يبدو لي أنها حربٌ ستطول إلى أن يأتي من يفضّ هذا المسرح الدموي، ويعلن نهاية صراع الديكة بانتصار الجميع، وهزيمة الأمهات والصبايا، والشعراء والوردات والأيدي الصغيرة التي كانت تستعد لملامسة يد الحياة لا مخالب الموت.
وإلى ذلك الوقت، يبدو لي أيضاً أننا سنؤجل لغتنا وتأملاتنا وقدرتنا على القراءة إلى حين إطلاق صفارة النهاية، سنظل نكتب أشياءً كهذا الشيء، دعنا نسميه: نحيبٌ طويل فوق السكاكين.
هل عرفنا المعاناة من قبل؟
أمرٌ آخر لابد من ذكره بمناسبة النحيب الطويل، لَكم من الصعب على المرء أن يكتبَ فكرةً واحدةً ومحدّدة، بعد أن عاد من طابور شحن الهواتف والبطاريات، واستمع للمئات من قصص الناس والحرب والتي حتماً تستحق أن تدوّن، بل وأن تخلد، أذكر هذا عرفاناً لعذابات كل أولئك المصلوبين في طوابير طَرقِ أبواب الحياة في غزة خلال حرب 7 أكتوبر 2023.
كما هناك هزائمٌ كبيرة، ومجازرٌ كبيرة، هناك أيضاً الهزائم القاتلة الصغيرة، كهزيمتك أمام طفلتك التي لا تطلب أكثر من حبة فاكهة، أو قطعة شوكولاته.
كم سخيفة كلّ معاناة قد يتخيلها العقل البشري أمام طفلٍ حمل ذراع أخيه المقطوعة وتوسل للطبيب أن يعيدها لجسد أخيه، أو أمام أبٍ لم يستطع أن يجد قبراً منفرداً لجثة ابنه، أو أم تحت ركام منزلها ظلّت تحارب الموت بقوة أنفاس أبنائها حولها، حتى انقطعت أنفاسهم فانفجر قلبها قهراً، كل هذا حدث ولا زال يحدث حتى اللحظة، إنه ليس فيلماً سريالياً دموياً، إنه الواقع حين يُترك في أيدي السلطويين، ولا تسألني كيف وصل هؤلاء إلى مركز صنع القرار.
"ليلة سقوط الكاندي"
وكما هناك هزائم كبيرة، ومجازر كبيرة، هناك أيضاً الهزائم القاتلة الصغيرة والتي منها يبدأُ كل موتٍ كبير، كهزيمتك أمام طفلتك التي لا تطلب أكثر من حبة فاكهة، أو قطعة شوكولاته، أو أي شيء حلو ولامع وأنيق.
8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، اليوم الواحد والثلاثون من الحرب، جنوب قطاع غزة حيث مخيمات لاجئي 1948، وقبل أيام أصبحت لنازحي 2023 أيضاً؛ من شمال القطاع، لمّا قيل إنها الحرب، هرع اللاجئون القدامى والنازحون الجدد إلى كل زاويةٍ فيها طعامٌ وماء ومصدرٌ للكهرباء.
كم سخيفة كل معاناة الكون أمام طفلٍ حمل ذراع أخيه المقطوعة وتوسل للطبيب أن يعيدها، أو أمام أب لم يستطع أن يجد قبراً منفرداً لجثة ابنه، أو أم تحت ركام منزلها ظلت تحارب الموت بقوة أنفاس أبنائها حولها، حتى انقطعت أنفاسهم فانفجر قلبها قهراً
لا تكاد تفرق بين مقيمٍ قديم أو نازح جديد، إذ اختلطت رائحة التعب والتيه وامتزجت في طوابير الخبز، وصفوف الماء، ونقاط شحن البطاريات والهواتف، وممرّات محلات المواد الغذائية، التي وإن لم تُقصف لكنها سرعان ما ستفرغ من كل ما فيها، كل ذلك كوَّن شكلاً واحداً: النكبة. وسؤالاً واحداً: ما سر هذا الانسجام العجيب بين الفلسطيني والتعب، والذي لا يذهب مهما هدر الزمن إلى الأمام؟
بعد أربعة وثلاثين يوماً من الحرب، صار محظوظاً ذاك الذي يجد بين أرفف المحلات نصف كرتونة بيض، أو كيس معكرونة مثقوب، أو حفنة طحين في زاوية ما. وملكُ زمانه ذلك الذي يعثر على دكانة فيها ثلاجة لا زالت تعمل فيحصل على مشروب بارد، لا يهم نوعه، المهم أن يكون بارداً ليطفئ شيئاً من سعير البحث عن طعام يومي. تماماً كما خطرَ لكَ قبل قليل، هي مقدمة مجاعة لا تحتاج لأكثر من أسابيع لتتضح ملامحها.
أما الأطفال، أو فلنقل من تبقى من الأطفال، لم يبقَ لهم إلا صنف واحد مما كانت تسميه صغيرتي ليلى: "كاندي" في أيامٍ سابقة كان فيها الفرح متاحاً، وهناك متسعُ لتغني ليلى أغنيتها المحببة:
"Rain rain go away, come again another day, baby wants to play.."
البحث عن "الكاندي" في أوراق قادة الحرب
فلنعد إلى حكاية "الكاندي"، حيث كنت أنا وليلى كل مساءٍ نذهب في نزهة ليلية تنتهي بشراء بعض "الكاندي"، وهو عند ليلى كل شيءٍ حلو، ولامع، وأنيق، حتى أنها إذا أعجبها أي مشهدٍ تشد يدي وتشير إليه وتقول: كاندي، معلنةً رغبتها في تذوقه حتى وإن كان طفل الجيران الصغير.
قبل الحرب، كنت أنا وليلى نذهب كل مساء في نزهةٍ ليلية تنتهي بشراء بعض "الكاندي"، وهو عند ليلى كلُ شيء حلو، ولامع، وأنيق.
ربما كانت غلطتي أنني لم أخبر ليلى عن الوجه الآخر للكاندي، عن الحرب، عن غزة التي ربما تنام "كاندي"، وتصحو محيطَ دم في عشية وضحاها، كان علي في كل مرة أشتري فيها لليلى بعض الشوكولاتة، أو الحلوى، أو الألعاب، أن أهمس لها بحذر: اتركي باب الاحتمالات مفتوحاً، فليسَ كلُ ما يلمعُ كاندي.
"بسكويت سادة"
تراهُ قابعاً بصمت مستفز في كل مكان، يشبه البؤس الخام، في كل البيوت، في كل المحلات، أغلفته الحمراء البليدة ملقاة في كل شارع، نعم، فهناك الكثير من الأطفال في غزة لا تكفي كل مصانع الأسلحة في العالم لقتلهم، والذين لم ينعموا بفرصة للتعرّف على طريقة وضع أغلفة المنتجات الفارغة في سلة النفايات، فقد كانوا مشغولين بتعلم فن النجاة، والهرب من الصواريخ "الصاعدة والهابطة".
في ذلك المساء، استجمعت نفسي، وكما في الأيام التي خلت، قلت لليلى: "يلا نروح نمشي"، بعد انقطاعٍ لمدة أسابيع عن هذه العبارة، استجابت ليلى بفتور غريب، وكأنها تعلم أن كل تلك الأصوات الضخمة التي سمعتها على مدار أسابيع لم تكن أصوات طيور كبيرة، كما أخبرها والدها بسذاجة.
وحتماً ليست رعوداً وبرقاً ومطراً كما قالت لها أمها وهي ترتجف، شعرتُ أن ليلى تعرف أن تلك الأصوات صنعت شيئاً سيئاً للعالم الصغير الذي تعرفه، فلم تتحمس كثيراً للمشي في الخارج.
كانت تتفقد كل شيء، الشارع، رائحة البيوت بعد البارود، أعمدة الإنارة المُكسّرة، القط البرتقالي الكبير، ارتجافة يدي وعينيّ، كانت ليلى تعرف أن شيئاً سيئاً يحدث، وما إن وصلنا للدكان حتى انطلقت نحو "أرفف الكاندي" خاصتها، لتجدها فارغة إلا من "صناديق بسكويت سادة" لونها أحمر وأبيض، كأنه تعريفٌ كاملٌ للبؤس.
حتى عامل الدكان الذي كان يستقبلنا بابتسامة كبيرة وقطعة حلوى، تفقدته ليلى، وجدته منغمساً في جدالٍ محتدم مع صاحب الدكان حول كمية العدس المتبقية، ما الذي حدث هنا؟ أين الكاندي؟ هذا سؤال خجول وصامت وبائس كعبوات البسكويت السادة تماماً، يلفه الكثير من البكاء والحيرة والعجز، وللأمانة، كانت ليلى أكثر صلابةً مني لحظتها، إذ شدّت يدي وأشارت لي إلى باب الخروج بصمت. وبصوتٍ رزين، قالت: "بححح كاندي بابا".
ما أن وصلنا للدكان حتى انطلقت الطفلة نحو أرفف "الكاندي" ، لتجد أنها فارغة إلا من صناديق بسكويت سادة، لونها أحمر وأبيض، كأنه تعريفٌ كاملٌ للبؤس. ليلى كانت أكثر صلابةً مني لحظتها، إذ شدت يدي وأشارت لي إلى باب الخروج بصمت وبصوتٍ رزين، قالت: "بححح كاندي بابا"
اشترينا بسكويت سادة، بسكويت البؤس، ذا الغلاف الأحمر، وفي البيت حين قابلتنا حليمة قلت: "بسكويت البؤس مرة ثانية، وثالثة وعاشرة". وضحكنا كثيراً، وبكينا أكثر عندما قالت ليلى قبل النوم: "بدي بسكوت بؤس". قالتها بنبرتها الرقيقة وأحرفها غير الناضجة، أي شيءٍ في هذا الكون أشد فتكاً من أن ترى طفلتكَ قانعةً أن يكون نصيبها من البسكويت بنكهة البؤس؟ وأن تكون كلمة بؤس ضمن أول كلماتٍ تأتأتها وهي تشكِّلُ لغتها الأم.
تلك التي كانت لا ترضى بأقل من لوح شوكولاته كامل، ومن نوع تختاره بنفسها. بينما أنا أفتح لها البسكويت السادة فكرت بأن على الإنسان ألا ينجب أطفالاً بالمطلق درءاً لهذه الاحتمالات في غزة وغيرها، ولكن سرعان ما اهتديت إلى فكرة أفضل، أن على الناس قبل اختيار حكامهم أن يفكروا هل هذا الحاكم سيكون حريصاً على سلامة "كاندي" البلاد؟
مرحباً أيها الطوفان، مرحباً أيتها المعركة التي كانت قادمةً لا محالة، هلا تركتم شيئاً من تعريف ليلى للكاندي؟ "كل شيءٍ حلو ولامع وأنيق" فبهذا وحده نستطيع أن نشيّد المدينة مرة أخرى، بأحلام الصبايا والصغار، ويدُ شاعر ناج تحرسها، أو ربما نستطيع أن نشيّد أنفسنا، على الأقل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 23 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...