اعتاد الشيعة على استذكار مصاب حفيد الرسول، الحسين بن علي بن أبي طالب، وأهل بيته، في العاشر من محرم من كل عام، وذلك تزامناً مع استعادة وقائع مذبحة كربلاء الدامية، تلك التي وقعت في العام الحادي والستين من الهجرة.
في عاشوراء يتم إحياء ذكرى الإمام الحسين، سيد شباب أهل الجنة، فتُنشد القصائد الشعرية المُبكية في الحسينيات والمساجد، وتمارس طقوس التطبير في الساحات والميادين في بعض المدن، لتتحول المجتمعات الشيعية إلى مسارح تعرض تفاصيل تلك المذبحة المروعة التي وقعت في أرض العراق منذ ما يقرب من الأربعة عشر قرناً.
وفي الوقت الذي نجد فيه أن كلاً من شخصيات الحسين، وأبي الفضل العباس، والسيدة زينب، ومسلم بن عقيل من جهة، ويزيد بن معاوية، وعُبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد، وحرملة الأسدي من جهة أخرى، قد أخذت مكانتها في أحداث الملحمة الكربلائية، باعتبارها شخصيات رئيسية تدور أحداث الملحمة حولها، فإن هناك مجموعة أخرى من الشخصيات الثانوية، والتي وإن كانت قد لعبت أدواراً أقل أهمية في تلك الملحمة، لكنها قد أكسبتها أبعاداً درامية عميقة، الأمر الذي مكن تلك الملحمة من الصمود والبقاء والتطور لما يزيد عن الآلف عام.
الرسول والحسن وأم سلمة... نبوءة مقتل الحسين في كربلاء
لئن كانت النبوءة المستقبلية، واحدة من أهم أركان الملاحم الإنسانية على مر التاريخ، فقد كان من الطبيعي أن تذخر الملحمة الكربلائية بمجموعة من النبوءات المستقبلية التي تحدثت عما سيجري للحسين في كربلاء، وقد نُسبت تلك النبوءات لبعض الشخصيات القريبة من الحسين، وعلى رأسها كلّ من جدّه النبي، وشقيقه الحسن بن علي، هذا فضلاً عن أم المؤمنين، أم سلمة.
تظهر تلك النبوءات في الكثير من المصادر الإسلامية، السنية والشيعية على حد سواء، ومنها على سبيل المثال ما ورد في مسند أحمد بن حنبل المتوفى 241ه، على لسان علي بن أبي طالب، من أنه قد دخل على النبي ذات يوم فوجده يبكي، فلما سأله عن سبب البكاء، قال له الرسول: "قام من عندي جبريل فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات... فلم أملك عيني أن فاضتا".
تروي بعض المصادر أن أم سلمة عارضت مسير الحسين إلى العراق، لأن الرسول قد أخبرها بما سيجري لحفيده في كربلاء، وأنه –أي الرسول- قد أعطاها حفنة من التراب، وأخبرها أنها ستتحول إلى دم عند مقتل الحسين، فكانت أم سلمة تحتفظ بذلك التراب في قارورة
النبوءة تكررت بشكل أكثر تفصيلاً على لسان الحسن عند احتضاره في العام الخمسين من الهجرة، إذ تذكر بعض المصادر أن الحسين لما بكى بكاءً مرّاً عند احتضار أخيه الأكبر، قد هدأ الحسن من روعه، وأخبره أن ما يعاني منه الآن لن يساوي شيئاً أمام هول المصاب الذي سيلاقيه في أرض كربلاء. وبحسب ما جاء في الرواية على لسان الحسن: "إن الذي يؤتى إليّ سُم يُدس إلي فأقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنهم من أمة جدّنا محمد صلى الله عليه وآله وينتحلون دين الإسلام، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك، فعندها تحلّ ببني أمية اللعنة، تمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كل شيء، حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار".
في السياق نفسه، روت الكثير من المصادر الشيعية ومنها على سبيل المثال "الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد" للشيخ المفيد المتوفى 413هـ، و"بحار الأنوار" لمحمد باقر المجلسي المتوفى 1111هـ، أن السيدة أم سلمة قد عارضت مسير الحسين إلى العراق، لأن الرسول قد أخبرها بما سيجري لحفيده في كربلاء، وأنه –أي الرسول- قد أعطاها حفنة من التراب، وأخبرها أنها ستتحول إلى دم عند مقتل الحسين، فكانت أم سلمة تحتفظ بذلك التراب في قارورة، وكانت تخرجها لتنظر فيها كل يوم بعد أن خرج الحسين إلى مكة، وفي العاشر من محرم، نظرت فيها "فإذا هي تغيّرت إلى دم عبيط".
الفرزدق والأسد... النذير الذي يحمل الأخبار السيئة
بعد خروج الحسين من مكة، قابل الكثير من المسافرين على الطريق إلى العراق. الملحمة الكربلائية عملت على إظهار التغير الذي لحق بحال الشيعة الكوفيين من خلال بعض المحادثات السريعة التي تمت بين الحسين وبعض المسافرين.
من أشهر تلك المحادثات، تلك التي وقعت بين الحسين والشاعر همام بن غالب بن صعصعة الدارمي التميمي، المشهور باسم الفرزدق، والذي جاوب حفيد الرسول لما سأله عن حال أهل الكوفة بقوله: "قلوبهم معك، وسيوفهم عليك"، وهي الجملة التي يُفهم منها سيطرة الأمويين على العراق وكسر شوكة الشيعة فيها.
بعض المصادر الشيعية التي احتشدت بأخبار المعجزات والخوارق، نسبت تلك الجملة الشهيرة إلى أحد الأسود؛ فعلى سبيل المثال أورد محمد بن جرير بن رستم الطبري الإمامي المتوفى في القرن الخامس الهجري في كتابه "دلائل الإمامة"، أن الحسين بن علي وهو في طريقه إلى الكوفة، قد قابل أسداً، فلما وقف قال له: "ما حال الناس بالكوفة؟" قال: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك." قال: "ومن خلفت بها؟" فقال: "ابن زياد وقد قتل ابن عقيل…".
وهكذا يظهر صاحب تلك الجملة –سواء كان الفرزدق أو الأسد- في هيئة النذير الذي يحمل الأخبار السيئة لحفيد الرسول، ويحذره من متابعة المسير إلى كربلاء، ولكن الحسين لا يلقي بالاً لتلك الأخبار ويتابع مسيره إلى قدره المحتوم.
وهب النصراني والراهب الهندي وزعفر الجني... الناصر الأسطوري للحسين
لما كان الحسين قد عانى في كربلاء من قلة أعداد المناصرين والأتباع، لدرجة أنه قد وقف منادياً "ألا من ناصر ينصرنا؟!"، فأن الملحمة الكربلائية قد عملت على إقحام عدد من الشخصيات الأسطورية المُختلقة كردّ فعل على ذلك النداء المدوي.
أول تلك الشخصيات، كان وهب النصراني، والذي تتحدث المصادر الشيعية أنه كان أحد النصارى الذين عاشوا بالقرب من منطقة كربلاء، وقد أتته رؤيا منامية ظهر له فيها المسيح عليه السلام، وقد أمره باعتناق الإسلام ودعاه لنصرة الحسين، فترك أهله وزوجه التي تزوجها منذ أيام قلائل، وذهب للحسين وقاتل معه، حتى استشهد بين يديه.
أما ثاني تلك الشخصيات الأسطورية، فقد كان أحد الرهبان الهنود، وبحسب بعض المراجع الشيعية الهندية، ومنها السيد أكبر حيدر في كتابه "استرجاع كربلاء: الشهادة في ذاكرة جنوب أسيا"، فأن هذا الراهب، قد سافر إلى العراق، حيث التقى بالحسين، وشارك معه في معركته المصيرية، وقُتل أثناء الدفاع عنه، ورغم المبالغة الواضحة في القصة، التي لا توجد لها أي شواهد علمية أو منطقية، إلا أنها تعبّر بشكل واضح عن مدى تأثير كربلاء في المخيلة الجمعية لبعض الشعوب البعيدة جغرافياً عن العراق، مثل الشعب الهندي.
من الشخصيات الأسطورية في هامش كربلاء، كان أحد شيوخ الجنّ الذين أسلموا على يد علي بن أبي طالب. اصطحب مجموعة من المقاتلين من قومه ولحق بالحسين، ولكن الحسين ردّه وأخبره أنه لم يؤذن للملائكة والجن بالقتال في كربلاء
أما ثالث تلك الشخصيات الأسطورية التي لعبت دور ناصر الحسين في كربلاء، فقد تمثل في زعفر الجني، والتي تحدثت المصادر الشيعية عن كونه أحد شيوخ الجنّ الذين أسلموا على يد علي بن أبي طالب، وأنه كان في حفل زواجه يوم عاشوراء، فلما وصله دعاء الحسين في كربلاء، ترك الحفل، واصطحب مجموعة من المقاتلين من قومه ولحق بالحسين للقتال إلى جانبه، ولكن حفيد الرسول ردّه وأخبره أنه لم يؤذن للملائكة والجن بالقتال في كربلاء، فتراجع زعفر عن ميدان القتال، ووقف من بعيد وهو يعاين وقائع المذبحة الدامية.
عبد الله الرضيع وسكينة وزين العابدين... الضحية العاجزة الباكية
حرصت الملحمة الكربلائية على تقديم مجموعة من الشخصيات الثانوية، والتي جسدت معاني المعاناة الشديدة التي وقعت للحسين وأهل بيته في كربلاء، من تلك الشخصيات عبد الله الرضيع، وسكينة بنت الحسين، وعلي زين العابدين.
بحسب ما يذكر أبو الفرج الأصفهاني المتوفى 356هـ في كتابه "مقاتل الطالبيين"، كان عبد الله طفلاً رضيعاً للحسين، ولم يكن قد جاوز الستة أشهر. ولما اشتد الحصار على الحسين وأهله، عطش الطفل وقد جف اللبن في صدر أمه، فأخذه الحسين وناشد الأمويين أن يسقوه، فاختلفوا فيما بينهم ما بين موافق ورافض، وعندها أمر قائد الجيش الأموي عمر بن سعد أحد المقاتلين ويُدعى حرملة بن كاهل الأسدي بأن يقتل ذلك الرضيع، رماه حرملة بسهم مسموم ذي ثلاث شعب، فنحره من الوريد للوريد وهو بين يدي الحسين، فأخذ حفيد الرسول يأخذ بدم الرضيع ويلقيه إلى الأعلى، وهو يقول: "هون علي ما نزل بي أنه بعين الله".
وإذا كان عبد الله الرضيع قد قُتل فيمن قُتل في أحداث تلك المذبحة المروعة، فقد استطاع عدد قليل من أهل بيت الحسين النجاة، من هؤلاء سكينة بنت الحسين وعلي زين العابدين.
المصادر أظهرت سكينة في صورة الطفلة الباكية التي تشهد مقتل أبيها، فلا تملك إلا أن تحتضن جثمانه المُسجى وقد تملكها الخوف من جحافل العدو التي تفتش متاع النساء والأطفال عما ينهبونه من حُلي أو مجوهرات.
أما علي زين العابدين –وهو الابن الذكر الوحيد الذي بقي للحسين بعد أحداث كربلاء- فقد أظهرته المصادر على كونه الشاب الضعيف المُنهك، الذي عجز عن القتال من أثر ما لحق به من المرض، وكادت سيوف الأمويين أن تلحقه بأبيه وأخوته، لولا أن دافعت عنه عمته زينب بكل قوتها، فقنع العدو بتركه على قيد الحياة بعدما انتهكوا حرمة جسده وتأكدوا من عدم بلوغه. وبحسب ما يذكر ابن سعد المتوفى 230هـ في كتابه "الطبقات الكبرى"، فأن قاتل الحسين، شمر بن ذي الجوشن لما دعى أصحابه لقتل زين العابدين، رفضوا قائلين "أنقتل فتى حدثاً مريضاً لم يقاتل؟!"، فتركوه ليستمر في عقبه النسل الحسيني.
ميثم التمار... بشارة الانتقام والثأر
على الرغم من كل المآسي التي احتشدت في الملحمة الكربلائية، إلا أن كتّاب تلك الملحمة قد رفضوا أن ينهوها دون أن يتركوا بارقة أمل، تبشر بوقوع الانتقام القريب ممن شارك في تلك المذبحة المروعة.
تلك البشارة ستُروى على لسان شخصية غامضة إلى حد بعيد، وهي شخصية ميثم التمار الذي تذكره المصادر الشيعية على كونه أحد الأصحاب المقربين من علي بن أبي طالب، وولديه الحسن والحسين من بعده.
المصادر الشيعية اعتادت أن تذكر أن ميثم التمار كان قد عرف الكثير من الأخبار المستقبلية من علي بن أبي طالب، ومن ذلك خبر انتقام المختار بن أبي عبيد الثقفي من الأمويين الذين قتلوا الحسين في كربلاء؛ فبحسب ما يذكر الشيخ المفيد في كتاب "الإرشاد"، لما قام والي الكوفة عُبيد الله بن زياد بحبس ميثم التمار في السجن، التقى الأخير بالمختار الذي كان محبوساً أيضاً لمناصرته للحسين بن علي، فقال له التمار:" إنَّك تفلت، وتخرج ثائراً بدم الحسين، فتقتل هذا الذي يقتلنا وتدوس على رأسه برجليك، ولكن إياك يا مختار من البئر التي تحتك -ويقصد بها الرياء- فلا تنزلق به رجلاك ويأخذك إلى قعر جهنم." وهكذا تفتح الملحمة الباب واسعاً لفصل جديد من النضال الذي يقتص فيه المختار الرافع لشعار "يا لثارات الحسين" من جميع قتلة حفيد الرسول.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...