انخرط التونسيون بمختلف توجهاتهم ومشاربهم في المسيرات والمظاهرات والوقفات التضامنية مع الشعب الفلسطيني، وعبّرت الأحزاب والمنظمات والمجتمع المدني، وحتى الحكومة، عن موقف موحد، يتمثّل في إدانة الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، ورفض محاولات ترحيل الفلسطينيين منه.
وتمثّل نصرة فلسطين وشعبها قضيّةً أعادت الوحدة بين مختلف الفرقاء في تونس، بعد أشهر طويلة من القطيعة السياسيّة بين الأحزاب السياسيّة المختلفة من جهة، وبينها وبين الحكومة من جهة أخرى.
شكلت القضية الفلسطينية على مر التاريخ علامة الوحدة التونسية، وبرزت كذلك مجدّداً لتعيد وحدة الصفّ ولو إلى حين، لبلد لطالما وقف إلى صف فلسطين في العديد من المحطات، وتطوّع الآلاف من أبنائه في صفوف المقاومة الفلسطينية.
غزّة خط أحمر
منذ بدء شن الجيش الإسرائيلي غارات عنيفةً على قطاع غزة سقط ضحيّتها مئات المدنيين، لم يخمد صوت الشارع التونسي، الذي ينظّم يومياً مظاهرات حاشدةً تدعم غزة وتدعو إلى تجريم التطبيع.
ومنذ انطلاق عملية "طوفان الأقصى"، عبّر رئيس الجمهورية قيس سعيّد، عبر بيان نُشر على صفحة رئاسة الجمهورية، عن وقوف تونس الكامل إلى جانب الشعب الفلسطيني، داعياً المجتمع الدولي إلى وضع حد للاحتلال ولإمعان قواته في انتهاك حق الشعب الفلسطيني.
وقد أعقب البيان قرار من وزارة التربية برفع العلم الفلسطيني، وتحيته إلى جانب التونسي، في المؤسسات التربوية كافة.
كما سارعت جميع الأحزاب السياسية إلى إصدار بيانات تدين جرائم الاحتلال وتنفيذ وقفات ومظاهرات حاشدة آخرها المسيرة الوطنية التي نفذتها "جبهة الخلاص" المعارضة في العاصمة تونس تضامناً مع غزّة.
تونس كل نونس مع فلسطين ظالمة أو مظلومة..
— مختار غُمّيض (@ghommokh) October 10, 2023
دكوا عروش العملاء المتصهينين..???? pic.twitter.com/R87gycImXT
يرى صلاح الدين الجورشي، المحلل السياسي، أن القضية الفلسطينية توحد تاريخياً كل الفرقاء التونسيين مهما اشتدت الخصومة بينهم، بما في ذلك الإسلاميين واليسار وأقصى اليسار. لكن الجديد هذه المرة هو أن الخطاب الرسمي لرئيس الجمهورية كان عالياً جداً.
ويضيف الجورشي، أن البيان الذي أصدرته الرئاسة كان سقفه مرتفعاً مما جعل الحديث لا يتعلق بتحرير جزء من فلسطين، ولا تأييد المقاومة من أجل استرجاع غزة، بل ذهب الخطاب الرئاسي بعيداً عندما ذكر أن أرض فلسطين هي الأرض المقدسة التي يجب الدفاع عنها.
السياق السياسي الحالي في تونس، يدفع إلى موقف موحّد من إسرائيل يغطّي على الصراعات السياسية السابقة، كما أن توجهات الرئيس قيس سعيّد تساهم في هذا المعطى
كما يرى محدث رصيف22، أن موقف الرئاسة "فتح المجال أمام كل الأطراف لتؤيد القضية. لكن ما كان ينقص هو القليل من السرعة في توحيد الصفوف، ومع ذلك فإنه على مستوى الشعارات والهدف هناك نوع من الوحدة السياسية بين الجميع في تأييد شرعية المقاومة ومعاداة إسرائيل".
ويشير الجورشي، "إلى أن من بين أسباب توحيد الصفوف، الموقف الأمريكي والأوروبي، فقد ذهبت بعض الدول إلى تأييد المجزرة المفتوحة في غزة، وتأييد الكذب الإسرائيلي الذي ادّعى بأن المقاومة هي داعش أخرى، لكن تبين أن كل ذلك كذب ودعاية انخراط فيها الجميع، وهو ما زاد في توحيد الصفوف وتأييد القضية".
وحدة الشارع والنظام
يلفت المحلل السياسي إلى أن تونس عُرفت بتأييدها الكامل لفلسطين منذ البداية، وما يلاحظ "دائماً في كل المحطات، هو أن الشارع متقدم على الحكومات المتعاقبة، وعلى النظام والأجهزة والمؤسسات الرسمية، التي كانت تراعي دائماً الخطاب الدولي السائد والعلاقات التونسية"، مشيراً إلى أنه مع الرئيس قيس سعيّد، "أصبح الخطاب الرسمي منسجماً تماماً مع تصور الكثير من التونسيين. وهذا التحول الذي حصل على مستوى الخطاب الرسمي فتح المجال لكي يُمنع بشكل واضح أن يفكر أي طرف في الحديث عن تطبيع أو عن هدنة سياسية مع الحركة الصهيونية والنظام الإسرائيلي".
تمثل القضية الفلسطينية في تونس "قضية الأمة" التي تذيب جميع الخلافات الفكرية والحزبية
من جانبه، يقول أحمد الكحلاوي، رئيس الهيئة الوطنية لدعم المقاومة ومناهضة التطبيع، إنه لأول مرة في تونس "يحدث اتفاق تام بين الشعب والقيادة، وإن قيس سعيّد قبل توليه الرئاسة رفع شعاراً برتبة القسم وهو 'التطبيع خيانة عظمى'".
قررت #تونس رفع علم فلسطين وترديد نشيدها في جميع المدارس هذا القرار يعكس دعم #تونس القوي والثابت للشعب الفلسطيني وقضيتهم العادلة pic.twitter.com/ICwsGjkhhA
— Lana Gharbi (@lanagharbii) October 9, 2023
كما يلفت الكحلاوي في حديثه إلى رصيف22، إلى أن "من غير المعقول ارتكاب جرائم مماثلة في حق الشعب الفلسطيني والسعي إلى طرد الفلسطينيين من غزة، وأن الشعب الفلسطيني سينتصر هذه المرّة لأن ميزان القوى الدولي تغيّر، وهذا ما من شأنه أن يؤثر على الاحتلال". كما يشير إلى أن "مواقف أحرار العالم واضحة وهم في صدد التظاهر في كل مكان".
قانون تجريم التطبيع
حسمت تونس موقفها من القضية الفلسطينية بالتنصيص في توطئة دستورها الجديد على حق الشعب الفلسطيني في أرضه السليبة، وإقامة دولته وعاصمتها القدس.
لكن هذا الاعتراف جوبه بموجة انتقادات لاذعة تستنكر غياب تجريم التطبيع مع إسرائيل، برغم أنه شعار رفعه الرئيس سعيّد في حملته الانتخابية.
فضلاً عن ذلك، فإن مشروع القانون هذا، أي تجريم التطبيع، عُرض على البرلمانات السابقة منذ سنة 2011، وبرغم النظر فيه أكثر من مرة إلا أنه لم يرَ النور إلى الآن، ولم تتم المصادقة عليه.
وتسهم الأحداث الأخيرة في فلسطين في نفض الغبار عن مشروع قانون تجريم التطبيع، وقد نظرت لجنة الحقوق والحريات في هذا المشروع الذي أصدرته كتلة "الخط الوطني السيادي"، وسط تطلعات شعبية للمصادقة عليه.
ومن أبرز ما جاء في مشروع القانون، التنصيص على عقوبات سجنية تتراوح بين سنتين وخمس سنوات، لكل من يرتكب "جريمة التطبيع"، وعقوبات مالية تتراوح بين 10 و100 ألف دينار تونسي (بين 3 آلاف و30 ألف دولار).
ويقول الجورشي إن النظر في قانون تجريم التطبيع أُجِّل لأن تقديرات الأحزاب السياسية مختلفة في معظمها، وتتمحور حول عدم جعل تونس في مواجهة مباشرة مع الطرف الإسرائيلي، وترك المجال أولاً لدعم تونس اقتصادياً وسياسياً وإعطاء الأولية لترسيخ الديمقراطية قبل الدخول في معركة دبلوماسية مهمة مع الطرف الإسرائيلي والدول الصديقة لتونس بما في ذلك الاتحاد الأوروبي وأمريكا.
سعيّد ضد التطبيع
ويرى المتحدثون أن السياق السياسي الحالي في تونس، يدفع إلى موقف موحّد من إسرائيل يغطّي على الصراعات السياسية السابقة، كما أن توجهات الرئيس قيس سعيّد تساهم في هذا المعطى.
ويرى الجورشي أن "المعطيات تغيّرت حالياً، وكذلك موقف تونس من إسرائيل، إذ إن رئيس الدولة أصبح أكثر حرصاً على مواجهة إسرائيل دبلوماسياً، ومحاربة التطبيع الذي عدّه جريمةً، كما دخل في معركة سياسية أخرى في مجال الحريات مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وتالياً المناخ الآن أصبح ملائماً أكثر لسن قانون تجريم التطبيع".
تسهم الأحداث الأخيرة في فلسطين في نفض الغبار عن مشروع قانون تجريم التطبيع
ويرى المتابعون للشأن السياسي في تونس، أن الوضع الحالي ملائم أكثر من أي وقت مضى لتجريم التطبيع علناً وتأييده بنص قانوني صريح يمنع كل محاولات التطبيع مهما كان نوعها، سياسيةً أو اقتصاديةً أو أمنيةً، في ظل وضوح وعلانية في موقف أعلى هرم السلطة ووجود اتفاق بين جميع مكونات المجتمع التونسي ومن بينها الأحزاب والمنظمات والمجتمع المدني.
وتمثل القضية الفلسطينية في تونس "قضية الأمة" التي تذيب جميع الخلافات الفكرية والحزبية وغيرها.
جدير بالذكر أن طائرةً عسكريةً محمّلةً بنحو 12 طناً من المستلزمات الطبية والصحية وحليب الأطفال انطلقت من تونس لفائدة الشعب الفلسطيني في انتظار تنظيم رحلات جوية أخرى، وذلك في إطار دعم تونس للشعب الفلسطيني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...