المكان: ملعب الشهيد حملاوي في قسنطينة، ثاني أكبر مدن الشرق الجزائري، والزمان: ليلة لقاء كرة قدم ودّي، في إطار التحضير لكأس إفريقيا 2024، بين منتخبي الجزائر والرأس الأخضر، والمشهد من منظور لاعب كرة من جزر الرأس الأخضر، الواقعة بعيداً في المحيط الأطلسي، يرى أن شيئاً ما في هذا الملعب أقوى من كرة القدم، ويبدو كل من في الملعب مشغولاً عن المباراة، والأعلام في المدرجات ليست لطرفي النزال، وهتافات الجماهير تدوي في أرجاء الملعب: "في فلسطين شهداء… في فلسطين شهداء". أصوات يتفاعل معها نجوم المنتخب الجزائري الذين يتوشحون الكوفية الفلسطينية، ولا حديث، داخل وخارج، الملعب سوى عما يحدث في غزة.
بالنسبة لنا كعرب، اعتدنا أن تكون الملاعب منبراً للشعوب، تبوح فيه، في كثير من الأحيان، بقليل من الرياضة وكثير من السياسة. لقد كان الأمر في الجزائر شائعاً منذ التسعينيات، أن تغنّي الجماهير عن السياسة الداخلية والاضطهاد والرغبة في الهجرة وسوء التسيير، حتى أن حراك عام 2019، وهو أكبر مظاهرة سياسية عرفتها البلد، كان يستقي هتافاته في البداية من أهازيج الملاعب، لكن خارجياً لم تكن الجماهير تنشد سوى لفلسطين.
فلسطين بطلة أهازيج الملاعب
ما كان يحدث في ملعب الشهيد حملاوي ليس غريباً عن الملاعب الجزائرية. حدث ذات مرّة أن لعب منتخب الجزائر ضد منتخب فلسطين في ملعب 5 يوليو، أكبر ملاعب البلاد، فامتلأ الملعب بجزائريين بأعلام فلسطينية، يناصرون فلسطين أكثر من منتخب بلدهم، بل وصل الأمر حدّ التصفير على لاعبي منتخبهم مخافة دكّ شباك الضيوف.
في الواقع، لا يمكن فهم سرّ تعلّق الجماهير الجزائرية بفلسطين، سوى بفهم علاقة الشعب الجزائري بثورته التي لا يرى أنها اكتملت دون نيل فلسطين حقها في الحرية والانعتاق من استيطان ديموغرافية أوروبية، كانت شبيهتها تستوطن أرض الجزائر قبل أكثر من نصف قرن من الزمن.
المسيرات والمظاهرات محكومة في الجزائر بتراخيص إدارية وترتيبات أمنية، لكن مدرجات الملاعب لم تبخل يوماً في تقديم مساحة الحرية التي تحتاجها الجماهير لإفراغ ما يخالجها من فيض التعاطف مع إخوانهم في غزة، بعد أن طاردتهم خوارزميات مواقع التواصل، بتقييد الحسابات وحظر النشر تحت ذريعة منع خطاب الكراهية ومعاداة السامية.
"في فلسطين شهداء… في فلسطين شهداء"
لاعبون أهدافهم لفلسطين
ليست الجماهير وحدها بطلة قصة التضامن مع فلسطين في الملاعب، بل حتى اللاعبين أنفسهم، من لم تكن أهدافهم للشباك فقط، بل لخدمة القضية الفلسطينية أيضاً، ولعل أبرز مثال أيقوني عن ذلك، إعلان محمد أبو تريكة، نجم المنتخب المصري السابق لكرة القدم، التضامن مع أهالي غزة ضد العدوان الإسرائيلي في عام 2008، وذلك أثناء لقاء مصر والسودان، في بطولة كأس الأمم الأفريقية التي جرت منافساتها وقتها في غانا، وانتشرت صور أبو تريكة في العالم كله، وهو يرفع قميصه تضامناً مع غزة، بعد تسجيله لهدف.
و كان أبو تريكة قد أوصى بعد الواقعة بأن يتم دفن القميص معه في قبره، وذلك خلال حفلٍ لتكريمه في الجزائر على تألقه في البطولة، كما قام الاتحاد الإفريقي "كاف" وقتها بإنذار نجم الأهلي والمنتخب المصري على خلط السياسة بالرياضة.
لقد كان خلط السياسة بالرياضة جريمة إلى وقت قريب، قبل أن تندلع الحرب الأوكرانية - الروسية، ليصبح التضامن مع أوكرانيا سنّة حسنة، ومشاركة روسية في التظاهرات الرياضية من الموبقات.
لكن النجوم العرب المسلمين لم ينتظروا فتوى من الفيفا على كل حال، وشاع رفع علم فلسطين بينهم، ومن أبرزهم النجم الجزائري رياض محرز، الذي طاف بعلم فلسطين في أرجاء ملعب مانشستر سيتي أثناء تتويجه بطلاً للدوري الإنجليزي، تماماً مثلما فعل في مباراة الرأس الأخضر بملعب الشهيد حملاوي.
النني في سماء إنجلترا
لاعب أرسنال المصري محمد النني، أحد أبرز الأمثلة عن اللاعبين المستعدين لدفع الثمن لقاء التضامن مع فلسطين، حيث قام في أعقاب العدوان الذي يشنّه جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، بنشر صورة القدس وعلم فلسطين في حساباته في منصات وسائل التواصل الاجتماعي، وبحسب صحيفة "تليجراف" البريطانية، اضطر نادي أرسنال إلى تحذير لاعبيه من رد الفعل العنيف الذي قد يواجهونه على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بعد تغيير النني لصورته الشخصية دعماً لفلسطين، وأضافت الصحيفة أن إدارة النادي أخطرت اللاعب المصري، أن "الصورة التي نشرها يمكن أن تسبب الانزعاج أو الغضب بين قاعدة جماهير النادي العالمية"، حتى أن رابطة المجتمع اليهودي المشجّع لنادي أرسنال أصدرت بياناً غاضباً ضد اللاعب.
في المقابل، يصنع النجم المصري الآخر محمد صلاح، المحترف في نادي ليفربول الإنجليزي، ضجّة بصمته صوب الأحداث الجارية، وهو ما خلق جدلاً واسعاً، بين من طالبوه بالوقوف مع غزة، ومن رأوا أنه حر في اختياراته ولا يجوز ابتزازه.
لا يمكن فهم سرّ تعلّق الجماهير الجزائرية بفلسطين، سوى بفهم علاقة الشعب الجزائري بثورته
خارج الملاعب، غزة في القلب
تصدّرت أخبار غزة و الأحداث الجارية فيها قائمة اهتمامات الجزائريين هذا الأسبوع، ولا تكاد تدخل مقهى أو تسترق السمع لحديث بين طرفين إلا و تجده يتمحور حول معاناة الفلسطينيين، وبعد صلاة الجمعة، يوم 13 تشرين الأول/ أكتوبر، عجّت الساحات والشوارع بمسيرات متضامنة مع فلسطين، تطالب بتدخّل عربي ودولي حازم لمنع العدوان الإسرائيلي على المدنيين العزّل، وفكّ الحصار الذي تحظره كل القوانين الدولية عنهم، حاملين العلم الفلسطيني ولافتات تحمل عبارات مندّدة بصمت المجتمع الدولي وازدواجية المعايير حينما يتعلق الأمر بفلسطين.
ولم ينتظر الجزائريون طويلاً لإطلاق حملات التضامن والإغاثة لنصرة الفلسطينيين في غزة، إثر القصف العدواني الذي يطالهم من قبل إسرائيل، حيث بادرت العديد من الجمعيات الناشطة في مجال الإغاثة الدولية لتكثيف حملاتها لجمع التبرعات والدعم ومؤازرة الضحايا العزّل، الذين فقدوا أهاليهم ودمرت منازلهم وسوّيت بالأرض، فأصبحوا بلا مأوى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...