شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الإغاثة والإنقاذ... هل يكفي أن تكون قلوبنا مع الحسين؟

الإغاثة والإنقاذ... هل يكفي أن تكون قلوبنا مع الحسين؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحقيقة

الخميس 9 نوفمبر 202308:51 ص

في قريتي، قبل دخول الغاز والكهرباء وبعد سنين من إنارة الكهرباء، أدركت زمناً اختفت الآن معالمه. لم يكن أحد يعرف اسم ونستون تشرشل أو قرأ شيئاً لنيكوس كازانتزاكيس. لكن بينهم من هو أكثر حكمة من زوربا اليوناني، ولا يحظى بكاتب يوثق فلسفته التي هي عصارة الخبرة والذكاء الفطري. كانت سطوح المنازل تتراصّ بالقشّ والحطب، وقوداً لسنة كاملة. يقع أحياناً حريق محدود، أو كبير يلتهم حارة كاملة. وبحكم الفقر وضيق ذات اليد، لا بديل عن طريقتهم الخطرة في تخزين الوقود المتاح. خطورة يتحدّوْنها بسواعد تستطيع تقليل نتائجها الكارثية، يؤمنون مع زوربا بأن "الطريقة الوحيدة لإنقاذ نفسك هي أن تناضل لإنقاذ الآخرين".

يشبّ الحريق، فلا أحد يسأل: كيف؟ أو من المسؤول؟ توقيت السؤال حماقة، ترفٌ لا يحتمله موقف تزداد معه الخسائر قبل الانتهاء من طرح السؤال. يتعاون الجميع، رجالاً ونساءً وأطفالاً في الإتيان بالمياه، في آنية منزلية، من حنفية عمومية ومن أقرب المصادر للمياه. والأقوياء يواجهون ألسنة اللهب بأعمدة خشبية تكبح سريانها في الهشيم. من دواعي الكبرياء إطفاء الحريق قبل وصول سيارة المطافئ. ترجع السيارة؛ فيتباهون بأن في البلد رجالاً، ويتندّرون على قرى أخرى تنتظر الغوث، بعد "خراب البصرة". من دون الحاجة إلى قراءة زوربا، يدركون حكمة أن إنقاذ أنفسهم يبدأ بإغاثة الجار المنكوب، وإنقاذ بيته وأهله، ومواشيه وطيوره وخزينه من الحبوب.

هناك ضعفاء يكتفون بالإشفاق على جيرانهم، قلوبهم مع الضحايا وسيوفهم ليست مع العدو. وبيننا عرب يتحالفون مع العدو، لا يعون درس المعلم يعقوب المتحالف مع الاحتلال الفرنسي لمصر

جار أحمق فعلها مرة واحدة. خرج على هذا النسق؛ فأثبت أن زوربا وهؤلاء الفلاحين على حق. دفعته الأنانية وقصر النظر إلى رشّ سطح بيته بالمياه، بدلاً من التعاون مع الآخرين على إطفاء النيران، فلا تسرح وتمتد إلى منازل مجاورة. لو أنه ذهب بأولاده، وأسهموا بمياه أمطروها على سطحهم، لكان لهم شرف الاشتراك في تحجيم النيران في جغرافيا محدودة. هو اختار الخلاص الفردي بتحصين بيته. أنانية ساذجة في مواجهة إعصار يتطلب جهوداً جماعية. مواجهة النيران في البيت المشتعل شجاعة وإيثار، استباق ذكي يمنع تمدّدها. ومحدود الذكاء يحق عليه قول تشرشل: "كان لديكم خيار بين الحرب والمهانة: اخترتم المهانة، وسوف تدرككم الحرب".

العاصفة بلغت بيت الجار. أتت النيران، بسرعة أقل، على الحطب المبلول. والجيران تعاملوا بشهامة واجبة مع جار غبي لا يعي درس جحا المغفّل، وهو لا يبالي بانتهاك أهل بلده، قائلاً: "طالما بعيد عن طيزي، خلاص". الجار الأناني وجحا فاقد المروءة كلاهما استحق المهانة والخراب. العدو يحترم الأقوياء ولا يحبهم. أما الضعفاء الأذلاء فلا احترام لهم ولا محبة. هناك ضعفاء يكتفون بالإشفاق على جيرانهم، قلوبهم مع الضحايا وسيوفهم ليست مع العدو. وبيننا عرب يتحالفون مع العدو، لا يعون درس المعلم يعقوب المتحالف مع الاحتلال الفرنسي لمصر. سيهزم العدو، وفقاً لحتمية التاريخ، ويذوب في محيطه، أو يرحل متبوعاً بحلفائه من ملوك الطوائف.

العدو يحترم الأقوياء ولا يحبهم. أما الضعفاء الأذلاء فلا احترام لهم ولا محبة.

لم تغفر الكنيسة القبطية للجنرال يعقوب تعاونه مع الغزاة. وفي عام 1801 رحل مع الفرنسيين، وتوفي في الطريق، فأبرقوا إلى نابليون، بخدمات يعقوب للجيش الفرنسي، ووصيته بأن يدفن بجوار صديقه الجنرال ديزيه، فجاء رد نابليون قاطعاً: ادفنوه في أي مكان؛ ففرنسا لا تدفن الخونة بجوار أبطالها. والناظر إلى السلوك الإجرامي لجيش العدو لا تدهشه التفاصيل. متى كانت للعدوان أخلاق؟ لا يبحث القوي عن غطاء أخلاقي لعدوانه. بعد عام 1492، وتحت راية الكتاب المقدس، أبيد السكان الأصليون في الأمريكتين. والآن يمنح قادة الحلف الصهيوأمريكي (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا) ضوءاً أخضر لتنفيذ عدوان مفتوح بلا سقف، متجاهلين مظاهرات الرفض في بلادهم.

العجز عن تأمين وصول ضرورات الحياة إلى مليونيْ فلسطيني، محبوسين تحت القصف، إدانة لمحيط بشري يزيد على أربعمئة مليون عربي، داخل محيط أوسع يبلغ ملياري مسلم. ذلك لأن الشعوب نفسها محبوسة، والقادة فاقدو الشرعية، ويعلمون أنهم عراة، أعينهم مكسورة أمام رعاة يضمنون لهم دوام السلطة. رعاة العدوان يعلنون عن مساعدات تجعل العدو قادراً على إتقان الإبادة. والمكسورة أعينهم لا يملكون إلا وعوداً بإعادة الإعمار، بعد انتهاء العدوان. وهل يبقى في غزة أحد؟ إذا لم يكن هذا وقت الدفاع عن النفس، فمتى؟ أمن الوطن أبعد من حدوده الجغرافية. درسٌ لم يتعلمه الأحمقان... جحا الذي لم تسلم مؤخرته، والجار الذي احترق بيته.

كان للإبادة الحالية أن تمرّ، كما مرّت إبادات سابقة ومجازر في فلسطين منذ النكبة، لولا وسائل الإعلام التي نجحت في تقديم الحقيقة المروعة، ونقضت الرواية الصهيونية. الصهاينة الأوائل أنكروا وجود فلسطين وحرّموا نطقها. ثم لمست الحقيقة عصباً عارياً في الضمائر؛ فنطقت الألسنة باللغات كلها باسم فلسطين وحريتها. هذا عامل مهم في الصراع، يكبح توجها شعبوياً يلعن كل ما ومن هو غربي. والغرب ليس قادته المتحالفين مع أباطرة السلاح. استيقظ الضمير الغربي، ويكتسب أنصاراً جدداً يتابعون الإبادة على الهواء مباشرة. ولا تُنتظر الرحمة من رعاة الإرهاب والنازيين الجدد. الرحمة تعني نهاية المشروع الصهيوني. هل كان الجنرال ديجول رحيماً وهو يسحق الجزائريين؟

درس غزة 2023 عظيم. كاد كسالى من العرب يتبعون ساسة متواطئين أو متخاذلين، ويميلون إلى التسليم بالأمر الواقع؛ ضماناً للسلامة، ناسين أن الإعصار أعمى يحرق الحطب المبلول بالأمنيات الساذجة

ظل ديجول ينكر الثورة، ويستنجد بأمثاله من الأوروبيين، بحجة الدفاع عن الشرف الأوروبي. الجنرال، الذي عانى مرارة الغزو النازي لبلاده، خطب في جيشه عام 1959: "إننا نعيش تمرداً دام خمس سنوات، وخسارتنا للجزائر كارثة لنا وللدول الأوروبية". وما كان ليخرج إلا بالمقاومة المقدسة، وانتصرت ثورة المليون ونصف المليون شهيد. القوة وحدها هي دين الساسة وشرفهم. وقد يفقد مثقفون شرفهم الإنساني. إزرا باوند أيّد الفاشية الإيطالية، وجون شتاينبك رافق طياراً أمريكياً، في غارة جوية على فيتنام، وشبّه عملية قصف المدنيين بالموسيقى. كتب الروائي الطاعن عن الطيار القاتل: "كانت أصابع المقاتل الجوي تضغط على مفاتيح إسقاط القنابل مثل أصابع عازف البيانو الماهر".

درس غزة 2023 عظيم. كاد كسالى من العرب يتبعون ساسة متواطئين أو متخاذلين، ويميلون إلى التسليم بالأمر الواقع؛ ضماناً للسلامة، ناسين أن الإعصار أعمى يحرق الحطب المبلول بالأمنيات الساذجة. وبعد انتفاضة الحجارة 1987 وانتفاضة الأقصى 2000، نشأ جيل ظنناه قليل الاهتمام بالشأن العام، فوضعته غزة في قلب المأساة، وأعادت إليه الثقة؛ فالذين يقاومون بالسلاح كان آباؤهم يقاومون بالحجارة. جيل نشأ في غياب الشعارات القومية، ويؤمن بأن فلسطين قضية أخلاقية. وقد نجح العدو في ألا يخلو بيت عربي من كارهين ينتظرون فرصة للانتقام. ليس سهلاً على ثُكنة عسكرية أن تستمر وسط محيط تريد افتراسه. وهذا الهوس بالقوة المفرطة علامة اقتراب النهاية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard