شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
فلسطينيون وعرب يضربون عن الطعام...

فلسطينيون وعرب يضربون عن الطعام... "التجويع الذاتي" كوسيلة ضغط

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحريات العامة

الجمعة 27 أكتوبر 202301:20 م

في ظلّ أحداث العنف والعدوان المتعاقبة والمستمرة والآخذة بالتصاعد، والتغوّل في انتهاك أبسط قواعد الإنسانية تجاه الفلسطينيين في قطاع غزة؛ تنطلق ردود أفعال وتصريحات متباينة، تحتجّ على ما يحدث، وتدعو لوقف الحرب والقتل الممنهج الذي تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلي، وقد تنوّعت المواقف بين تغريدات، منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، فيديوهات، رسوم كاريكاتيرية، أعمال فنية، ولقاءات تلفزيونية وغيرها.

منذ أيام، انطلقت حملة إضراب عن الطعام من قبل مجموعة من الناشطين والناشطات الفلسطينيين والعرب المقيمين في مختلف دول العالم، كوسيلة للاحتجاج على أحداث العدوان والضغط على المجتمع الدولي للتحرّك لوقف هذه الحرب.

وفقاً للبيان الرسمي الذي صرّح عنه الناشطون، فإن الحملة هي بمثابة تعبير جمعي سلمي للاحتجاج على أحداث العنف والإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الفلسطينيون في غزة، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وتنطلق أهميتها من كونها تمثّل شكلاً من أشكال المقاومة السلمية والاحتجاج على الانتهاكات الإنسانية والصمت السياسي الدولي تجاه ما يحدث. تهدف الحملة، بشكل أساسي، للتأثير والدفع بصنّاع القرار لاتخاذ تحرّكات جادة لوقف الحرب الدائرة، والاتفاق على وقف لإطلاق النار.

ووفقاً للبيان، فالمقصود بالإضراب هنا الامتناع عن تناول الطعام والتجويع الذاتي كشكل من أشكال الاحتجاج السلمي والضغط باتجاه التأثير، ولا يتضمّن الإضراب الامتناع عن شرب السوائل. هذا ويوضّح الناشطون بأن هذا الإضراب هو رد فعل طبيعي لشعورهم بالظلم والتجاهل تجاه ما يحدث في غزة. ويوضّح البيان أن "هذا التكتيك الذي تتبناه الحملة يتميز بأنه يكثّف الشعور بإنسانيتنا ووعينا بمسؤوليتنا الإنسانية، ويتجاوز انقساماتنا واختلافاتنا الثقافية والأيديولوجية، ويوحّدها في حراك جمعي واحد. نجد في هذا الإضراب وسيلة للمخاطبة والتفاوض مع المجتمع الدولي الذي يقابل مطالبنا الإنسانية بوقف الحرب ورفع الظلم بالصمت والاقصاء والتجاهل".

الإضرابات الفلسطينية تجاوزت سابقاتها عالمياً من حيث القدرة على الصمود، فالنموذج القياسي الذي قدمه الأسير الفلسطيني سامر العيساوي، والذي وصل الى 227 يوماً من الإضراب المتواصل، هو الأطول في تاريخ الإضرابات عالمياً

الإضراب لمقاومة الظلم

تعتبر حملات الإضراب عن الطعام واحدة من سياسيات الاحتجاج المتعارف عليها عالمياً، وقد تمّت ممارستها من قبل العديد من الشخصيات المؤثرة، كالمهاتما غاندي في الثلاثينيات، الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا في الستينيات، وأنصار جيش التحرير الإيرلندي في الثمانينيات. على صعيد آخر، وضمن هذه التجارب العالمية، جسّدت التجربة الفلسطينية نموذجاً استثنائياً، خاصة من قبل الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، واكتسبت اسماً خاصاً بها: "معركة الأمعاء الخاوية".

يضاف إلى ذلك أن الإضرابات الفلسطينية تجاوزت سابقاتها عالمياً من حيث القدرة على الصمود، فالنموذج القياسي الذي قدمه الأسير الفلسطيني سامر العيساوي، والذي وصل الى 227 يوماً من الإضراب المتواصل، هو الأطول في تاريخ الإضرابات عالمياً.

