شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
ماذا يعني أن يُقتل الشعراء والفنانون في غزة؟

ماذا يعني أن يُقتل الشعراء والفنانون في غزة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقيقة

الجمعة 20 أكتوبر 202305:30 م

 لن تُسعف الكلمات ولا الوقت عمر أبو شاويش لكتابة قصيدة جديدة، ولن يكون بمقدور هبة زقوت ومحمد سامي قريقع بعد الآن، أن يرسموا لوحةً يُحاصرها اللون الأحمر، أما يوسف دواس، فمن المُستحيل أن يسمع أحد صوت قيثارته في أيّ فعالية قادمة، وبعد انتهاء الحرب، لن يطلّ علينا علي نسمان وهو يُحاول خَلق ابتسامة يهزم بها الخوف الممتد. كلّ ذلك لن يحدث أبداً... لأنّ إسرائيل قتلتهم جميعاً.

استهداف الجمال

لم يكتفِ جيش الاحتلال الإسرائيلي بقتل الأطفال والنساء والشيوخ، بل عَمَد منذ بداية الحرب على قطاع غزة، في السابع من تشرين أول/أكتوبر، إلى قتل الفنّ والثقافة أيضاً، وكأنه يريد ضرب جمال المدينة في مقتل، ليبعث برسالة لنا جميعاً مفادها: لن أتركَ شيئاً جميلاً على الأرض، ولعل ذلك يبرز بشكل واضح في استهدافه للمعلم الأجمل في القطاع: حي الرمال.

فآلة القتل هذه ليست معنية فقط برفع ضريبة الدم للخروج بأيّ شكلٍ من أشكال الانتصار، ولكنها معنية في الأساس بقصقصة أطراف الحكايات والقضاء على كل من يمتلك القدرة على رويها، لذلك استهدفت كُـتّاباً وموسيقيين وفنانين تشكيليين وممثلين، وقتلت صحفيين ومسحت عائلاتهم من السجل المدني، في ترهيبٍ واضح لم يكن وليد اللحظة، بل يندرجُ تحت سياسية قديمة سَعت من خلالها إلى حصار قطاع غزة ثقافياً، إلى جانب حصاره سياسياً واجتماعياً وعسكرياً.

لن تُسعف الكلمات عمر أبو شاويش لكتابة قصيدة جديدة، ولن يكون بمقدور هبة زقوت ومحمد سامي قريقع بعد الآن، أن يرسموا لوحةً، أما يوسف دواس، فمن المُستحيل أن يسمع أحد صوت قيثارته، كلّ ذلك لن يحدث أبداً... لأنّ إسرائيل قتلتهم جميعاً

تدمير غزة ثقافياً

لم يكن هذا الأمر وليد اللحظة، فقد كان هذا ديدن الاحتلال الإسرائيلي منذ سنوات طويلة، بمحاربة الثقافة والفن في قطاع غزة، بدءاً من تصاريح الكُتّاب المرفوضة على معبر إيريز، مروراً باستهداف المؤسسات والمراكز الثقافية والمكتبات الأهم وتحويلها إلى كومة ركام، وصولاً إلى قتل الفنانين والشعراء والكُتّاب والموسيقيين، في محاولاتٍ واضحة لتدمير غزة ثقافياً إلى جانب تدميرها عمرانياً.

يعيد هذا إلى الذاكرة استهداف قرية الفنون والحرف واغتيال اللوحات والأغاني فيها، وقصف مقرّ "المكتبة الوطنية"، وتدمير مركز "مؤسسة سعيد المسحال الثقافية" عام 2018، بالإضافة إلى تدمير "مكتبة سمير منصور" التي تُعتبر من أهم المكتبات ودور النشر في غزة، وتحويل مكتبة "رؤية" إلى رماد عام 2021.

فلسفة الأرقام

لا تكون الأرقام عادلةً عندما ترتبط بالفنانين والشعراء. إنها تبدو كاذبة تماماً، فاغتيال كاتب واحد لا يعني أن شخصاً واحداً قد رحل عن عالمنا، بل يعني أن إنتاجه الفني قد رحل؛ فالكثير من القصص والحكايات والشخصيات لم تعد موجودة، كما أن استهداف فنان تشكيلي واحد يكفي لقتل عشرات الأشخاص الذين عاشوا في لوحاته أياماً وسنوات، وكان يفترض أن يعيشوا فيما هو آتٍ، لولا أن الاحتلال حرق ريشة الفنان إلى الأبد.

لذلك لن يكون منطقياً إذا قلنا إن الاحتلال الإسرائيلي قتل الشاعر عُمر أبو شاويش، بل يجب أن نقول: قتل الاحتلال عمر وقصائده وأحلامه وروايته القادمة، ولا يجوز أن نقول: استشهدَ محمد سامي قريقع في الاستهداف الوحشي لمستشفى المعمداني، بل علينا القول: استشهد محمد ولوحاته وتحولت ريشته إلى أشلاء، وهكذا... لنكتشف في النهاية أن أرقام الشهداء التي تظهر على شاشات التلفاز ليست حقيقية، وعليها أن تكون أكثر دقة لتُحصي الخسارات.

خسارات مستمرة

الخسارة المترتبة على الفقد لا تقتصر على ما كان، بل تمتد لتشمل ما كان يُفترض أن يكون، لذلك عندما يقتل الاحتلال فناناً أو شاعراً أو مغنياً أو رساماً، فهو لا يحرمنا فقط من إرثه -الذي يستطيع قتله في أغلب الأحيان - كأنه لم يكن، بل يحرمنا أيضاً من إرثه الذي يُفترض أن يكون في المستقبل، لذلك تتحوّل "الخسارة" في هذه الحالة إلى "خسارات" مُستمرة ومتلاحقة.

منذ بداية هذه الحرب، يستهدف الاحتلال إلحاق أكبر قدر من الخسارة بالفلسطينيين، فلا يكتفي باستهداف شقة سكنية بل يقصف البرج كاملاً، ولا يُشبعه قتل الأب فقط، بل يقتل الأب والأم والأبناء والأحفاد دفعةً واحدة، لتصبح الخسارة الواحدة خسارات كثيرة لا تتوقف عن النزيف، ويرفع فاتورة الدم إلى أقصى حد ممكن.

مواساة بحجم وطن

للشعراء والفنانين طريقة خاصة في قول "وداعاً" كأنهم يبعثون لنا رسالة مفادها: ما زلنا هُنا، لم نذهب. فقبل أن يستشهد الفنان محمد سامي قريقع، كتب منشوراً على فيسبوك قال فيه: "إذا صار إلنا اشي، تذكروا إنها من النهر إلى البحر"، في تأكيدٍ على عدم التنازل عن فلسطين التاريخية كاملة، حتى والموت يقف على الأبواب، وفي هذه التلويحة الأخيرة دلالة على اتصال "عِناد الفنان" بـ "عِناد المقاوم".

وقد كتب الشهيد عمر فارس أبو شاويش ذات يومٍ قائلاً: "عندما تتجرّأ علينا الحياة، ندرك أن الوقت الاحتياطي لنا في هذا الزمان قد أوشك على النفاد، وعلينا ممارسة لعبة البقاء في أي مساحة، كبيرة كانت أم صغيرة، لنتمكن من مجاراة هذا الوقت، ونخلق لأنفسنا – ربما – حياة قصيرة لا تشبه أيّ شيء، سوى الصمت".

كتبوا عن "الموت" كثيراً، رسموا ملامحه على لوحاتهم، ووضعوه مفردةً رئيسية في قصائدهم، واستوحوا منه ألحان أغانيهم، ولكنه خدعهم في النهاية... حوّلهم إلى أرقام، وهم ليسوا أرقاماً ولن يكونوا أبداً

عرف هذا الكاتب المُرهف والصديق اللطيف أن "لعبة البقاء" مُتعبة، وكان يعرف أيضاً أن "الحياة قصيرة" فاختار الصمت، وها هو صمته ممتد وسيظلّ يمتد، ذلك الصوت المدجّج بالكلمات والقصائد.

أما الفنانة هبة زقوت التي لم يكتفِ الاحتلال بقتلها وحدها بل قتلها رفقة أبنائها، فقد كتبت مرّة قائلة: "ولدتُ وأنا أحمل معي كلمة لاجئة، لم أرَ بلدتي الأصلية أسدود، لكن عمتي علياء تجمعنا وتحكي لنا عن أرض جدي وبيارات البرتقال، عن موسم الحصاد وبيت مليان حب وحياة، كنتُ أرى الشوق بعيون عمتي وهي تروي لنا حكايات عن أيام البلاد وأمنيات بعودة قريبة". وها قد رحلت هبة، تاركةً لنا خسارات لا يُمكن حصرها بعدد اللوحات التي رسمتها، ولا باللوحات التي كان يُمكن أن ترسمها وهي تجلس في أسدود لأوّل مرة في حياتها.

بداية لكلّ خاتمة

ليسوا أرقاماً يا إسرائيل. فيهم الشاعر والكاتب والفنان والموسيقي. ليسوا أرقاماً، لهم قصص لم تكتمل، وروايات تُركت نهاياتها مفتوحة، وشوارع ما تزال تنتظر أقدامهم، وجمهور يقطع مئات الأميال ليسمعَ أصواتهم.

تمرّ أسماؤهم بين مئات الشهداء، مرور العابر إلى حقلٍ في ليلٍ حالك، كأنهم يخدعون الموت. هم الذين كتبوا عن "الموت" كثيراً، رسموا ملامحه على لوحاتهم، ووضعوه مفردةً رئيسية في قصائدهم، واستوحوا منه ألحان أغانيهم، ولكنه خدعهم في النهاية... حوّلهم إلى أرقام، وهم ليسوا أرقاماً ولن يكونوا أبداً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image