شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
نموت كل يوم على شاشاتٍ عالية الدقة  4K

نموت كل يوم على شاشاتٍ عالية الدقة 4K

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن وحرية التعبير

الجمعة 10 نوفمبر 202301:41 م

لم أتخيل يوماً أنّ بإمكان ذاكرة الإنسان العربي أن تتحول إلى "مقبرة"! مقابر مكتظة نحملها معنا في جماجمنا إلى أسرّتنا وأماكن عملنا وجامعاتنا ومطاعمنا وحدائقنا ومستشفياتنا وسهراتنا ومقاهينا وسجوننا. نحملها معنا أينما ذهبنا، وكأنها قدر محفور على جدران قلوبنا. أفكّر مليّاً في حجم المجازر التي ارتُكبت على مدار تاريخ الإنسان العربي بحق ذاكرتنا، ولا يمكنني التفكير في تشبيه أكثر ألماً من المقابر.

أركل ذاكرتي كل صباح كعلبة كولا خارج جمجمتي، وأحاول التشبث بالحياة يوماً إضافياً آخر ككل البشر، ممن لا ينتمون إلى تلك البقعة الجغرافية من الأرض، ولا يمتلكون ذاكرةً مزدحمةً بالقبور، لكنني أفشل.

عندما يتحول العالم إلى عصفوريّة، يصبح الجنون خلاصاً.

صدقاً لا أعرف ما الذي يدفعني دوماً نحو المقابر. في كل نصّ أكتبه، أحاول العبث مع المقابر واستغلالها في كل تشبيه أو استعارة. ربما لأنني أمتلك ذاكرةً يُحفر فيها كل يومٍ قبرٌ لمجزرةٍ حدثت بالفعل، وقبورٌ كثيرة أخرى لمجازر لم تحدث بعد، لكنها بكل تأكيد قادمة كما الشتاء المقبل.

هناك بالقرب من ركام بيوتهم وذكرياتهم وبقية لحمهم، يتكور الناس على أنفسهم ككعكةٍ ويحلمون بالدفء... أجزم بأنّ طفلاً يحلم بأنه قرب مدفأةٍ يحمّص الخبز ويصنع سندويشات زعتر وفليفلة وزيت، ويلصقها هكذا على أطراف المدفأة ويستنشق رائحتها حتى تنتفخ رئتاه برائحة الخبز المحمّص. أجزم بأنّ أمّاً تحلم بشعر طفلتها ينسدل على ظهرها كليلٍ طويلٍ تمشطه بيدها حتى ينبلج الصباح.

أجزم بأنّ شاباً يحلم ببيتٍ بسيطٍ يجمعه بفتاةٍ أحبّها وراح يجمّع القرش فوق القرش حتى يدفع قسط المروحة والبراد والغسالة وغرفة النوم، ويعيشا معاً كل يوم بيومه، و"يا دار ما دخلك شر".

الإنسان العادي البسيط على امتداد هذه البسيطة، لا يريد من الحياة أكثر من سقفٍ يستره، وطعامٍ على طاولته، وموسيقى وفن وسينما وحبيبٍ وحبيبةٍ وأسرةٍ ولمّة أهلٍ وأصحاب، لتكتمل جنّته. يريد وطناً يعيش فيه دون فكٍ جارحٍ شرهٍ إلى الدماء، يقضم من أرضه وأحلامه ولحمه وبحره وحصته من الأوكسجين كل يومٍ، ليحوّل أرض الله الواسعة من حوله إلى سجنٍ لا قضبان له. لو سألنا كل إنسان طبيعي مهما اختلفت جنسيته ومشربه عن الأمر، لأكّد لنا أنه لا يريد أكثر من ذلك.

الأوجاع تكسر الإنسان، وعندما ينكسر الإنسان يتحول إلى شيءٍ يشبه كرسي خيزرانٍ مخلوعٍ ومركونٍ في زاويةٍ ولا يشعر بوجوده أحد. نحن تحولنا مع تراكم الأوجاع وتعاقبها وتسارعها من فلسطين إلى سوريا والعراق والسودان وليبيا واليمن إلى كراسي خيزران مخلوعةٍ مكسّرةٍ لا يعبأ بها أحد...

ماذا فعل أهل غزة حتى يتحول موتهم إلى خبر اعتيادي يمرّ على الشاشات في المقاهي والمطاعم، بينما عيون الناس معلّقة بالشيف وهو يرشّ الملح على اللحم في أطباقهم؟

نموت كل يوم على شاشاتٍ عالية الدقة 4K، وبكاميرات احترافية، وفي كثير من الأحيان بتصوير سينمائي وموسيقى تصويرية تشبه موسيقى رامين جوادي. موتنا يُعرض على أهم شاشات الأخبار العالمية والإقليمية والمحلية، لكننا كراسي خيزران مخلوعة ومركونة في زاوية.

لطالما حاولت إيجاد تعريف مختلف للحب، متحرر من الورد الأحمر وكل ما هو أحمر، وبعيد البعد كله عن المقولات التي ملّ العشاق من ترديدها، لكنني أعترف لكم بفشلي. فالحب بكل بساطة هو روح فلسطيني يكتب على كفن زوجته: "قلبي ونبضي. قمري. شهيدة حبي. بحبك يا حياتي... يا عمري"...

عندما يتحول العالم إلى عصفوريّة، يصبح الجنون خلاصاً.

نحن نعيش في مستشفى ضخم للمجانين. أكوام الموت والجثث والوجع والقهر تنحشر في ضمائر أصحاب القرار عبر شاشاتهم وهواتفهم وحساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، بينما يمرون عليها وكأنها كلاسيكو أو فيديو لفرقة موسيقية شهيرة خرج أحد أفرادها عن النوتة، فتحول الحفل إلى تراند على التيك توك، لا أكثر ولا أقل.

أن تكون عربياً يعني أن تعيش حارساً للحزن، تألفه ويألفك، يلتصق بك كرائحة البخور أو أعواد الريحان المنتصبة فوق قبر. أخبرتكم مسبقاً بأنني ألجأ إلى القبور والمقابر للتشبيه في كل مرة أحاول فيها خنق النص...

أن تكون عربياً يعني أن تعيش حارساً للحزن، تألفه ويألفك، يلتصق بك كرائحة البخور أو أعواد الريحان المنتصبة فوق قبر. أخبرتكم مسبقاً بأنني ألجأ إلى القبور والمقابر للتشبيه في كل مرة أحاول فيها خنق النص...

شاركت يوماً نصاً مع الأصدقاء قلت فيه: ماذا فعلنا نحن السوريين للحياة حتى تكرهنا! كنا نحرق كبكوبات "سيف الألمنيوم"، لنحتفل بالأعياد، بينما تحتفل دول العالم بعروض الطيران والألوان والألعاب النارية. كنا نقف في طوابير على الأفران، ونلفّ الخبز الحاف عرائس نأكلها في طريقنا إلى بيوتنا، على أمل أن "تعرض أكتافنا"، بينما يأكل غيرنا الكافيار والكمأة البضاء وفطائر كبد الأوز. كنا نتسمر أمام المحطات اللبنانية ونمضي الليل بطوله على الأسطح نوجه الأنتينات (الأنتير) في عز الشتاء، حتى نتمكن من مشاهدة البرامج الترفيهية؛ "برنامج يا ليل يا عين" مثلاً، بينما يحضر غيرنا حفلات عمرو دياب ومادونا وليدي غاغا. كنا نضع السكر على الشعيرية المحمصة لنصنع منها نوعاً من الحلوى نسمّيه "شعيرية بسكر، بينما غيرنا يفرش الموائد وصواني الكنافة الغارقة بالسمن البلدي والفستق الحلبي. كنا نحلب أسطوانة الغاز بقلبها رأساً على عقب حتى نسرق منها "غلوة" شاي، أو قهوة إضافية لنشعر بالنشوة بعدها".

ماذا فعل أهل غزة حتى يتحول موتهم إلى خبر اعتيادي يمرّ على الشاشات في المقاهي والمطاعم، بينما عيون الناس معلّقة بالشيف وهو يرشّ الملح على اللحم في أطباقهم؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ذرّ الرماد في عيون الحقيقة

ليس نبأً جديداً أنّ معظم الأخبار التي تصلنا من كلّ حدبٍ وصوبٍ في عالمنا العربي، تشوبها نفحةٌ مُسيّسة، هدفها أن تعمينا عن الحقيقة المُجرّدة من المصالح. وهذا لأنّ مختلف وكالات الأنباء في منطقتنا، هي الذراع الأقوى في تضليلنا نحن الشعوب المنكوبة، ومصادرة إرادتنا وقرارنا في التغيير.

Website by WhiteBeard