لم يكن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، يوماً عادياً في تاريخ الشرق الأوسط، بل كان مناسبةً عادت فيها القضية الفلسطينية لتتسيّد المشهد السياسي العربي، مغيّرةً ما بنته سياسات الحكومات والأنظمة طوال السنوات الأخيرة، من مسار تطبيع العلاقات السياسيّة مع إسرائيل، ولا يخرج المغرب عن هذه القاعدة.
فبعد أن أعلنت الرباط عن علاقات سياسيّة ودبلوماسية رسميّة مع إسرائيل، خلال إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في ما إطار ما يُعرف بـ"الاتفاقيات الإبراهيمية"، كان حجم المعارضين لهذه الاتفاقيات محصوراً في صفّ سياسي محدود. لكن اليوم، يبدو أن "الصف المناهض للتطبيع" يعيش صحوةً غير مسبوقة.
تضامن مع غزة
دفعت الحرب المتواصلة، ملايين الرافضين للحرب والعدوان عبر العالم، إلى الخروج في مظاهرات ومسيرات، باختلاف مشاربهم وانتماءاتهم الثقافية والفكرية، يساريين كانوا أو يمينيين، إسلاميين أو علمانيين، فالاختلاف هنا موجود، لكن الهدف واحد؛ إدانة الحرب والانتصار لقضية إنسانية عادلة.
منذ أن عادت عجلة الحرب إلى الدوران، لم تفرغ الشوارع المغربية من وقفات وحملات التضامن مع الضحايا الذين سقطوا، فكلما انتشرت دعوة للتضامن، لبّى المغاربة النداء، حتى سيطرت هذه الحرب على النقاش العام، الشعبي منه والرسمي.
فمن الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، احتضنت المدن المغربية تظاهرات ووقفات احتجاجيةً شارك فيها مئات الآلاف من المغاربة، وكان عمادها الأساس إدانة العدوان الإسرائيلي ضد المدنيين في فلسطين، فضلاً عن دعوة السلطات المغربية إلى "وقف التعامل مع تل أبيب".
غزة في القلب
"فلسطين أرضي حرّة وإسرائيل تطلع برّا"، و"لا تراجع لا استسلام والمقاومة إلى الأمام"، و"الشعب يريد إسقاط التطبيع"، من الشعارات التي يردّدها المغاربة خلال مظاهراتهم المتضامنة مع فلسطين يومياً. وهي المظاهرات التي تشكل نقطة التقاء جديدةً تجمع اليساريين بالإسلاميين، وتنفتح على المكوّن الشعبي.
لم تخلُ المسيرات والوقفات من مشاركة مواطنين متجرّدين من أيّ انتماء سياسي أو أيديولوجي، وممّن يتسلّحون بعدالة القضية وعمقها الإنساني.
وعبَّر المغاربة عن تضامنهم العميق مع ما يواجهه الفلسطينيون من عدوان متواصل يخوضه ضدهم الجيش الإسرائيلي، فيما آثر آخرون، وبكل جرأة، انتقاد علاقات الرباط بتل أبيب، والتي شهدت ديناميةً مستمرةً منذ نحو ثلاث سنوات.
اتّضحت محدوديّة الآلة الدعائيّة والإعلاميّة التي اشتغلت بقوّة بعد ما سُمّي بـ'استئناف المغرب للعلاقات' مع إسرائيل
لكن كيف نقرأ التحرك الشعبي المغربي بخصوص أحداث غزة، وآثاره على العلاقات الرسمية للمغرب مع إسرائيل؟
يرى عبد المغيث أطريدانو، أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس في الرباط، في حديثه إلى رصيف22، أن "التحرك الشعبي المغربي للتضامن مع فلسطين وإدانة الإبادة الجماعية في غزة، يؤكدان مجدداً على المرتبة التي يضع فيها المغاربة القضية الفلسطينية، فهي كانت دائماً قضيةً وطنيّةً جامعةً، راكمت تصوراً موحداً لم يتبدل منذ عقود، لهذا لم يستطع العقل المغربي استساغة التطبيع مع كيان يعدّه محتلاً وفاقداً للشّرعية".
من هذا المنطلق يفسر أطريدانو، عودة الرّفض المجتمعي لخيار التطبيع، إذ يفيد بأن "طرح هذا الرفض رسميّاً خلال الوقفات الحاشدة يتمخّض عن المرجعيّة المغربية القديمة ذاتها، التي ما زالت ترى عدم إمكانية الخلط، ولو مبدئياً، بين التضامن مع فلسطين وإقامة علاقات سياسيّة أو اقتصاديّة أو ثقافية أو أمنية مع إسرائيل، بوصفها بالنّسبة للمغاربة دولة احتلال".
ويضيف المتحدث: "اتّضحت محدوديّة الآلة الدعائيّة والإعلاميّة التي اشتغلت بقوّة بعد ما سُمّي بـ'استئناف المغرب للعلاقات' مع إسرائيل، والذي تمّ قبل نحو ثلاث سنوات".
هذه الآلة، وفق ما يُبديه المتّحدث، "لم تتمكّن من بلوغ الأهداف المرجوّة منها، باعتبار أن بناء 'الحقيقة' داخلها كان عبر إظهار التطبيع كمسألة طبيعية عادية، وصقله كمُسلَّمة داخل العقل الشّعبي المغربي في الأساس".
ويشرح أن "السلطة لم تمنع المظاهرات الرافضة للعدوان الإسرائيلي، ولا فحوى الشعارات المبدئية التي تهاجم بحدّة أطروحة التطبيع، لكوننا اليوم في ظرف خاص ودقيق جداً يلامس شعور غالبية المغاربة، وهو قتل الاحتلال للأهالي في قطاع غزة".
"قطع العلاقات... الحل الوحيد"
مقابل موقف شعبي رافض ومندّد بالعدوان الذي يمارَس في حق فلسطينيي غزة في الوقت الراهن، برز الموقف المغربي الرسمي منذ وقت مبكر من الحرب، لكنه كان محتشماً.
فقد أدانت المملكة عبر خارجيتها، في مناسبات مختلفة، استهداف المدنيين "من كلا الطرفين"، فضلاً عن "إدانتها واستنكارها للاستهداف الإسرائيلي للمنشآت المدنية"، واستمرار "الإجراءات الجائرة أحادية الجانب في القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة".
حيال الموقف الرسمي المغربي مما يقع في الأراضي الفلسطينية، يرى العديد من المدافعين عن فلسطين ومناهضي التطبيع في البلاد، أن الخطاب الرسمي "قفز فوق مسألة العلاقات مع تل أبيب"، إذ وفق ما يقولون "لم يُشِر إلى أي إجراء سيلمس هذه العلاقة"، في ظل الأحداث الجارية حالياً، مقدّمين مثالاً ما قامت كل من البحرين والأردن، اللتين استدعتا سفيرهما في إسرائيل.
الاختيار الصائب في هذه الظرفية، بالنظر إلى طبيعة الحرب، يبقى إيقاف مختلف التعاملات مع الاحتلال
بعد "طوفان الأقصى"، وما تبعها من رد إسرائيلي عنيف في إطار عملية "السيوف الحديدية"، التي أطلقها الجيش الإسرائيلي بهدف "اجتثاث حماس" من معاقلها في قطاع غزة المحاصر منذ سنوات، عبّرت فعاليات مدنية مختلفة مؤيدة لفلسطين عن تطلعاتها إلى "إيقاف الدولة لتعاملها الرسمي مع الجانب الإسرائيلي"، عادّةً أن أي إجراء أو موقف خارج هذا الإطار "يبقى دون نجاعة وفعالية".
فعلى هذا النحو، يرى سِيُون أسيدون، الناشط الحقوقي الداعم للقضية الفلسطينية والمناهض للتطبيع، أن "مجمل المواقف والتعابير التضامنية التي تم التعبير عنها في المغرب منذ بداية الحرب على غزة، هي مهمة يشَادُ بها، غير أن حدّة الظرفية الحالية وخصوصيتها تتطلبان الذهاب إلى ما هو أعمق، في ما يهم تعامل السلطات المغربية مع مقترفي الإبادة الجماعية في حق الفلسطينيين".
ويفسر أسيدون رأيه في حديثه إلى رصيف22، قائلاً: "تمتلك الدولة مجموعةً من الآليات والوسائل للضغط على الجانب الإسرائيلي، كاللّجوء إلى توقيف مختلف العلاقات السياسية، وإلغاء مختلف الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية المبرمة مع تل أبيب، فالاختيار الصائب في هذه الظرفية، بالنظر إلى طبيعة الحرب، يبقى إيقاف مختلف التعاملات مع الاحتلال"، موضحاً: "كمغاربة نرفض أن تكون لبلادنا علاقات مع ممارسي الحرب ضد شعب فلسطين".
الحقوقي ذاته يشير إلى أن "ما هو ملموس في التحرك الشعبي المغربي الأخير، هو الدعوة إلى خيار المقاطعة الشاملة للشركات التجارية التي لها علاقة مع تل أبيب، فهذا تطور ملحوظ في العقلية الشعبية المغربية، لم يكن مطروحاً غداة حرب 2014 أو 2021 الأخيرة على قطاع غزة".
مقابل الدعوة إلى القطيعة الكلية مع إسرائيل، يرى المحلّل السياسي البراق شادي عبد السلام، في حديثه إلى رصيف22، أنه "على الرغم من استئناف المغرب للعلاقات مع إسرائيل في كانون الأول/ ديسمبر 2020، فقد ظلّ يؤكّد على استنكاره لكل التجاوزات الإسرائيلية في حق القضايا العادلة للشعب الفلسطيني".
ويشير إلى أن "دعوات بعض الأطراف داخل المغرب إلى العودة إلى الدرجة صفر في علاقة الرباط بتل أبيب، تظل في شقّ منها مجرد شعارات ذات حمولة سياسية، الغرض منها الضغط على الدولة لإعادة التموضع من جديد في الحقل السياسي واسترجاع مكاسب معيّنة خاصّة".
ويشرح المتحدّث تحليله هذا، بأن "العناية والاهتمام المغربيين بقضية فلسطين يتجليان بوضوح من خلال الرفع من درجتها وجعلها في مرتبة عليا، كما نلمس في الدور المغربي الذي يمارسه الملك باعتباره رئيساً للجنة القدس، إذ ما فتئ يؤكد على التزامه بدعم الملف الفلسطيني والحفاظ على مقدسات المسلمين في القدس الشريف، فضلاً عن تشديده على ضرورة تحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط".
وخلال الأيام الأولى من الحرب على غزة، وتزامناً مع فورة شعبية مغربية منددة بها، ووفقاً لما نقلته وسائل إعلام عبرية ومغربية، غادر أعضاء مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط البلاد، بمن فيهم القائم بأعمال المكتب ديفيد غوفرين، بعد قيامهم بتجميد أنشطتهم الديبلوماسية والقنصلية، ليتضح في ما بعد أن الأمر تعلّق بعملية إجلاء قامت بها وزارة الخارجية الإسرائيلية في عدد من البلدان التي تشهد مظاهرات مناصرةً لفلسطين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه