"كن ساكناً في تلك العزلة/ التي هي ليست وحشة آنذاك/ أشباح الموتي الذين وقفوا أمامك في الحياة/ سيكونون حولك من جديد في الممات".
إنها ليست المرة الأولى التي يقتبس فيها مخرج الرعب الأميركي الشهير مايك فلاناجان، نصاً أدبياً، مسلسله الأشهر "مطاردة بيت التل" The Haunting of Hill House، مأخوذ عن رواية الأمريكية شيرلي جاكسون المكتوبة سنة 1959 (والتي اقتبسها أيضاً، على نحو ما، المصري أحمد خالد توفيق في قصته "أسطورة البيت").
وكما كان فلاناجان بارعاً، مخرجاً وكاتباً- في تحويل نص خمسينيات القرن الماضي إلى عمل بصري معاصر، وكذلك في اقتباس نفسه، أي صنع أعمال تستند إلى مرجعيات من أعماله السابقة، كما في "قداس منتصف الليل" Midnight mass، فإنه يخوض في عمله الجديد "سقوط منزل آشر"The fall of the house of usher ، تجربة أكثر جرأة؛ كاقتباس واستلهام النصوص الشعرية التي شكّلت منجز الشاعر والقاص الأميركي الرائد إدجار آلان بو ( 1809-18049) ، الذي قدم في حياته القصيرة والبائسة تجربة أدبية مؤسسة في الشعر والنقد والقصة معاً، فضلاً عن تأثيره الرائد في عالم ما صار يعرف بـ "أدب الرعب"، وامتداداته اللاحقة في سينما ودراما التشويق.
يخوض مخرج الرعب الأميركي الشهير مايك فلاناجان، في عمله الجديد "سقوط منزل آشر، تجربة أكثر جرأة؛ كاقتباس واستلهام النصوص الشعرية التي شكّلت منجز الشاعر والقاص الأميركي الرائد إدجار آلان بو
إنه بالطبع ليس أول – ولا حتى عاشر- اقتباس من أدب آلان بو إلى عالم الدراما، حتى من لم يقرأوا نصوص الشاعر الأميركي يعرفون حكايات وشخصيات وأيقونات قصصية، من قبيل "قناع الموت الأحمر" و"القلب النابض" و"القط الأسود"، وغيرها مثل "سقوط عائلة آشر" التي جعلها فلاناجان عنواناً لمسلسله المكون من حلقات ثمان، تدور في ثماني ساعات، والأهم؛ جعل من العائلة إطاراً إبداعياً وعموداً فقارياً لعالم شاعر النثر وأديب الرعب، من خلال قصة الشقيقين رودريك ومادلين آشر، اللذين جعلهما المسلسل – لا القصة الأصلية- عملاقيّ عالم صناعة وتجارة الأدوية، والوريثين غير الشرعيين لأب تنصل منهما وأم مريضة عقلياً قتلت الأب، واللذين وجد فيهما الكيان الشيطاني "فيرنا" (كالا جوجينو) الشخصية المناسبة لقبول صفقته، على أن يكون المقابل، بعد عمر طويل، فناء سلالتهما قبلهما، أو "سقوط العائلة" نهائياً وفناء أثرها.
غير أن الشيطانة فيرنا تلعب دوراً لا يقل أهمية عن الربط بين قصص بو المختلفة من خلال حلقات المسلسل، وإقامة الوصل بين ماضي الشخصيات وحاضرها، تؤدي فيرنا "جوجينو" القصائد والنصوص الشعرية بصوتها، سواء ما كان منها شعراً خالصاً؛ كقصيدة "الغراب" الشهيرة، والتي يلعب بطلها/ غرابها دوراً محورياً في الأحداث، وقصيدة "أنابيل لي" آخر قصائد بو المكتملة، التي تتحدث عن حبيبته التي سكنت "ضريحاً إلى جوار البحر"، ويُعتقد أنها إشارة إلى زوجة بو، الأديبة فيرجينيا إليز التي قتلها الفقر والجوع ومرض السلّ وهي في منتصف العشرينيات من العمر، وهي تتحول في المسلسل إلى الزوجة الأولى لرودريك آشر (كاتي باركر)، المحبة العطوف التي أحبته في زمن البراءة، أو في الزمن الذي كانت تظنه فيه بريئاً، أو -بالعودة إلى صوت جوجينا- تلاوة القصص ذات أسلوب السرد الشعري، مثل "قناع الموت الأحمر" التي كمعظم قصص الأديب الرائد، تتجاوز كونها قصة مخيفة، إلى معاني إنسانية تخترق الزمان.
إنها حكاية الذين ظنّوا أنهم يستطيعون أن يختبئوا في حصونهم، حيث المتعة والثراء والاحتفال، لكن الموت المتفشي بين الناس في الخارج يجد طريقه إليهم في النهاية.
تتحول القصائد هنا إلى تعليق صوتي، وإلى أيقونات بصرية، أو حتى إلى شخصيات فنية، كما في حالة "لينور" حبيبة الراوي في قصيدة "الغراب"، التي تتحول في المسلسل إلى الحفيدة الوحيدة لرودريك آشر (كيليغ كوران)، إلى الشخص "النقيّ" الوحيد الذي أفلت من الطبيعة الشيطانية للعائلة، لكن هذا – للأسف وطبقاً للصفقة الملعونة- لا يعني أن تفلت لينور من مصير العائلة، لا يحرمنا المسلسل رغم ذلك من مكافأة للسلوك الخيّر للحفيدة المراهقة.
على منوال آلان بو نفسه، الذي مزج الشعر بالنثر بالتشويق والحكمة، يتمكن فلاناجان من صنع صورة سينمائية التقطت روح القصائد وعالم القصص معاً، من دون أن تفقد عنصر الرهبة في النصوص الأصلية، وروح التشاؤم القادم عبر قرنين من الزمان
ترتسم القصائد أيضاً من خلال السيناريو، فيقول النص الشعري: "ستجد روحك نفسها وحيدة/ بين أفكار الأضرحة الرمادية المظلمة/ لا أحد، بل الحشد كله/ يحدق في ساعة كتمانك"، بينما يقف المحقق دوبين (كارل لامبلي) وحيداً بين الأضرحة الرمادية لعائلة آشر، تتجسّد القصيدة المتلوة بصوت جوجينو، في ساحة المقابر والخطوات الصامتة في الخلاء الضبابي، والموسيقى التصويرية المتوترة كما يليق بالنص (للموسيقيين Newton brothers).
على عكس عمله الأسبق "نادي منتصف الليل"The midnight club ، الذي حاز نجاحاً متوسطاً، خصوصاً على مستوى الجمهور، يبدو "سقوط منزل عائلة آشر"، رغم جرأته الفنية، ناجحاً جماهيرياً (بتصنيف 8.1 علىIMDB ) وأكثر نجاحاً على المستوى النقدي (بتصنيف 90% على موقع النقاد؛ الطماطم الفاسدة). على منوال آلان بو نفسه، الذي مزج الشعر بالنثر بالتشويق والحكمة، يتمكن فلاناجان من صنع صورة سينمائية التقطت روح القصائد وعالم القصص معاً، من دون أن تفقد عنصر الرهبة في النصوص الأصلية، وروح التشاؤم القادم عبر قرنين من الزمان: "ابق ساكناً/ لأن الليل رغم صفائه سوف يعبس/ والنجوم لن تنظر إلى الأرض من عروشها في الجنان/ بنور يشبه الأمل أعطي للفانين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون