ربما راودتك، ولو لمرة واحدة، رغبة في العزوف عن مخالطة البشر، والذهاب إلى بيئة خالية من الضغوط لا يعرفك فيها أحد، لأخذ استراحة من صخب الحياة المدنية، وهذا تماماً ما تقدمه "رحلات الصمت العلاجي" في مصر.
استلهمت كل من منى درويش، وهي مدربة وعي ومعالجة شعورية، وباسنت كامل، وهي أخصائية بمجال الصحة النفسية، فكرة تلك الرحلات من تباين السكون والحركة في البيئة، لتأخذا جانب "السكون" وتطلقا رحلاتهما "للنجاة" على حد وصفهما، وذلك في شهر آذار/ مارس من العام 2022.
أرادت منى (38 عاماً)، لكونها تملك شغفاً بعلم النفس والعلاج الشعوري، تحويل تجربة الصوم عن الكلام والتي اختبرتها بمفردها وشعرت بتأثيرها، إلى تجربة صمت جماعية في الطبيعة، لتقترح على باسنت (32 عاماً) مشاركتها، وهي لديها اهتمام أيضاً بفكرة التأمل في الطبيعة، ومنذ أربع سنوات تقدم تجربة تأمل "صوت الصمت" في بث مباشر صامت عبر منصات التواصل الاجتماعي.
تذكر منى لرصيف22 أن رحلات الصمت تُعد طريقة مختلفة للتغلب على التوتر والعيش بشكل أفضل، مردفة: "ملاذ التأمل الصامت يعتمد على تَلاَقي المشاركين مع مشاعرهم وأفكارهم، ويصومون خلال فترة الرحلة تماماً عن الحديث، ويفكرون بوعي بالأزمات التي يمرون بها، من خلال التمارين النفسية أو القراءة".
أرادت منى تحويل تجربة الصوم عن الكلام إلى تجربة صمت جماعية في الطبيعة.
وتعد الصحة النفسية جزءاً لا يتجزأ من الصحة العامة، وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن تعريف العافية لا يعني مجرد الخلو من المرض، بل تزيد الاضطرابات النفسية من خطر الأمراض البدنية والعكس صحيح.
وكان قد كشفت نتائج المسح القومي للصحة النفسية لعام 2018، بأن ربع المصريين يعانون من أعراض واضطرابات النفسية، في حين أن 0.4% فقط من الذين يعانون من اضطرابات وأمراض نفسية يلجؤون للعلاج، ويعود ذلك لأسباب عدة منها عدم إمكانية الحصول على خدمات الصحة النفسية بسبب نقص توافرها أو ارتفاع تكاليفها، إلى جانب تجاهل أهمية توفيرها من قبل معظم صناع القرارات.
رحلة إلى معتكف السكون
يبدأ معتكف التأمل الصامت، الذي يستغرق ثلاث ليالٍ، مع بداية غروب شمس اليوم الأول، في أماكن يغلب عليها سحر الطبيعة وبعيدة عن المشتتات اليومية، حيث يعيش المشاركون كل يوم تجربة ذاتية واعية ومتصلة، لحين كسر حالة الصمت مع شروق اليوم الثالث، كما تشرح باسنت.
وتتابع: "إن ممارستنا للتأمل تتجاوز الاسترخاء، إذ يمكن لهذه الممارسة أن تعلمك مراقبة أنماط تفكيرك الداخلية، مما يحقق لك توازناً عاطفياً يستمر فترة طويلة بعد انتهاء الرحلة. أيضاً يسمح لك الصمت باستلهام صوت الحكمة بداخلك دون مقاطعة".
وتضيف: "مع انقطاع التيار الكهربائي ليلاً، يمكننا سماع أدق التفاصيل المحيطة التي لا نتمكن من سماعها في الأوقات العادية على الرغم من وجودها".
أطلق الفريق حتى الآن 6 رحلات في مناطق الفيوم وذهب ونويبع، بلغ متوسط عدد المشاركين في الرحلة الواحدة ما بين 10 و 17 شخصاً معظمهم من داخل مصر، مع السماح بمشاركة البعض عبر الإنترنت من داخل مصر وخارجها، إيماناً بأهمية طاقة الجماعة.
أنت ومشاعرك في غرفة واحدة
قبل رحلات الصمت، يُمنح المشاركون إرشادات نفسية للتعامل مع أفكارهم بشكل أفضل، وهنا تقول منى شارحة: "نتأكد خلال المقابلات من الاجابة على جميع الاسئلة المُتعلقة بطرق تخطي المشاركين للشعور بالملل، وهو يمثل أكبر مخاوفهم، من خلال توفير وممارسة تقنيات تفريغ المشاعر بواسطة الكتابة والتلوين أو بعض التقنيات الأخرى".
وتضيف باسنت: "الصمت يكون بنيّة سماع صوت الفطرة الداخلية، وصوت الإلهام الداخلي من الله لاستقبال الحلول، وكذلك بغرض الاتصال بمساحة الصمت في الوجود والمتصلة بكل شيء".
ونتيجة لذلك، فإن الترتيب للرحلة مع إدارة الفندق للحفاظ على حالة الصمت هو من أهم الصعوبات التي تواجه الفريق وتأخذ الوقت والاهتمام الأكبر منهم، ويتم العمل على تأمينه بالاتفاق مع إدارة المكان لتوفير جميع أغراض النزلاء وترتيب مواعيد وجبات الطعام، حتى لا يضطروا إلى التحدث وكسر الصمت، إلى جانب تجنب أن يتحدث معهم أي شخص ويفاجأ بعدم استجابتهم له. ومن اللافت وربما المفاجئ أن نعلم بأننا نتكلم في اليوم بمعدل 16 ألف كلمة وسطياً، وفق ما تشير إليه الدراسات.
وتنوّه باسنت بتزويد كل مشارك ببطاقة كُتب عليها "صامت/ة"، يُظهرها عندما يتعرض لأي موقف يستوجب التحدث.
أرى بأن الرحلة تساعد الأشخاص على التخلص من شهوة الكلام، فضلاً عن سماع أصواتنا الداخلية. دائما ما نبحث عن الحلول خارج أنفسنا، في حين أن أغلب الحلول تكون داخلنا للمساعدة في حسم القرارات التي نؤجلها دائماً
فرصة لإعادة الشحن
حفّزت البيئة الطبيعية التي وصفها المشاركون بأنها خالية من التحكم البشري المتعمد، طرقاً جديدة كي يتواصلوا مع أنفسهم. تقول مايسة كمال وهي محاضرة في العلاقات الأسرية، إنها اعتادت القيام ببعض الخلوات في يومها، خلال مدة لا تتجاوز الأربع ساعات بسبب أعباء الحياة اليومية، لكن مع رحلات الصمت في الفيوم، اختبرت تجربة الاعتكاف الصامت لمدة ثلاثة أيام، وتصف الرحلة لرصيف22 أنها "متوازنة وتلبي تجارب الأفراد واحتياجاتهم لإعادة الشحن".
"أرى بأن الرحلة تساعد الأشخاص على التخلص من شهوة الكلام، فضلاً عن سماع أصواتنا الداخلية. دائما ما نبحث عن الحلول خارج أنفسنا، في حين أن أغلب الحلول تكون داخلنا للمساعدة في حسم القرارات التي نؤجلها دائماً"، تضيف.
بدورها، تحكي رندة ياسر وهي تعمل محاسبة، عن تجربتها خلال مشاركتها برحلات الصمت، والتي أقدمت عليها لرغبتها في تجربة حالة السكون. تقول: "خلال اليوم الأول من رحلة نويبع، لم أشعر بفرق كبير، لكن في الليل بدأت أشعر بضيق متزايد مع مرور الوقت لافتقادي الحديث".
تؤكد رندا أن اليوم خلال الرحلة لا يخلو من المواقف الصعبة التي تستلزم التحدث ولو ببعض الكلمات، لكن يتم التعامل معها بصمت أيضاً، وتتابع: "خلال اليوم الثاني، وأثناء ذهابنا لوادي الوشواش، شعرت بالإرهاق، وبأنني مخنوقة وغير قادرة على التعبير عما بداخلي، إلا أني لمست من القائمين على الرحلة الحب والاهتمام"، وتضيف أن الاستمتاع وشعور الحب يصلان من غير كلام، وهو ما تعلمته في هذه التجربة.
"مع شروق اليوم الثالث، وصلنا لمرحلة كسر الصمت التي تشاركناها مع بعض، وأنا اعتبرها من أحلى اللحظات في الرحلة، عندما عدت للتكلم والتعبير عما في داخلي"، تختم حديثها.
مع كسر حالة الصمت، نجد الدموع والطاقة العالية والمشاعر خلال نقاشاتنا في شروق اليوم الثالث، وهذا ما يثبت الأثر العميق الذي تتركه التجربة داخلنا
الخوف من الوحدة
وعلى الرغم من اتفاق الباحثين على أن التأمل يمكن أن يساعد في تقليل التوتر وتحسين الصحة العقلية، قد يكون من الصعب تجربة الصمت والاعتراف بفوائده، خاصة عندما يربطه البعض بمشاعر غير مرغوب فيها مثل الوحدة والقلق، فضلاً عن محدودية القدرة على لمس تأثير الصمت على طبيعة السلوك البشري، كما تشير ورقة بحثية نُشرت في أيلول/ سبتمبر 2020، حول تجارب العزلة والصمت في الطبيعة.
وضمن هذا السياق، أعربت هاجر محمد، وهي تعمل مهندسة، عن مخاوفها من المشاركة في تجربة رحلات الصمت، وتقول لرصيف22: "غير متحمسة لتلك التجربة ولا أفضل الشعور بالوحدة. أخشى من الاجتماع مع نفسي وأفكاري في حجرة مغلقة، بل أحبذ الذهاب إلى الرحلات للتعرف والحديث مع شخصيات جديدة".
فيما تحتاج زينة سعد، وهي ربة منزل، لخوض تلك التجربة، وطالما هددت أبناءها بالذهاب إلى مكان تجلس فيه مع نفسها ولا تتحدث مع أحد، كما تقول ضاحكة، لكنها تصف تحقيق الفكرة بأنه أمر صعب، مردفة: "لدي طفلان، ولا يمكنني تركهما وحيدين لمدة ثلاثة أيام".
وهنا تعلق منى: "لا نغفل عن اعتقاد البعض بصعوبة المشاركة في التجربة، فضلاً عن الظروف الحياتية، لكن مع معرفة تفاصيل الرحلة ومتابعة ردود أفعال المشاركين السابقين، فإن ذلك يعطي لمن يفكرون بالأمر قدراً من الطمأنينة فيتحمسون للمشاركة". وتشير الخبيرتان إلى إمكانية تجربة الصمت في المنزل، شرط أن تكون غرفة هادئة كفاية لممارسة التأمل اليقِظ.
تختم باسنت: "مع كسر حالة الصمت، نجد الدموع والطاقة العالية والمشاعر خلال نقاشاتنا في شروق اليوم الثالث، وهذا ما يثبت الأثر العميق الذي تتركه التجربة داخلنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون