تولد المرأة في بلادنا "أُمّاً". منذ طفولتها يبدأ الأهل والأقارب بإهدائها "لعبةً" لتلعب معها دور الأم. لا يفعلون الأمر نفسه مع الذكور.
الإعلام بمعظمه يدلّ الأنثى إلى المطبخ. في الأفلام أو الصالونات العائلية، وفي المسلسلات كما في برامج الطبخ... وحين تصل الفتاة إلى مرحلة البلوغ، يبدأ السؤال الأزلي: "متى الزواج؟ أيمتى منفرح فيكي". ثم إذا تزوجت تبدأ أسئلة الحمل المُحرِجة، التي تتدخّل في تفاصيل العلاقة الزوجية، حيث يسمح الأصدقاء والأقارب لأنفسهم بالسؤال عن سبب التأخّر في الحمل أو أسباب عدم الرغبة في الإنجاب.
وفي حين أن بعض السيدات يفضلن تأخير الإنجاب لأنّ الظروف الشخصية والعائلية غير مناسبة، فإن أخريات يرغبنَ في الإنجاب، لكن تواجهنَّ صعوبات، فيما تختار كثيرات، بكامل إرادتهنّ، ألا تكنَّ أمهاتٍ أبداً.
نسرين ومعركة الإنجاب
واحدة من النساء اللواتي عجزن عن الإنجاب، هي نسرين (اسم مستعار)، التي فضّلت عدم نشر اسمها كاملاً لتجنّب الإحراج الاجتماعي: "منذ ثلاث سنوات وأنا أسعى وأحاول، وكلها كانت محاولات بلا جدوى".
نسرين على أبواب عامها الثلاثين، وهو العمر الذي تبدأ ساعة الإنجاب فيه بالدقّ بسرعة. تقيم في قلب العاصمة اللبنانية بيروت، وتعمل في سوق التجارة الصاخبة. لكنّها تأتي من جذور بسيطة فقيرة. فقد نشأت في حضن عائلة مكونة من والدين محبّين، وثلاثة إخوة ذكور متزوّجين، أنجبوا أولاداً، وفق ما تقول لرصيف22: "تزوجت قبل خمس سنوات، ولم يكن لدينا -زوجي وأنا- أي اهتمام حقيقي بالإنجاب بسبب صغر سنّي والاستقرار المادي والاجتماعي الذي كنا نفتقده. لكن عندما شعرنا بأن الوقت قد حان، وبأننا جاهزون لتكوين عائلة، تحولت رغبتنا في الإنجاب إلى رحلة معاناة في نفق عميق ومظلم."
حين تصل الفتاة إلى مرحلة البلوغ، يبدأ السؤال الأزلي: "متى الزواج؟ أيمتى منفرح فيكي". ثم إذا تزوجت تبدأ أسئلة الحمل المُحرِجة، التي تتدخّل في تفاصيل العلاقة الزوجية، حيث يسمح الأصدقاء والأقارب لأنفسهم بالسؤال عن سبب التأخّر في الحمل أو أسباب عدم الرغبة في الإنجاب
برغم التفاؤل الذي ملأ قلب نسرين بعد الزواج، والأمل في أن تحتضن طفلها في المستقبل، أصبحت كل محاولة للحمل فشلاً يزيد من ثقلها النفسي: "زرتُ العديد من الأطباء، وكلهم أكدوا لي أنني بصحة جيدة ولا توجد لدي مشكلة جسدية، وأن الأمر في النهاية يعود للقدر".
لكن معاناة نسرين لم تقف عند هذا الحدّ فقط، فالضغوط المجتمعية والأسئلة المتكررة عن تأخّر حملها أصبحت تطاردها في كل مكان، وعليه، باتت تتهرّب من اللقاءات الاجتماعية في نهايات الأسبوع أو في الأعياد، وتفضّل البقاء في المنزل لتتجنّب الأسئلة التي بدت كأنّها تحمّلها المسؤولية، خصوصاً أنّ زوجها كبير إخوته، وينتظر منه الأهل صبياً لـ"يحمل اسم العائلة".
وباتت نسرين، وفق البعض، هي من تعطّل هذا "المخطّط الاجتماعي" المرسوم بدقّة منذ لحظة الزفاف.
ميرا وحرية الاختيار
ميرا شابة تلقّت تعليمها العالي في فرنسا. عشرينية من قرية جنوب لبنان، تزوّجت ضابطاً لبنانياً، وتعمل في مؤسسة أممية، وقد اتخذت قراراً واعياً بعدم الإنجاب في سنوات الزواج الأولى: "منذ ليلة الزفاف، بدأ الناس يتمنّون لي ولداً". هكذا تسترجع ميرا، التي دخلت حديثاً ربيعها الثامن والعشرين، لحظات زفافها مع رصيف22.
وعلى الرغم من كونها مستعدةً نفسياً لتوقعات محيطها وضغوطه قبل الزفاف، إذ كان البعض يحثّها على الزواج بعد علاقة دامت عشر سنوات مع حبيبها، فإنّها لم تكن تتوقع أن تحاصرها "ضغوط الإنجاب" بهذه السرعة والحدّة.
تشرح ميرا كيف أنّ الأسباب الكامنة وراء تأخير الإنجاب كانت متعددةً: "منها عدم الاستقرار المادي، وأنّني بدأت عملاً جديداً، وأرغب في الاستقرار المهني وإثبات موقعي في العمل والتأسيس لمهنتي بشكل جدّي، قبل الإقدام على خطوة الأمومة. فالإنجاب مسؤولية كبيرة جداً وأرغب في التأكد من قدرتي على تحمل هذه المسؤولية قبل الانطلاق في هذه الرحلة".
وفي كل مرة تتلقى فيها تمنيات المحيطين بها بالإنجاب، يزداد إحساس ميرا بالضغط والتوتر: "أصبحت لا أتحمل تلك التعليقات المتكررة، وبدأت أطلب بشكل مباشر من الناس الكفّ عن التطرق إلى الموضوع، فالأمور تتعلق بقراري الشخصي، وأنا حرّة في اختيار الوقت المناسب لي.".
غيدا وخيار الحياة بلا أطفال
في مجتمع تُعدّ فيه الأمومة من أهم مظاهر التأسيس الأسري، هناك نساء قررن ألا يلعبن هذا الدور.
غيدا نصر، البالغة من العمر 30 عاماً، والعاملة في مجال إدارة الأعمال، واحدة من هؤلاء: "قرار عدم الإنجاب شخصي وخاص جداً، وكان من شروطي أن أتزوج من شخص يشاركني القناعات نفسها"، هذا ما تقوله غيدا التي تزوجت قبل ثماني سنوات، وما زالت متمسكةً بقرارها.
وتوضح لرصيف22: "البعض يعتقد أن الرغبة في الأمومة والأبوة، غريزة طبيعية موجودة لدى الجميع، لكنني أعتقد العكس. بالإضافة إلى ذلك، الظروف الحالية ليست مشجعةً، سواء أكان الأمر يتعلق بالوضع الأمني، الاقتصادي، الاجتماعي أو حتى النفسي. الأمور ليست كما يجب أن تكون".
"أصبحت لا أتحمل تلك التعليقات المتكررة، وبدأت أطلب بشكل مباشر من الناس الكفّ عن التطرق إلى الموضوع، فالأمور تتعلق بقراري الشخصي، وأنا حرّة في اختيار الوقت المناسب لي."
وتضيف غيدا: "أنا قريبة جداً من أطفال أشقائي وأصدقائي. أحبهم وأعتني بهم، ولكنّني شخصياً أفضّل عدم الإنجاب. أرى أطفال إخوتي وكأنهم أولادي".
غيدا هي الوحيدة التي وافقت على نشر اسمها كاملاً. ربما لأنّ جرأتها تنبع من قوّة قرارها، الذي به تواجه من دون شعور بالذنب. فهي لا تريد الإنجاب وتملك ما يكفي من الشجاعة لتقول لمن يتدخّل في قرارها إنّه متطفّل ولا يحقّ له أن يطرح السؤال أصلاً.
ديما والندم
في عالم يقدّس غرائز الأمومة ويجلّ الرغبة في إنجاب الأطفال كمقياس "للنجاح الأنثوي"، تبدو هذه معضلةً حقيقيةً أمام الكثير من النساء.
إلتقيتُ بديما عبر مجموعة نسائية على فيسبوك، حيث تتبادل النساء الأفكار والأخبار من دون الكشف عن هويّاتهنّ الحقيقية.
نشأت ديما، وهي في الثالثة والثلاثين من عمرها وأم لثلاثة أطفال، معتقدةً بأن مسار حياة المرأة مُحدّد مسبقاً: الزواج ثم الأولاد، لكنّها الآن تقف على مفترق الطرق وتقودنا إلى هذا التقاطع حيث تجمع بين توقعات المجتمع ومشاعرها الشخصية المتضاربة: "دائماً ما يتم توجيه سؤال إلى النساء اللواتي اخترن عدم الإنجاب: 'هل تندمين على عدم الإنجاب؟'، ولكن لم أسمع أحداً يسأل أمّاً: 'هل ندمتِ على الإنجاب؟'"، وفق ما تقول ديما وهي تشير إلى الفجوة في تصوراتنا حول الأمومة.
واللافت أن مشاعرها تجاه أطفالها متضاربة، وقد تثير الدهشة: "كنت دائماً أعتقد أن الأمومة ستأتي بشكل طبيعي، وأنني سأحب أطفالي لمجرد أنهم أطفالي. ولكن الواقع كان مختلفاً".
تشرح ديما تجربتها بقولها: "أتحمل مسؤولية رعاية أطفالي، وأعتني بهم، لكن ليس بسبب الحب، فأنا أقوم بذلك لأنني ملزمة بذلك. ما كنت أقدّرها أكثر في حياتي هي الاستراحة والوحدة. أعلم أن حياتي كانت ستكون أبسط وأهدأ من دون أطفالي".
تجربة ديما تكشف عن جانب آخر من الأمومة، جانب لا يُتناول كثيراً، وقد يكون مستتراً وراء الوجه المبتسم للعديد من الأمهات.
الشعور بالندم
في ظل المعايير الاجتماعية التي قد تربط نجاح المرأة بالزواج والإنجاب، للاخصائية النفسية وردة بو ضاهر، وجهة نظر خاصة حول هذه المسألة، فهي ترى أنّ مشاعر التضارب بين الحب والكره اللذين قد تشعر بهما الأم تجاه أطفالها أمرٌ شائع، وفي الغالب هو نتيجة لاستنزاف طاقاتها الجسديّة والمعنويّة في الرعاية، نتيجة أسلوب الحياة الجديدة، إلا أن الشعور بالندم مختلف، ولا يوجد سبب واحد ومؤكد له.
في هذا السياق، تقول بو ضاهر: "من الأفضل قبل قرار الإنجاب، أن تتجهز النساء ويتثقفن حول التربية والأمومة، والصعوبات، والتعب قبل الحمل وبعد الحمل والرضاعة، لمعرفة إذا كنّ جاهزات أم لا، وهذا يخفف من صعوبة المرحلة ويسمح للمرأة بأن تكون جاهزةً أكثر وأن تقلل احتمالات الندم لاحقاً".
في تأكيد على أن الأمومة ليست لكل فرد، تضيف وردة بوضوح: "ليس كل الأشخاص أهلاً لذلك"، مشيرةً إلى أهمية فهم القرارات الشخصية: "إن اتخاذ قرار عدم الإنجاب يمكن أن يكون قراراً واعياً ومدروساً، ولكن إذا كانت المرأة تفتقد أسباباً واضحةً حول رغبتها في عدم الإنجاب أو كانت لديها صعوبات معيّنة، فيمكنها العمل على حلّ الموضوع كي لا تندم لاحقاً. لكن إذا كان القرار ناتجاً عن وعي ومعرفة ووضوح، فلا مشكلة فيه".
"دائماً ما يتم توجيه سؤال إلى النساء اللواتي اخترن عدم الإنجاب: 'هل تندمين على عدم الإنجاب؟'، ولكن لم أسمع أحداً يسأل أمّاً: 'هل ندمتِ على الإنجاب؟'"
من ناحية أخرى، بحسب دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية، فإن شخصاً من كل ستة أشخاص في العالم يعجز عن إنجاب طفل خلال مرحلة من حياته، بغض النظر عن المنطقة التي يقطنها أو الموارد المُتاحة له. من جهتها، تؤكد بو ضاهر أن الآثار النفسية للنساء اللواتي يعانين للإنجاب، ومن قررن عدم الإنجاب لكن يتعرضن للضغط من المجتمع، كبيرة جداً، لأن الإنجاب حينها يصبح محور حياة المرأة، وتكون في امتحان دائم لبلوغه، وهذا، بحسب وردة، "يمكن أن يؤدي إلى الاكتئاب والقلق إذا أزحنا جانباً ما تعانيه المرأة خلال العلاج، من آلام جسدية وتقلبات هرمونية، وقد يؤدي إلى اضطرابات في علاقتها بشكلها وجسدها وصورتها عن نفسها، كما يؤدي أيضاً إلى اضطرابات في التغذية، وفي علاقتها بشريكها".
في ختام حديثها، توجه وردة بو ضاهر كلمات مُلهمةً إلى النساء: "إلى كل امرأة لا ترغب في الإنجاب: قرارك شجاع، خاصةً في المجتمع العربي. أما من تحاول الإنجاب ولم تنجح حتى الآن، فأنتِ لست محصورةً فقط في دور الأم، لديكِ الكثير لتقديمه. أتمنى أن تستطيعي تحقيق هذه الأمنية، لكن لا تركّزي فقط على صورتك بأنك لم تستطيعي الإنجاب بعد. وللأم التي تشعر بالندم، العلاج النفسي قد يُساعد في تحقيق السلام الداخلي ودون التأثير على حياتك اليومية وعلى أطفالك. وأخيراً، للمرأة التي اختارت تأجيل الإنجاب، أنتِ قوية في قرارك، وأنا فخورة جداً بكِ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 14 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 20 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com