يأتي الإضراب عن الطعام كشكل من أشكال التخريب للنظام اليومي العادي الذي ساهمت الحكومات، من خلال أنظمتها وسياساتها، بضبطه واستمرار وتيرته بشكل آمن ومستقر، يظهر قدرتها على الإدارة وتحمّل مسؤوليتها الإنسانية تجاه أفراد مجتمعها. يحدث الإضراب غالباً لأسباب تتعلّق بالحقوق والشعور بالإقصاء والظلم، وهذا بدوره يشير إلى قصور في أداء السلطة المسؤولة وواجبها اتجاه أفرادها، ودورها المسبّب في فرض الظروف غير العادلة التي تجعل الإضراب عن الطعام يبدو وكأنه الأمل الوحيد.

إن هذا التخريب والتشويش في حال حدث يشكّل ضغطاً على الدولة ومؤسساتها؛ ووقوفها صامتة دون أي رد فعل قد يدفع نحو مساءلتها وتعريتها من ادعاءاتها حول الالتزام بدورها حول حقوق الإنسان وعدالة المجتمعات. وبالتالي ستضطر حينها السلطات لأن تتحمّل اللوم، بحكم فشلها في اتخاذ الإجراءات العلاجية المطلوبة أخلاقياً لمعالجة المطالب السياسية للإضراب المبرّر عن الطعام، وبالتالي تجنّب أضراره المحتملة، وعليه، فإن الرهان الأساسي هنا هو رهان أخلاقي، يتمخّض عنه إثبات المبدأ والموقف الإنساني لصاحب السلطة أو تعريته منها.

من ناحية أخرى، يدفع الإضراب عن الطعام ومسيرة أحداثه التي تتعاقب وتتأزم مع الوقت إلى خلق حالة درامية في وسط الخبر والحدث الإعلامي، فهو يضخّ الدراما والصراع في الساحة السياسية بطريقة تستحوذ على اهتمام وسائل الإعلام، وتتحدى حالة الجمود والتهميش للمجال العام غير المنصف غالباً، ما يوفر صوتاً سياسياً ومنصّة للمجموعات التي تعاني من التكتيم والاقصاء.

وعلى الرغم من كثرة المواقف المناقضة التي ترى الإضراب عن الطعام شكلاً من أشكال العنف، وتحاول السلطات تبنّي مثل هذه الآراء لثني المضربين عن هدفهم؛ إلا أنني أجد بأن هذا الشكل من الممارسة العنفية الذي نمارسه ذاتياً تجاه أنفسنا بإضرابنا عن الطعام - وإن بدا متطرّفاً في جانب منه - لا يمكن اعتباره عدوانياً، على العكس، إنه تعرية للعنف، ويعمل على استدعاء واستفزاز الاهتمام الأخلاقي من قبل الأطراف الأخرى لوقف العنف والعدوان الحقيقي الذي يمارس على أصحاب الحقوق.

إضافة إلى أنني أجده سلوكياً أخلاقياً يليق بمستوى الضعف الذي نحن فيه، والاستقواء الذي تتمّ ممارسته علينا من قبل المجتمع الدولي الذي يستمر بتجاهل مطالبنا، وأجده لائقاً بهذا الصراع الذي يزجّ بأجسادنا عنوة نحو إذلالها.

فالإضراب هو جمع بين حالة الضعف وقوة الذات في تأكيد حضورها ومحاولة السيطرة على حياتها وإرجاعها الى طبيعتها، إلى حالتها المستحقة. تقول إيميلين بانكهيرست، الناشطة السياسية البريطانية: "فقط الأشخاص الذين يحسّون بشعور لا يحتمل من القمع هم من يتعيّن عليهم تبني مثل هذا التكتيك المتطرّف".

من ناحية أخرى، وبالنظر إلى المشهد، يمكن أن ندرك أن الجسد الفلسطيني هو جزء من هذا الصراع، ويمارس الاحتلال الإسرائيلي شتى أنواع التعذيب والإذلال والإبادة بحقه. إنها إبادة ديموغرافية مع تلذّذ حقيقي بإذلال الجسد الفلسطيني.

الجسد في معركة الإنسانية

إن الحرب الدائرة تستهدف الجسد بشكل واضح ومباشر، وبالرغم من أن الغاية العدوانية لا تقتصر عليه وحسب - فهناك أهداف سياسية أشمل- لكنه هو الجزء المرئي والصريح والأقوى على التعبير في لحظته. ويمكن ملاحظة الطريقة الضارية المروّعة والموحشة التي استخدمها جيش الاحتلال الإسرائيلي في استهداف الجسد الفلسطيني: قصف المنازل فوق رؤوس أصحابها، أو أمرهم بإخلاء المنازل لتعرية أجساد ساكنيها، استهداف سيارات الإسعاف التي تنقل الأجساد المصابة، استهداف المستشفيات التي تعالجها، وحتى المقابر التي تواريها.

أصبحت رؤية الجسد في كينونته الكاملة أمراً مستبعداً، فكل ما نراه هو أشلاء، قطع لحم ممزقة، أجزاء مبتورة بدون صاحب، أجساد محروقة غابت ملامحها، وشهداء بلا هوية بات من المستحيل التعرّف إليهم.

وبالتالي، هناك حضور قوي للجسد في هذا الصراع؛ وعلى الجانب الآخر، وبالرغم من بعد المسافة التي يفرضها الشتات وحالة الاغتراب الفلسطيني، يمكن للجسد اليوم أن يعلن حضوره ويسرد خطابه وبقوة، ويمكنه أن يعبّر بطرق مختلفة عن حالة احتجاج لهذا الانتهاك الذي يحدث. سياسة القمع الإسرائيلي هي من أقحمت الجسد في معادلة الصراع، ويبدو بديهياً أن تجويع الجسد أمام المجتمع الدولي، كرد فعل احتجاجي في هذا الإطار، مشروعاً ومنطقياً أيضاً.

أصبحت رؤية الجسد في كينونته الكاملة أمراً مستبعداً، فكل ما نراه هو أشلاء، قطع لحم ممزقة، أجزاء مبتورة بدون صاحب، أجساد محروقة غابت ملامحها، وشهداء بلا هوية بات من المستحيل التعرّف إليهم

شخصياً؛ أعتقد بأن خلاصنا الصوفي بالاحتساب والصبر لم يعد يجدي نفعاً، وبات عبئاً لا تقوى عليه أرواحنا؛ وأضعف الإيمان هنا هو استثمار هشاشة هذا الجسد وضعفه لانتزاع قوته التي منحتها له الحياة وأكسبه إياه دوره الاجتماعي. ما قيمة الجسد إذا كانت الروح تعيش البؤس والظلم وعاجزة عن الخلاص منه؟

الجسد هو الحاوي والوعاء الذي يأوي الروح ويحميها، وإذا كان هذا الجسد في قوته فمنتهى قوته في فنائه، ليفنى الجسد ولتقوى الذات وتطلب العدالة لنفسها وروحها! الطاقة والزمن هما من يحدّدان نتيجة هذه المعركة؛ ونحن شعب الجبّارين، حيث طاقة جبارة ونفس طويل بالصمود؛ والوقت بالنسبة لنا إيمان عقائدي وممارسة روحانية.

أعتقد أن أي مآل ونتائج للإضراب عن الطعام، بما فيها الموت، تبدو هينة أمام شعور العجز القاتل الذي نشعر به تجاه ما يعانيه أهلنا في غزة. نحن نموت بكلتا الحالتين، لكن تختلف المعادلة الآن بأننا على الأقل لا نقبل الموت كنتيجة حتمية مفروضة علينا وظالمة لإنسانيتنا؛ لن نعطي موتناً على طبق من ذهب لمن أراده. سنوقف عمليات الإذلال الممارسة نحونا، ونحولها لاختبار حقيقي لإنسانية العالم، فإما أن ينجح هذا العالم وينتصر لإنسانيته وننجو جميعاً، وأما أن يفشل ويتعرّى ونموت نحن بكبرياء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard