"نادمة على الأمومة؟ لا يا سيدي، أنا نادمة على الزواج من أساسه"، تقول رؤى منصور في معرض حديثها إلى رصيف22، عن الإنجاب والأمومة وكيف تأثرا بالعوامل السياسية والاقتصادية والمجتمعية لسوريا خلال الحرب.
رؤى، اليوم، أمّ لطفلين؛ أحمد 6 أعوام ومازن 8 أعوام، وتبلغ هي من العمر 34 عاماً، تقول: "حين أنجبت أحمد في عام 2017، لم يكن الوضع سيئاً إلى هذا الحد، وكانت هناك مؤشرات على فرج قادم، وكان هذا ما نمنّي به أنفسنا، وما يضحك علينا به المحللون السياسيون على الشاشات".
وتضيف: "ولكن، بعد ذلك تغيّر كل شيء فجأةً، وإلى الأسوأ، الأسوأ الساحق، إذ دخلنا فجأةً في مطحنةٍ اقتصادية لا تزال مستمرةً، فعشية إنجابي أحمد، كان الدولار يعادل 500 ليرة، وكنا نعيش بصورة جيدة إلى حد ما، وقد تأقلمنا، أما اليوم فالدولار بـ7،500 ليرة".
رؤى، لا تخفي ندمها على الإنجاب، وفي الوقت ذاته لا تدّخر جهداً في إبداء سعادتها بأنّها كوّنت أسرةً "لطيفةً" برغم الظروف، ولكنها تلوم نفسها كثيراً لأنّها أنجبت، فهي تعتقد أنها ظلمت أولادها كثيراً حين أنجبتهم في هذه الظروف وفي هذا البلد، وفق ما تقول.
نادمة على الأمومة؟ لا يا سيدي، أنا نادمة على الزواج من أساسه
وفي السياق نفسه، تشير بوضوح إلى أنّها وزوجها يعملان خارج المنزل، و"يصلان ليلهما بنهارهما"، لتأمين مصاريف المنزل والطفلين: "لا هذه ليست الحياة التي أردتها لطفليّ، ليس أقل من أقرانهما، ولكن هذه تقسيمة البلد؛ أناس فوق، وآخرون تحت، ونحن كعائلة نتأرجح على سلّم المعيشة. لو يعود الزمن بي قليلاً إلى الوراء لما أنجبت. في الحقيقة مؤسسة الزواج بحدّ ذاتها ليست فكرةً سديدةً في هذه الظروف، برغم أنني تزوجت في وضع كان يحتّم عليّ فعل هذا الأمر".
تؤكد رؤى، مرّةً أخرى، أنها حين أنجبت مازن، كان الوضع أفضل (عام 2015). تقول: "صحيح أن الحرب وقتها كانت مشتعلةً، ولكن كان كل شيء متاحاً، ولم يكن الناس ينامون جياعاً، لذا كان من الطبيعي أن نفكر في الإنجاب مرةً أخرى، وأؤكد أنّها الأخيرة ولن ننجب مستقبلاً".
بلد محطّم
"عن أي أمومة نتحدث؟ تلك التي أشحذ فيها علبة الحليب في بلد لا حليب فيه، هذا أول وأدنى احتياج لطفلي وهو مفقود في كل البلد، علام أنجبت طفلي هنا لا أدري، ومن أساساً كان يدري بأنّ الأمور ستسوء وتتعقد إلى هذا الحد؟"، تقول معينة حميد (28 عاماً)، في معرض حديثها إلى رصيف22، عن الندم الذي تعيش معه اليوم.
كان طبيعياً سؤال معينة عن الظروف التي سبقت الإنجاب، بحكم أنّ طفلتها الرضيعة وُلدت قبل أشهر، فالوضع الاقتصادي كان سيئاً بطبيعة الحال منذ حملت بطفلتها، تقول: "صحيح أن الوضع كان سيئاً، ولكن اليوم هو أسوأ، لا أريد أن أبرر لنفسي، فأنا بالفم الملآن نادمةٌ، ولكن حين اتخذنا قرار الإنجاب كان زوجي مقبلاً على عمل بدخل ممتاز، إلا أنّه استقال منه سريعاً، وعاد إلى وظيفته الحكومية، فساءت الأمور أكثر، أقول بوضوح إنّه لم يكن لدينا بعد نظر في هذا الشأن، واليوم نحصد نتيجة ذلك، ولكن بأسوأ شكل؛ حصاد على أكتاف رضيعة لا ذنب لها سوى أننا كنا أنانيين وأنجبناها في بلد محطم".
مريم، اسم مستعار لسيدة دخلت عامها الثلاثين للتو، تتحدث إلى رصيف22، عن ضغط هائل تعرضت له من قبل زوجها وأهله لكي تنجب أطفالاً، برغم معرفتها المسبقة بأنّها لن تستطيع تأمين حياة كريمة لهم.
عن أي أمومة نتحدث؟ تلك التي أشحذ فيها علبة الحليب في بلد لا حليب فيه، هذا أول وأدنى احتياج لطفلي وهو مفقود في كل البلد، علام أنجبت طفلي هنا لا أدري
"أربعة أعوام من الضغط عليّ لأنجب، وأنا رافضة، ثم في النهاية ماذا؟ رضخت لتلك الضغوط التي صار حتى أهلي شركاء فيها، فنحن في مجتمع لا يقبل طلاق الفتاة، ولن يستقبلني أهلي كمطلقة إذا ظللت متمسكةً بموقفي. بكل بساطة أنجبت، أنجبت ولداً واثنين وثلاثة، ثم سألت لأهل زوجي من سيطعمهم؟ لا جواب. سألت أهلي السؤال نفسه، ولا جواب. كنت أعرف أني وأطفالي سندفع الثمن"، تقول مريم.
مريم التي كانت تعرف أنّها لا تستطيع التعويل على أهلها وأهل زوجها في تدبّر مصاريف أطفالها، ولكنّها كانت تعول على عمل زوجها الذي يعمل مقاولاً للبناء، ولكنّ عمله كان يمرّ بمراحل ازدهار ومراحل انحدار شديدة.
تتابع: "ربّيت أطفالي بدمع العين، وبالقلة والحرمان، هذه هي حياتنا وهذا مجتمعنا، نأكل اليوم ولا نفكر في الغد، أندم على تحمّلي ذنب هؤلاء الأطفال وأندم على أمومتي وكيف ضاعت أحلامي بإكمال دراستي وغيرها. ولكن ماذا؟ حسناً، أنا الآن أمّ... وفقط".
تشير مريم إلى أنّ أكثر ما كان يقهرها على الدوام هو تكرار الذين حولها لمقولة: "الولد بيجي وبتجي رزقتو معو". تعقّب على ذلك: "جاء الأولاد ولم تأتِ الرزقة، وغداً ربما نشحذ".
قرابين للمحرقة
"سأموت قبل أن أنجب في هذه البلاد، تخيّل أن أنجب ولداً وأقدّمه قرباناً للمحرقة المستقرة، بل تخيل أن أنجب روحاً لتموت من القهر في هذا الوطن الكبير".
كان هذا اقتباساً من حديث لرصيف22، مع ميساء عمّور، وهي سيدة متزوجة منذ خمس سنوات وقد أتمت من عمرها ثمانيةً وعشرين عاماً، إذ تشرح مطولاً أسباب عزوفها عن الإنجاب، معلّلةً ذلك بجملة من الأسباب، على رأسها القياس بتجارب الآخرين من حولها، وتفهّم زوجها للأمر.
أنجبت ولداً واثنين وثلاثة، ثم سألت لأهل زوجي من سيطعمهم؟ لا جواب. سألت أهلي السؤال نفسه، ولا جواب. كنت أعرف أني وأطفالي سندفع الثمن
وتضيف: "أنا وزوجي متعلمان ومتفهمان لحساسية معيشتنا في البلد ومعيشة الجميع، لذا قررنا بكل وضوح ألّا ننجب. إلى متى؟ إلى أن تختلف الظروف جذرياً، أو أن نهاجر من البلد".
وفي السياق نفسه، تتمسك ميرنا جمّال، بفكرة عدم الإنجاب بعد بلوغها 31 عاماً. تقول في حديثها: "مذ كنت مخطوبةً قبل بضع سنوات، تفاهمنا أنا والرجل الذي صار زوجي على ألّا ننجب إلا حين يكون الظرف مواتياً بالكامل، وها أنت ترى كيف يسوء وضع معيشتنا يوماً بعد يوم، لذا، لا زلنا ملتزمين باللا إنجاب حتى الآن، برغم أني لا أخفي حبّي لأن أكون أمّاً، ولكن لن أسمح لمحبتي تلك بأن تكون وسيلةً لإنبات جسد من جسدي محكوم عليه بالجوع والحاجة والمستقبل المجهول".
تذهب ريما ناصر (26 عاماً)، بأفكارها في اتجاه آخر، قائلةً باختصار: "لا أريد أن أنجب طفلاً يدعو عليّ حين يكبر في هذا البلد".
على الضفة الأخرى
تبدو أسباب ندم سلاف الشيخ (27 عاماً)، على الأمومة ممعنةً في الرفاهية، فهي تقول: "كنت أسهر وأسافر وأعيش حياتي كما أريد، أنا الآن مكبلة بطفلتي، وحياتي كلها تبدّلت وصرت مربية أطفال، ونادراً ما أخرج مع أصدقائي. حياتي تغيرت والأمر لا يعجبني".
كثيرة هي الحالات التي يمكن رصدها في المجتمع السوري عما يتعلق بالندم على الإنجاب، بل إنّ أي حالة مجتمعية أخرى يسهل رصدها لشدة ما أفرزت الحرب من أمثلة قد يكون بعضها متبايناً ولكنّها متوافرة بكثرة للباحث الذي يلحظ بسهولة أنّ بلداً كسوريا صار ممتلئاً بالقهر.
القهر، ليس كلمةً عاديةً، فالناس فعلاً مقهورة، تحدث نفسها في الشوارع، وتصطدم ببعضها في الطرقات، وتبحث عن الطعام بأي وسيلة، ولكن في مكان آخر دورة الحياة يجب أن تستمر؛ العمل، الحب، البناء، الزواج، والإنجاب.
وكل ذلك يبقى مفهوماً ومعلّلاً في أسس علم النفس والاجتماع، ولكن الغريب هم أولئك الذين ابتعد رصيف22، عنهم خلال بحثه في هذا الموضوع، هم الذين أنجبوا خمسة أطفال وستةً وسبعةً وأكثر، على قاعدة العزوة والسند واسم العائلة والرزقة القادمة، ومعظمهم لا يستطيعون اليوم تأمين ثمن الطعام، لكن العرف القبلي لطالما كان أقوى.
وفي زحمة الأعراف تلك، يبقى أنّ جسد بلادهم يحتاج إلى من ينزع منه سكاكين كثيرةً، لتتنفس رئتاه من جديد، ومعهما تعود الحياة إلى الشوارع، والحب إلى البيوت، والمخاوف من الغد إلى جحورها.
في علم الاجتماع والنفس
تقول الباحثة المتخصصة في علم الاجتماع، أريج الرز، لرصيف22: "الحرب في سوريا والفترة التي تلتها، أثّرتا على كل فئات المجتمع وانعكستا على الأسرة بشكل خاص وبشكل سلبي جداً فاختلطت الأدوار إلى درجة أنّ الزوجة كانت تحمل مسؤولياتها كزوجة وأم وأب تجاه أسرتها نتيجة ظروف قاهرة مثل غياب الأب والعجز الجسدي وغيرهما من الأسباب".
كنت أسهر وأسافر وأعيش حياتي كما أريد، أنا الآن مكبلة بطفلتي، وحياتي كلها تبدّلت وصرت مربية أطفال، ونادراً ما أخرج مع أصدقائي. حياتي تغيرت والأمر لا يعجبني
وتضيف: "تراكم هذه الضغوط من الطبيعي أن يترك أثراً سيكولوجياً عند السيدات والأمهات، لذا نجد لدى بعضهن شعوراً بالندم على الإنجاب وقد يكون مصدر هذا الشعور العجز الذي تقع فيه السيدة أمام أطفالها، لعدم قدرتها على تحقيق أدنى رغباتهم في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة أو قد يكون نتيجة العجز تجاه عادات المجتمع وتقاليده التي قد تمنعها في بعض الأحيان من حقوقها وتؤثر على حقوق أطفالها".
برأي الباحثة، "السوريون يعيشون في مجتمع الحالة السائدة فيه هي إطلاق الأحكام على الآخر من دون تقدير لمشاعره أو احتياجاته، بل تُطلَق الأحكام انطلاقاً من المخزون الثقافي الخاص بالشخص الذي يطلق الحكم، وتالياً نرى سيدات عديدات يحاكمن سيدات أخريات على شعورهن بالندم من دون النظر إلى الأسباب التي وراء هذه المشاعر، فتبدأ المقارنات التي غالباً لا تكون دقيقةً أو منطقيةً بين السيدات والمزايدات على الأمومة، انطلاقاً من مفهوم التضحية دون سواه، وهو مفهوم مغلوط ضمن مجتمعاتنا ويحدّ من تقدير الشخص لذاته على حساب الطرف الآخر".
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ أسبوعSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ شهرحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.