شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
كيف ساعدتني أم الكباتن على مواجهة الخوف من الموت؟ (2 من 2)

كيف ساعدتني أم الكباتن على مواجهة الخوف من الموت؟ (2 من 2)

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 9 نوفمبر 202311:48 ص

هل يرسل لنا الكون رسائل تضامن غامضة في أوقات الشدائد، أم أننا نتوهّم ذلك لكي نضفي على عبثية واقعنا بعض المعنى؟

بعد أن انتهى لقائي القصير والمؤثر بـ "أم الكباتن"، فكرت في هذا السؤال وأنا أستعيد ما روته لي عن حياتها، وتذكرت ذلك الرجل مهيب الطلعة، نورانيّ الوجه الذي قابلته ذات ليلة شتاء في عام 1994، حين كنت أجلس "متفرّداً بكآبتي وصبابتي وعنائي" في ركن قهوة وضيعة مجاورة لمجلة "روز اليوسف" التي كنت أتدرّب فيها خلال دراستي الجامعية.

كنت أشعر بالإحباط المبين بعد فشل أول قصة حب عبيطة في حياتي، وإدراكي أن العمل بالصحافة أصعب وأعقد بكثير مما تخيلت. كان الغمّ على وجهي أوضح من أن يحتاج إلى تفسير، ولذلك لم أستغرب حين بادرني الرجل قائلاً: "ما تقلقش يا كابتن، هتُفرج من وَسَع والله"، وقبل أن أجيبه ولو حتى بإيماءة، أضاف كأنه يعرف تفاصيل ما أعانيه: "لو ليك خير فيها كان ربنا نوّلها لك، ولو كانت شر فربنا نجّاك منها، وفي كل الأحوال يلعن ميتين أبوها"، ثم أخذ بعضه وساب القهوة.

لم يكن فيما قاله سحر ولا شعوذة، لكنه بخفّة مدهشة أزاح حجر كآبة كان يطبق على أنفاسي، بالطبع لم تتلاش أسباب حزني أو دواعي قلقي، لكنني أصبحت أهدأ وأكثر قدرة على التعامل مع أزمتي، لمجرّد أنني سمعت كلمات بسيطة ذات قفلة حراقة أطلقها غريب عابر رأى بعض أصدقائي، المتشككين في أحقيتي بأي كرامة أو إشارة كونية، أنه لم يكن موجوداً من أصله وأنني تخيلته، فما الذي يدعو رجلاً، نوراني الوجه، مهيب الطلعة، للجلوس في قهوة معفّنة كتلك، وبعضهم، الأكثر تعقلاً وتعاطفاً، قال إن كلمات الرجل، لو صدقنا وجوده، تنطبق على أي شيء في العالم، وأنه ربما كان يظن أنني حزين على سرقة محفظتي أو نتيجة امتحانات نصف السنة، أو ظنّ أنني مقدم على الانتحار، فقرّر إراحة ضميره وقال لي ما فيه النصيب، وأنه بدلاً من أن يلعن "ميتين أبوها"، كان ينبغي أن يلعن سنسفيلي أنا، ويختم كلامه قائلاً: "ما تسترجل يا خيبتها وشوف هتدفع إيجار شقتك إزاي أول الشهر".

هل يرسل لنا الكون رسائل تضامن غامضة في أوقات الشدائد، أم أننا نتوهّم ذلك لكي نضفي على عبثية واقعنا بعض المعنى؟

بعكس "الرجل نورانيّ الوجه"، كان دخول "أم الكباتن" المفاجئ في حياتي أقل درامية وأكثر عبثية. كانت زحمة عيادة طبيب القلب قد خفّت، وكنت منهمكاً في قراءة كتاب "حرز مكمكم" الذي روى فيه أحمد ناجي تجربته المريرة والعبثية في سجون مصر. لم يكن من الحكمة أن أقرأ كتاباً عن السجون وأنا أجلس في انتظار إجراء رسم قلب بالمجهود، لكن الكتاب الممتع أجبرني على استكماله، فاعتبرت أسى حكاياته جزءاً من المجهود الذي سأواصل بذله حين يأتي دوري في الكشف.

توقفت عن القراءة حين انبعث من خلفي زياط معلّق كروي عربي، يغالي في مديح محمد صلاح الذي أحرز للتو هدفاً في إحدى مباريات ليفربول في الدوري الإنجليزي. نظرت إلى مصدر الصوت، فوجدته ينبعث من موبايل سيدة خمسينية، محجبة، حبّوبة الملامح، كلبوظة الوجه، بدا أنها تحاول ضبط فرحتها بالهدف وصاحبه، ولو كان عليها لوقفت في العيادة وصفّقت وهلّلت وشاركت المعلق في زياطه، لكن صوتاً غاضباً قطع بهجتها وطلب منها خفض صوت الموبايل أو وضع السماعات، لتعتذر له ولمن حولها بإنجليزية متعثرة، وتقول مبتسمة إنها نسيت السماعات في البيت ولم يكن ممكناً أن يفوت عليها الماتش المهم.

شجّعني جفاء من حولنا على تطييب خاطرها بكلمتين، فقلت لها "ولا يهمك"، وحين نظرت إليّ تعرفت عليّ، فاتسعت ابتسامتها ونهضت لتسلم عليّ بحفاوة وتجلس إلى جواري وهي تقول إنها بلدياتي من الإسكندرية، لكنها من حي السيوف، أما أنا فمن "محرم بيه، لو أنا فاكرة صح"، وقبل أن يخفّ حرجي من حفاوتها، فاجأتني حين قالت إنها كانت تتابعني في برنامج "عصير الكتب أيام دريم"، وأنها ورثت حب القراءة عن أبيها العامل المثقف الذي كان يحب تضييع فلوسه على الكتب والجرائد والمجلات، وأنني كنت أساعدها على تعويض انقطاعها عن القراءة بحكم مسؤوليات العيال وأبيهم.

حين بدأ حديثنا، كتمت السيدة اللطيفة صوت الموبايل، واكتفت بالنظر إلى الماتش من حين لآخر للاطمئنان على استمرار تقدّم محمد صلاح: "باشجع ليفربول عشانه مخصوص، ربنا يحميه ويفرحه زي ما بيفرحنا"، ولم تكن بحاجة إلى مقدمات لتترك سيرة محمد صلاح وتتدفق في حكي عذب لم تكن تدرك أنني كنت أحوج ما أكون إليه، ليس فقط لكي أغالب زهق الانتظار المقيت في العيادة، وإنما لكي أتذكر بفضلها بديهيات الحياة التي أنسانيها الخوف من الموت.

كان حلمها أن تكون مدرّسة لغة عربية، لكنها خرجت من "ثانية كلية تربية"، بعد أن تعرّض أبوها العامل المكافح لوعكة صحية دفعته لحثّها على الزواج لكي يطمئن عليها قبل أن يموت، فتزوجت مرشداً سياحياً من أقارب الأب الذي رأى أنه ابن حلال وسيصونها، وقد كان عند حسن ظن الأب وزيادة، أنجبت منه ثلاث أولاد "فوق رؤوس بعض"، وعوضتها جدعنة الزوج ومحبة الأولاد عن خيبة أملها في مستقبل مختلف عما وجدت عليه أمها وخالاتها وسائر نساء عائلتها.

عاشت عمرها كله في حي "السيوف شماعة" البعيد عن قلب الإسكندرية، يعني، أقصى مكان كانت تذهب إليه حين تفارقه هو "دوران الساعة" لتقضي طلبات العيال إن انشغل الزوج، تقول "يا غربتي" حين كانت تذهب مع العيال في الأعياد إلى محطة الرمل أو المنشية أو قلعة قايتباي أو حتى إلى حدائق المنتزه الأقرب، وحين تعود إلى شارعها الضيق الذي لا يعرف أغلب الاسكندرانية موقعه من الخريطة، كانت أحياناً تشعر بالسخط لأنها تعيش "محدوفة في آخر الدنيا"، لكنها كانت تسارع في الاستغفار وتحمد الله على الصحة والستر والزوج الجدع والأولاد الذين يفرحون القلب والأم الحنيّنة التي تسكن قريباً منها، ولم يكن يخطر على بالها أنها حين تفارق ما ألِفته، ستنتقل إلى نيويورك مرة واحدة.

حين توقفت السياحة بعد الثورة، وقف حال زوجها، وحين لم يصادفه الحظ في أكثر من شغلانة لا تليق به، قرّر أن يغامر ويلحق بابن عمه الذي سافر إلى نيويورك أيام الرخص، وبات يمتلك حصة في مطعم ناجح للأكل الحلال في نيويورك، وبجدعنة غير معهودة وعد بأن يساعده في الدخول الشرعي للبلاد، وإن كان قد حذره بأنه سيقرص عليه في العمل حبتين لأنه سيفتح فرعاً جديدا للمطعم، وسافر الزوج وتحمل رزالة ابن عمه، وحين مشي حاله في الشغل وفتح الله عليه، أدرك استحالة العودة إلى كرب مصر الذي يزيد يوماً بعد يوم، فبعث إليها بعد عامين لتلحق به مع العيال، ويلتمّ شمل الأسرة وراء الأطلنطي.

لم يكن الانتقال سهلا عليها، فالزوج المخنوق من جيرة أبناء جلدته، اختار أن يبتعد بأسرته عن "أستوريا" أو "بي ريدج" حيث تكثر العائلات العربية في نيويورك، واختار سكناً في حي أغلب سكانه صينيون ومكسيكيون، مبرّراً ذلك بأن الإيجارات أرخص في المنطقة. انزعجت في البداية لأنها كانت تأمل في جيرة أكثر وداً، لكنها ارتاحت حين وجدت أن إنجليزيتها المكسرة أفضل بكثير من جيرانها، ووجدت طريقة للتفاهم معهم باللغة العالمية الأكثر انتشاراً، لغة ربات البيوت القائمة على تبادل الأطباق والوصفات وصور الأولاد، وأصبحت مع الوقت تساعد بعض جاراتها في تحسين لغتهن مثلما حسّنت هي مستواها بمساعدة أقرب أصدقائها في نيويورك: يوتيوب.

أحب الأولاد سكنهم الجديد من أول نظرة، لأنه جاور ملعباً لكرة القدم اهتم بتطويره مكسيكيو الحتّة الذين ليس لهم في البيسبول والفوتبول الأمريكاني، كان الأولاد محظوظين لأن وصولهم إلى أمريكا ترافق مع زيادة اهتمام الأمريكان بالـ "Soccer" بعد أن كسب فريقهم النسائي كأس العالم. نفعت العيال مهاراتهم في الترقيص والتغزيل والتنطيق التي تعلموها في حارة السيوف، والتي لم تجد هنا مصفقين ومهللين فقط، بل ومهتمين بدعم موهبتهم التي يمكن أن تساعدهم في الحصول على منح دراسية في جامعات بدأت تهتم أكثر باللعبة، وحين تزامن ذلك كله مع انفجار نجومية محمد صلاح الذي شاركت الأم أبناءها في متابعته بشغف، جعلها ذلك تساندهم في مواجهة الأب الذي لم يكن مبسوطاً بلعب العيال الذي يمكن أن يعطلهم عن الدراسة والنجاح في الغربة التي سيعيشون فيها منافسة لا ترحم، ونجحت في إقناع الأب بدعم أولاده والتوقف عن تقطيمهم في الرايحة والجاية، لكن دعمه لم يصل إلى درجة مشاركتها في إيمانها القاطع أن "محمد صلاح الجاي" سيكون واحداً من أبنائها أو ربما جميع أبنائها.

كتمت السيدة اللطيفة صوت الموبايل، ولم تكن بحاجة إلى مقدّمات لتترك سيرة محمد صلاح وتتدفّق في حكي عذب لم تكن تدرك أنني كنت أحوج ما أكون إليه، ليس فقط لكي أغالب زهق الانتظار المقيت في العيادة، وإنما لكي أتذكر بفضلها بديهيات الحياة التي أنسانيها الخوف من الموت

عاد الغم إلى حياتها بعد غياب ظنّت أنه سيطول، حين ماتت أمها التي كتمت لفترة طويلة تدهور حالتها الصحية عن ابنتها، ليأتي خبر رحيلها صاعقاً فترقد طريحة الفراش. ساندها الزوج الذي سمح لها بأن تعود إلى السيوف وتظل فيها لأشهر، متحمّلاً مسؤولية أولاده الذين لم يكن ممكناً أن تنقطع دراستهم وتدريباتهم لو سافروا معها. لم تهنأ بالعودة إلى السيوف، فقد قطع موت أمها صلتها بعالمها القديم الذي لم يعد لها فيه الكثير. عادت إلى حضن زوجها وأولادها في "العالم الجديد"، محاولة تخفيف اللوم عن نفسها لأنها لم تكن إلى جوار الأم في أيامها الأخيرة، ودفنت همّها في شغل البيت والاهتمام بالعيال وطلباتهم المتزايدة، وحين بدأت تشعر بالإرهاق والدوخة وارتفاع ضربات القلب، لم تطلب المساعدة، وكأي أم مصرية صالحة احتفظت بمتاعبها لنفسها وكابرت إلى أن وقعت مغشياً عليها، وأسعفوها إلى المستشفى ليكتشفوا أن لديها مشكلة في الشريان التاجي ورثتها عن الأب الذي جابت أجله نوبة قلبية مفاجئة.

"العيال قلبوها مناحة وكإني خلاص قدامي شهرين وهاتكل على الله، انت فاهم بقى، الفرجة على الأفلام الأبيض والاسود برضه لحست مخنا في موضوع القلب، أبوهم برضه اترعب عليّ، بس قدر يخبي ويبين إنه مش خايف، بس أنا برضه حاسة بيه، تلاقيه بيندب حظه إنه اتجوز واحدة بدل ما تشيله بقت لوحدها شيلة، بس حق ربنا بيحاول يريحني على الآخر، لكن أنا مش هاقعد بروطّة في البيت لا شغلة ولا مشغلة، أصلا ده مش صح، لإن القعدة بتعيّيني، بس مش باقرص على نفسي في الشغل، باخد أدويتي وأسمع كلام الدكتور من غير فذلكة، من كرم ربنا إنه رزقني بدكتور من دمنا ولحمنا، بيقول لي اللي فيها بس من غير ما يرزع الكلام في وشي زي الدكاترة الأمريكان، الحمد لله، الموضوع مقدور عليه، وممكن يحتاج أركّب دعامة، المشكلة بس إني مش عارفة أخسّ، الله يسامحهم بقى أبويا وأمي، ورثت منهم الضغط والسكر والقلب والتّخن فوق البيعة، بافكر أعمل عملية عشان أخس بس من ساعة ما قريت عن اللي بيموتوا وهما بيعملوها، قلت لأ بلاش الواحدة تروح للموت برجليها، ييجي هو في المعاد اللي ربنا كاتبه".

حاولت دعمها باستدعاء بعض تجارب من تصالحوا مع الأزمات القلبية المتكرّرة وعاشوا أطول مما كان يظن أطباؤهم، مثل الأستاذين عمار الشريعي ووحيد حامد، وقبل أن أسترسل قاطعتني قائلة إن أخطر خطأ يمكن أن يرتكبه مريض القلب هو الطمأنينة أو الأمل في حدوث معجزة تجعل حظه أفضل من غيره، لأن ذلك سيجعله يثق في ماكينة خربانة وينهار في أقرب فرصة، لذلك قرّرت أن تتصالح مع حقيقة أن الموت يحيط بها طيلة الوقت وأن عليها أن تحترمه بالتعايش مع كونه أقوى بكثير منها، وتذكر نفسها بأنها لا تملك في مواجهته إلا استثمار كل لحظة حياة متاحة لها لكي تكون أكثر قرباً من زوجها وأبنائها.

أحزنها أنها لم تعد تستطيع حضور مباريات وتدريبات الأولاد، لأنها لم تعد تتحمّل الانفعال كلما سقط أحدهم على الأرض في التحام غبي أو عرقلة خبيثة: "الدكاترة بتهزّر طبعاً، يعني إيه أم تبطل انفعال، دي تبقى أم إزاي، أنا قلت له بص يا دكتور ممكن تقول لي خففي الانفعال، قلليه شوية، لكن أبطل انفعال، مش زرار هو يعني هادوس عليه، ما كانش حد غُلُب"، تقول بحدة، ثم تضحك وهي تستدعي زوجها الجدع الذي أصبح يعاونها في شغل البيت وهو الذي كان لا يشيل كوبّاية من مكانها، لكنها تشكو من عدم تعامله الواقعي مع فكرة الموت، وكراهيته لأي نقاش تفتحه حول مكان دفنها: "خدت قرار خلاص، هاتدفن هنا جنب ولادي، أصل يعني لو اتدفنت جنب أمي وأبويا، مين هيزورني هناك، أخواتي ملهيين بحالهم وعيالهم، مش عايزة العيال تضطر ترجع مصر عشان يزوروا قبر أمهم، افرض اتحبسوا هناك وما عرفوش يرجعوا، أبقى جنيت عليهم بعد ما متّ".

مسكت نفسي بالعافية عن طلب رقم موبايلها لأطمئن عليها من حين لآخر وأتونّس بحكيها الساحر الذي ساعدني استحضاره وتأمله على مواجهة خوفي من الموت والتصالح مع النوم، فلعبت معي وبفاعلية أكبر دور الرجل نورانيّ الوجه

حكت لي ضاحكة عن أخيها الذي لا يكف عن تحذيرها من البقاء في أمريكا لكيلا تخسر أخلاق العيال، وهو لا يعرف أن أخلاق عياله أوسخ من الوساخة، ثم تقول كأنها تطمئن نفسها "أهو هنا لما ياخدوا الجنسية هيبقى ليهم حقوق يطلبوها من غير ما ضابط يضربهم على قفاهم ولا أمين شرطة يعمل عليهم دكر في لجنة، خليهم هنا أحسن وربنا هيصلح حالهم ومش هيخيب أملي فيهم، أنا بس كل اللي طالباه من ربنا ما يورثوش مني لا القلب ولا السكر ولا الضغط، نفسي أحرمهم من الميراث المهبّب ده، ده كل اللي خايفة منه، ويا سلام بقى لو ربنا يكرمني لغاية ما أشوفهم ناجحين وكل واحد فيهم فاتح بيت، لو ما حصلش نصيب يبقى خلاص، آديني فرحت معاهم وبيهم، وأهم حاجة إني بعد ما أتكل على الله هيفتكروني بالخير زي ما بافتكر أبويا وأمي، ياما في عيال ما بيفتكروش لأهاليهم إلا النكد والقرف، عشان كده ما بيعديش يوم إلا لما أعمل فيه اللي يسيب لهم ذكرى حلوة يفتكروني بيها ويدعوا لي، ده اللي في إيدي أعمله والباقي على الله".

كانت تلك أول مرة أتمنى أن يتأخر نداء الممرضة عليّ لأظل بصحبة أم الكباتن أطول فترة ممكنة، وحين جاء دوري فقطع حكيها، مسكت نفسي بالعافية عن طلب رقم موبايلها لأطمئن عليها من حين لآخر وأتونّس بحكيها الساحر الذي ساعدني استحضاره وتأمله على مواجهة خوفي من الموت والتصالح مع النوم، فلعبت معي وبفاعلية أكبر دور الرجل نورانيّ الوجه، بالطبع تطلب الأمر أن أطمئن على حالة قلبي وأواظب على الدواء الذي ساعدني على التخلص من الجلطة، وأنتظم في تضبيط الأكل وممارسة الرياضة، لتتضاءل نوبات خوفي المزعجة حتى تلاشت، لأقضي الدقائق الأخيرة قبل نومي مقتدياً بأم الكباتن، فأتأمل ما قمت به في يومي لكي يكون أفضل وأقل سوءاً، لي ولمن أحب، ومفكراً فيما يجب أن أفعله للتغلب على مخاوفي الباقية من المرض وفقد الأحباب والبطالة وتدهور أحوال بلادنا أو بقائها على ما هي عليه.

قبل أسبوعين، قرأت بترشيح من صديق لحوح كتاباً بعنوان "فكر أقل في الموت" للكاتب الأمريكي ستيفن نادلر، اعتمد فيه على أفكار الفيلسوف سبينوزا في التعامل مع الموت الذي سيقل خوفنا منه ويكون أقل ضرراً كلما زادت معرفتنا المتبصرة بأنفسنا وبما نرغب في فعله في الحياة، وكلما كان سعينا إلى الخير فقط لأنه خير دون أهداف أخرى، لأن الغبطة ليست جزاء الفضيلة، بل الفضيلة ذاتها هي الخير، ولأن الإنسان الحر حين يكرس حياته للبحث عن الخير والنفع العام، سيفكر في الموت بدرجة أقل، وسيقضي وقته في تأمل الحياة ومواجهة تحدياتها، وحين سألني صديقي المنبهر بالكتاب عن رأيي فيه، لم أرغب في تخييب حماسه، وشكرته على الترشيح، وقلت له إنني كنت سأنبهر بالكتاب بنفس درجة انبهاره، لو لم أكن قد تعرفت على أم الكباتن، ثم حكيت له حكايتها من طقطق لسلامو عليكم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard