رغم امتلاء ذاكرة الليبيين عن آخرها وازدحام أيامهم بالأحداث وحتى بالخيبات والمآسي، إلا أنهم كانوا دائماً يجدون ذاك الركن الهادئ الذي تتربع فيه فلسطين وحدها بعَلَمها وأغنياتها وحجارتها وجرحها النازف من ملايين الأجساد.
فرجال ونساء ليبيا اليوم كانت طفولتهم مواكبة للثورات الأخيرة للفلسطينيين، ساعدهم على ذلك المزاج العام للسلطة المهووس بالقومية العربية وبالعداء "الظاهر" للإمبريالية والصهيونية، حتى أن جيلاً ليبياً كاملاً كان يسمع الهتافات المناهضة لهما وللاستعمار أكثر من سماعه حديثاً عن الشأن الداخلي الليبي، الذي كان الخوض فيه ملغوماً بمخاوف لا حصر لها.
إن شعباً عاش مع حاكمه الصراع الذي كان يمليه عليه طموحه السياسي، وتجرع مع امتداده الإقليمي والقومي مرارة الهزائم وألم الحروب، لم تمنعه "إلدورادو" الرئيس الأميركي رونالد ريغان وتحرشه بخليج سرت أواخر الثمانينيات، ولا تبعات الحصار الذي فُرض على بلاده أوائل التسعينات وما صاحب ذلك من أوضاع اقتصادية مزرية، من أن يكون هناك في أرض فلسطين، يواكب انتفاضات أهلها ويرعى ثوراتهم بالدعاء وبالأغنيات.
جيل تربى على أخبار فلسطين
جيل كامل من الليبيين كبر على أخبار فلسطين، وعلى أسماء أبطالها، بدعم من الخطاب العام الذي رسّخ في الأذهان عبارات مثل "الكيان الصهيوني" و"فلسطين المحتلة".
رجال ونساء ليبيا اليوم كانت طفولتهم مواكبة للثورات الأخيرة للفلسطينيين، ساعدهم على ذلك المزاج العام للسلطة المهووس بالقومية، حتى أن جيلاً ليبيا كاملاً كان يسمع الهتافات المناهضة للاستعمار أكثر من سماعه عن الشأن الداخلي الليبي
لنعد إلى الأغنيات الليبية التي صدحت باسم فلسطين وحملت لواء الثورة من ليبيا البعيدة جغرافياً القريبة جداً عندما يحمل الفلسطيني حجراً ليواجه به سطح مدرعة عملاقة، فيكون هذا كافيا ليجعل الأغاني تتدفق بالأمنيات وتنضم لركب الثورة من بعيد، ومن أهم هذه الأغنيات التي لاقت انتشاراً عربياً كبيراً "وين الملايين"، والتي جاءت في وقت مناسب جداً لطرح مثل هذا السؤال، وقد كتب كلماتها الشاعر الليبي علي الكيلاني، الذي اختار ثلاثة أصوات عربية لغنائها فكانت اللبنانية جوليا بطرس، والسورية أمل عرفة، والتونسية سوسن الحمامي.
عادت الأغنية اليوم لتضرب بكلماتها القوية ولحنها الحماسي، وتكون سنداً لأية حركة تنغص على المحتل حياته التي بناها على نزف شعب بأسره:
وين الملايين..؟
الشعب العربي وين..؟
الغضب العربي وين..؟
الدم العربي وين..؟
أغاني وطنية وزي عسكري لطلاب المدارس
لنا أن تتخيل أثر مثل هذه الكلمات عندما تصاحبها صور ومشاهد لانتهاكات جنود الاحتلال وممارساتهم في فلسطين خلال الانتفاضة الأولى والثانية، وكل هذا كان في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات عندما كان طلاب وطالبات الثانويات العامة في ليبيا يرتدون اللباس العسكري كزي مدرسي إجباري، ويستمعون في الإذاعات المدرسية إلى أغاني الثورة، والتي راجت كثيراً وقتها، مع مقولات مثل "الشعب المسلح غير قابل للهزيمة". رغم وقوع هذا الشعب في محرقة الحصار الذي فرض عليه عقب إدانة ليبيين في تهمة إسقاط طائرة أميركية فوق بلدة لوكيربي الاسكتلندية.
كتب الشاعر الليبي علي الكيلاني بعض أشهر أغاني الثورة الفلسطينية، مثل "وين الملايين"، و"ثوري" و"فلسطين عربية" و"يا حمام القدس"
لكن المعاناة لم تغير مكان فلسطين في وجدان الليبيين، فبعض أجمل الأغنيات وأقواها وأشدها تعبيراً عن الواقع الفلسطيني كانت بلسان ليبي مؤمن تماماً بعدالة هذه القضية، وبجدوى النضال وحتمية النصر ولو بعد حين، ومن السؤال عن الملايين إلى فعل الأمر "ثوري".
انطلقت هذه الأغنية لترافق ثورة الحجارة، وليترافق مع كلمات الأغنية وموسيقاها ذات الإيقاع القوي بمثابة الحجر الذي قد لا يقتل، لكنه يدمي ويؤلم عندما يصيب هدفه، وهذه أيضاً من كلمات الشاعر علي الكيلاني الذي يملك رصيداً هائلاً من الأعمال الجميلة في المكتبة الفنية الليبية:
ثوري ثوري ثوري
ثوري بالحجار ما غيره قرار
ثوري للصغار لا ترضي العار
في غزة وبلاطه في القدس ورام الله
ثرنا بالبِلاطة وكبرنا باسم الله.
أغنيات مخيمات اللجوء
في "ثوري" نجد أن الإيقاع المتسارع القوي ساهم كثيراً في انتشار الأغنية، حتى في شوارع فلسطين وأيضاً في جنوب لبنان في حربه الأخيرة مع الحِراب المنغرزة في خاصرته الجنوبية. هذا لم يحدث ربما لأغنية ابن مدينة بنغازي أحمد فكرون "فلسطين" رغم الشهرة العالمية لفكرون لكن اللحن الهادئ والموسيقى الوترية التي اعتمدت عليهما الأغنية لم يساعدا على الانتشار رغم قوة الكلمات التي صاغها الشاعر الليبي الراحل ابن مدينة درنة فرج المذبل:
يا طفل عايش في خيام الهم
وشايل عذابك في عيون الأم
بوك في جهاده عاش ديما يقول
حفنة تراب من الوطن تسوى دم.
للحن قدرة هائلة على تحويل الكلمة إلى رصاصة لا تخطئ هدفها، أو بذرة تضرب موعدا للبزوغ، ومن كلمات فلسطينية للراحل ناجي العلي ولدت أغنية "أرسم شجرة" بصوت ولحن الفنان الليبي الراحل محمد حسن:
ارسم شجرة ارسم عشرة
ارسم بستانا لوّن ثمرة
ارسم خوخاً ارسم عنباً ارسم نخلاً يحضن رطباً
ارسم أزهاراً وسنابل
ارسم أغصاناً وبلابل
لا تساوم ارسم وقاوم
أغنية أخرى نالت شهرة واسعة في ذلك الوقت للشاعر علي الكيلاني كلاماً ولحناً، وقد غنتها أربع مطربات عربيات لحمام القدس هنّ: أمل عرفة، سوسن حمامي، خولة العطار، هدى الراشدي. كانت الكلمات تخاطب الحمام الطائر فوق قبة الصخرة وقباب مساجد القدس:
يا حمام القدس كبِّر عمّر بيوت الله
للي طغى وتجبر قول له الدوام لله
خلي الكرامة والشهامة زادك
خلي الأمل في أولادنا واولادك
"ذكرى"... التي لا تُنسى
ولأن الراحلة ذكرى تملك جزءا مهما وجميلا من أرشيف الأغنية الليبية فقد سمعنا بصوتها أغنيات كثيرة للمقاومة وللحرية وللثورة وكل القيم التي كانت وستبقى مرادفاً لفلسطين وقضيتها العادلة، فقدمت أغنية "ما تحزني يا قدس" من كلمات الشاعر الليبي عبد الله منصور وألحان الليبي الشريف محمد:
ما تحزني يا قدس يا مسرى نبينا
وما تنتهي روح التحدي فينا.
وأيضا كانت أغنية "من يجرا يقول" التي كتب كلماتها الشاعر علي الكيلاني، فجاءت عباراتها المناهضة للتطبيع والسلام الهش بين السخرية والتهكم المستفز للمشاعر/ وقد سرت الكثير من الشائعات بعد موت المغنية بأن هذه الأغنية هي التي كانت السبب في قتلها:
كل عام نقولوا بنغزي غزوة حطين
نلقى اللي يجينا يذكرنا بسبعة وستين
برَّدنا صبرا وشاتيلا بثلج النرويج
وسخَّنا البايت والجامد بنفط الخليج
ومن التونسية ذكرى إلى المغني الأردني عمر عبد اللات الذي غنى كلمات الكيلاني أيضا في "قادم":
قسما يا غزة بالمعزة قادم
ما تمنعنا الأعادي عن عكا ويافا وحيفا
كبِّر باسم الله العالي فوق الصخرة الشريفة
مقتول ودمي سايل مقطوع ايدي ولساني
أعمل كل الوسايل كل يوم يزيد إيماني.
أصالة أيضاً من أهم الأصوات العربية التي غنت كلمات ليبية عن فلسطين في أغنيتها "فلسطين عربية" التي كتبها كذلك الشاعر علي الكيلاني:
شهدانا قوافل وعزومنا جبال
لا تركع لسافل لا نهاب اعتقال
في قلب الجنين مكتوبة فلسطين
لم يكتفِ الشارع الليبي بأصوات الفنانين التي كان عرابها الكيلاني بل نقل فلسطين بعَلمها وكوفيتها وصمودها الأسطوري إلى مدرجات الملاعب فصدحت جماهير كرة القدم معشوقة الليبيين بالأهازيج والهتافات الداعمة للحق الفلسطيني.
كثير من الأغنيات كُتبت ولُحّنت وغُنّت لفلسطين في ليبيا، ولم تنل شهرة عربية بسبب لحنها الهادئ أو الحزين، مثل أغنية "فلسطين" التي غناها أحمد كفرون ولحّنها فرج المذبل
بعيداً عن الفن والرياضة، ورغم الظروف التي مرت على ليبيا في العشرية الأخيرة، إلا أن أجمل الأصوات التي تخرج من ليبيا لفلسطين هي أصوات دعاء الأمهات في قلقهن وهن يتابعن أخبار غزة والفلسطينيين الذين يقبعون تحت الموت، هذا القلق الذي يترجمه الدعاء والرجاء هو أقصى ما يستطعن ونستطيع ونحن مجبرون على الاكتفاء بمشاهدة كل القيم الإنسانية النبيلة وهي تنهار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 12 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 18 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com