادثة الإسراء من منظور روحي عرفاني خالص.
قال ابن عربي في معرض تفسيره للآيات الأولى من سورة الإسراء: "(سبحان الذي أسرى) أي أنزهه عن اللواحق المادية والنقائص التشبيهية بلسان حال التجرد والكمال في مقام العبودية الذي لا تصرف فيه أصلاً. (ليلاً) أي: في ظلمة الغواشي البدنية والتعلقات الطبيعية لأن العروج والترقي لا يكون إلا بواسطة البدن. (من المسجد الحرام) أي: من مقام القلب المحرم عن أن يطوف به مشرك القوى البدنية ويرتكب فيه فواحشها وخطاياها ويحجه غوى القوى الحيوانية من البهيمية والسبعية المنكشفة سوأتا إفراطها وتفريطها لعروها عن لباس الفضيلة. (إلى المسجد الأقصى) الذي هو مقام الروح الأبعد من العالم الجسماني بشهود تجليات الذات وسبحات الوجه، وتذكر ما ذكرنا أن تصحيح كل مقام لا يكون إلا بعد الترقي إلى ما فوقه لتفهم من قوله".
آراء أخرى
في الحقيقة، ظهرت تفسيرات أخرى لحادثة الإسراء داخل العقل الإسلامي. من تلك التفسيرات ما ذكره الدكتور أحمد صبحي منصور -زعيم طائفة القرآنيين- في كتابه ليلة القدر هي ليلة الإسراء عندما ذكر أن المسجد الأقصى موجود في مصر وبالتحديد في جبل الطور بصحراء سيناء.
يقول منصور موضحاً: "...كان الإسراء من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في جبل الطور، حيث كان الله تعالى يكلم موسى وحيث أنزل عليه التوراة، وحيث رفع الجبل وأخذ العهد والميثاق على بني إسرائيل، وحيث كان التبشير بنزول القرآن في إطار ذلك كله. ولهذا اقترن جبل الطور بالقداسة والبركة والطهر، كما اقترن جبل الطور أو المسجد الأقصى بالمسجد الحرام أو مكة، وذلك في سور الإسراء والتين والطور".
في القرن التاسع عشر، عملت طائفة الأحمدية القاديانية على استغلال الزخم الرمزي الكبير الذي يحيط بالمسجد الأقصى من خلال الربط بين بيت المقدس ومنطقة قاديان التي ظهرت فيها الدعوة الأحمدية. وقع ذلك عندما قام والد ميرزا غُلام أحمد -مؤسس الجماعة الأحمدية- ببناء مسجد في تلك المنطقة النائية من البنجاب.
وقرر أن يسميه "المسجد الأقصى" تيمناً بالمسجد الأقصى في بيت المقدس في فلسطين "ليكون خاتمة أعماله وأبقاها وأكثرها جدوى، مدركاً ومؤكداً على رسالة أن ميراث الأرض بيد الله تعالى وبرضاه ومشيئته وليس بالجهود البشرية، راجياً أن يلقى الله تعالى ويحظى بقبوله وبرحمته ومغفرته". فيما بعد سيربط الأحمديون بين هذا المسجد وظهور ميرزا غلام أحمد باعتباره المسيح المنتظر والمهدي الموعود. وسيُنظر لمسجد البنجاب باعتباره المكان الذي شهد إعادة تجلي حادثة الإسراء المقدسة.
من جهة أخرى، قال بعض الباحثين والمستشرقين إن المسجد الأقصى الوارد في سورة الإسراء يقع في منطقة الجعرانة وهي موضعٌ بين مكَّة والطائف. استشهد هؤلاء بما ذكره أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي (المتوفى 207 هـ) في كتابه المغازي "وانتهى رسول الله إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة، فأقام بالجعرانة ثلاث عشرة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج من الجعرانة ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة بقيت من ذي القعدة ليلاً، فأحرم من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى، وكان مصلى رسول الله إذا كان بالجعرانة- فأما هذا المسجد الأدنى، فبناه رجل من قريش واتخذ ذلك الحائط عنده".
عملت التيارات الصوفية على تقديم مقاربة روحية باطنية لحادثة الإسراء. اعتمدت تلك المقاربة، بالمقام الأول، على بعض الروايات التي تؤكد على أن الإسراء قد وقع بالروح، لا بالجسد
وما نقله أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي المتوفى 250هـ في كتابه أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار عن ابن جريج من قوله: "أخبرني زياد أن محمد بن طارق أخبره أنه اعتمر مع مجاهد من الجعرانة فاحرم من وراء الوادي حيث الحجارة المنصوبة، قال: من ها هنا احرم النبي، واني لأعرف أول من اتخذ هذا المسجد على الأكمة بناه رجل من قريش سماه واشترى ما لا عنده نخلاً فبنى هذا المسجد، قال ابن جريج: فلقيت أنا محمد ابن طارق فسألته فقال: اتفقت أنا ومجاهد بالجعرانة، فأخبرني أن المسجد الأقصى الذي من وراء الوادي بالعدوة القصوى مصلى النبي ما كان بالجعرانة، قال: فأما هذا المسجد الأدنى فإنما بناه رجل من قريش واتخذ ذلك الحائط".
بحسب هذا الرأي فإن رحلة الإسراء قد وقعت ما بين مكة والجعرانة. وأن القصة التقليدية التي ذكرت أن الرحلة كانت إلى فلسطين لم تظهر إلا في سبعينيات القرن الأول الهجري أثناء الصراع على الخلافة بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير. يرى الكثير من المستشرقين -ومنهم على سبيل المثال المستشرق اليهودي المجري إجناتس جولد تسيهر- أن عبد الملك بن مروان لمّا رأى خصمه ابن الزبير قد استولى على مكة، فإنه حاول أن يثني الناس عن الحج إلى الكعبة حتى لا يتأثروا بالدعاية السياسية لابن الزبير، وحتى ينزع عن خصمه ثوب القداسة الذي ارتداه باعتباره حاكم المدينة المقدسة.
يرى أصحاب هذا الرأي أن عبد الملك قد شجع بعض الفقهاء والمحدثين المقربين إليه من أمثال ابن شهاب الزهري على رواية بعض الأحاديث التي تؤكد على قداسة بيت المقدس. ومن ذلك "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول، ومسجد الأقصى".
وفي السياق نفسه عمل عبد الملك على بناء مسجد قبة الصخرة في أورشليم ليحل محل الكعبة، وليقصده الناس للحج والعمرة. بحسب هذا الرأي فإن جهود عبد الملك لم تكتمل لأن الحرب بين الأمويين وابن الزبير انتهت في سنة 73هـ، وأستولي عبد الملك على مكة، وأعاد الحج إليها مرة أخرى.
من الجدير بالذكر أن تلك النظرية قد تعرضت للانتقاد من جانب الكثير من الباحثين المسلمين في العقود الأخيرة. كما تم اتهام المستشرقين الذين قالوا بها بأنهم يحاولون التشكيك في الثوابت والأصول الدينية الإسلامية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع