تقول جداتنا:
"يا قلب شن يبريك من الأوجاعي؟
تبريك عيطة في الجبل فزّاعي"
عندما تنغرز أنياب الفقد في الكبد، وينعصر القلب بين ضلوع الحزن لا شيء قد ينتشلنا من هذا مثل صرخة مفزعة تروض الحزن وتخرجه من جوف الأحشاء قبل أن يفترسنا، العبارة الأولى سؤال: "ما الذي قد يشفيك من وجعك أيها القلب المكلوم؟".
والعبارة الثانية قد تكون جواباً، وقد تكون استمراراً للسؤال، لأن هذه الصرخة قد تبرئ من الوجع وقد لا تفعل، فالحزن عندما يتكوّم في الروح يصبح ثقيلاً ولا يكفي الصراخ والبكاء عمراً على زحزحته قيد أنملة.
رحل جدي قبل أن ترحل درنة
منذ بضعة شهور عندما رحل جدي عشت إحساس الفقد للمرة الأولى في حياتي، أن يغيب عن عينيك وجه اعتادتا رؤيته في كل وقت فتغيب كلماته وضحكاته عن غرفته وعن بيته وعن عالمك كله فيصبح اقتران اسمه بصفة "الراحل" أو "المرحوم" ضرباً من جنون تمارسه وأنت تدرك أنك تضحك على نفسك وتعزيها وتستغفلها محاولاً إقناعها بما حدث، حتى عندما تقول برجاء -كلما تحدثت عنه- الله يرحمه، أنت فقط تخفف على نفسك وتراوغ الحزن الثقيل عليها.
رحل جدي منذ بضعة شهور عشتها تحت وطأة خسارتي، حتى انشقت السماء عن حزن عظيم جرف كل ما قبله وطفا على صفحة الروح ليخرسني تماماً
مرت شهور وأنا أعيش تحت وطأة خسارتي الكبيرة في جدي، حتى انشقت السماء عن حزن عظيم جرف كل ما قبله وطفا على صفحة الروح ليخرسني تماماً، حتى إن الدعاء بالرحمة للراحلين والصبر لمن بقي وحيداً يصارع غول الفقد لم يعد قادراً على فعل المواساة، فماذا نقول وماذا نكتب وكيف نصف ما حدث لبضعة من قلب وطن بأسره، لأن درنة لا تشبه أي مدينة ليبية أخرى، هي فقط "درنة" كلمة واحدة تكفي لاختصار كل شيء، حتى ما حل بمدن ومناطق الجبل الأخضر كان فيها مختلفاً وأكثر تدميراً وشراسة.
هل تعرفون كم كان الوادي جميلاً؟
إنها المدينة التي راقبناها من بعيد بقلب مكسور وهي تستسلم للرايات السود قبل أن تمزقها وتعود بنا إلى حقول الياسمين النابضة بالحياة، منذ ذلك الوقت لم نكف عن النظر إليها بعيون ملؤها الفخر والحب، ولم نتوقع يوماً أن يكون واديها مانحها الحياة هو القاتل الجديد الذي سيبتلع أجساد من عاشوا دائماً على ضفافه آمنين مطمئنين.
في كتابه "نهاية كل شيء" يقول كريس إمبي: "عندما تزداد الأمور كآبة، يمكننا العودة إلى العبارات الساخرة والأقوال المأثورة كنكات وودي آلن، أو ذلك التعليق الذي أبداه آرت باكوالد وهو يعاني فشلاً كلوياً مميتاً، وقال فيه: الموت سهل، أما إيقاف السيارات في ساحة الانتظار فهو صعب".
فهل الموت سهل حقاً؟ هل كنا نتوقع قبل وصول الإعصار دانيال إلى شواطئ ليبيا الشرقية أن يكون بهذه الشراسة وهذه القسوة التي جعلتنا نقف عاجزين لا نملك القدرة حتى على صنع كلمات مناسبة نقولها لأصدقائنا هناك؟
هل الموت حقا سهل؟ ولا يحتاج أكثر من ليلة عاصفة ومسؤول فاسد يشتركان في تدمير سدَّين كانا يمسكان عن المدينة غول الماء العظيم.
هل الموت حقا سهل، ولا يحتاج أكثر من ليلة عاصفة ومسؤول فاسد يشتركان في تدمير سدَّين كانا يمسكان عن المدينة غول الماء العظيم، لينطلق من عقاله ويقذف إلى البحر كل ما يقف في طريقه؟
منذ فبراير 2011 لم تعد أخبار القتل والموت غريبة عند الليبيين، فنشوب حرب في ليبيا أسهل من بناء نافورة في جزيرة دوران، والموت قتلاً أصبح من الأخبار التي نتداولها كما نتداول خبراً عن إنجاب إحدى الجارات لطفل جميل، لكن ما حدث لدرنة كان استثنائياً وموجعاً بالقدر الذي يصنع جرحاً غائراً سيظل مع من عاش هذه المأساة كل عمره.
فقد خرجت المدينة كلها من بوابة الزمن وبقيت هناك بضع ساعات اختفى فيها كل سكانها معها، وعندما عادت لم تحضر الجميع، لتتحول مواقع التواصل الاجتماعي إلى شلال من الحزن لا يهدأ، والخبر الذي يقول إن هذه العائلة بخير وقد نجت من الغرق يقابله عشرة أخبار عن عائلات رحلت كلها أو تركت بعض أبنائها يصارعون الحزن وحيدين.
نبوءة الشاعر بمأساة درنة
في هذا البحر الهائج من أخبار الحزن والألم قرأنا وشاهدنا المأساة بعدة وجوه، وحتى عندما نهدأ قليلاً تأتي صورة من هناك أو كلمات من هنا لتحفر في الجرح فينزف من جديد، الحزن يُخرِس حينا ويكون قادراً على قول كل شيء حينا آخر، وما يُكتَب تحت وطأة الحزن لا يصفه فقط بل قد يسبق الحدث الذي كان سبباً فيه، وكم من نبوءة شاعر حملتها كلماته فتحققت من وراء قلبه، كما حدث مع "مصطفى الطرابلسي" الشاعر الذي أغرقه فيضان وادي درنة قبل أن يغرق في عشقه لمدينته التي قال فيها وعنها الكثير من الغزل والقليل من الرثاء والعتاب، فأعاد قبل رحيله بساعات نشر نص قديم له قال فيه:
وفي نبوءة أخرى لشاعر آخر من درنة نجا من طوفانها ولم ينجُ من الحزن الذي هاجمها بوحشية، أعاد الشاعر سالم العوكلي منذ أيام نشر قصيدة قديمة له على حسابه في فيسبوك بعد أن "تبدى له البحر مرة كوحش يبتلع الجثث":
كل صباح
أحدق في البحر من نافذتي الواسعة
فأرى وحشا يتجشأ فوق الصخر
يسيل بين أنيابه البيضاء لعابٌ مالح
وفي جوفه تتراكم الجثث؛
جثثَ من حلموا متأخراً
ببيت
وشرفة ونافذة
تطل على البحر من الضفة الأخرى
وكما هذه النبوءات المطلة من فم القصائد، تكون هذه الأخيرة أكثر من ذلك في نص للشاعر جمعة عبد العليم:
القصائد مهاميز
الأحداث العظيمة..
نجوس بها
مواطن الهلع
ونحتسبها قربة
للذين غادروا
القصائد لغة الصمت
التي تغلب عبث الكلام
والعصافير التي نطيرها
صوب المواطن الخالية..
بنوك الآلام
نودع فيها
الأحجام الكبيرة
تلك التي تضيق بها
بيوت القلوب الضيقة..
القصائد رفيقات الألم
والهواء الأخير
الذي يخرج
على هيئة فقاعات
من الأفواه المفزوعة
بينما هي تغرق..
الشاعر والقاص جمعة الفاخري أيضاً، جعله ما حدث في درنة يريد أن يصنع حزناً يليق بالألم، "أريد أن أعتق حزني.. أريده حزناً لا يترجَم إلا بالحزن، ولا يُفهَم إلا حزناً ووجعاً وألماً"، يقول:
كيف احتملتِ فظاعة الإعصارِ
يا ربة الإنشاد والأشعارِ؟
لما اشتهاك الماءُ كنتِ طفلةً
حسناء تغفو في رحاب الدارِ
وتمد قلبا للسماء لعلها
تهدي إليها ناعم الأمطارِ
غدرت بكِ الأنواءُ يا حسناءها
والماء خان سليلةَ النُّوّارِ
سُلِّمتِ للموت الكَفور ضحيةً
والليلُ لفَّ حبيبةَ الأنوارِ
باللهِ كيف تذوبُ أجمل ضِحكةٍ
وتغيبُ أرواحٌ مع التيارِ؟
الشاعر الذي فقد أقاربه
إن ما حدث في الجبل الأخضر ودرنة تحديداً تسرب إلى كل مكان في ليبيا مع الأخبار ومع الصور ومع شعور الحزن الذي اتسع ليغطي بلاداً بأسرها، ومهما كان الكاتب بعيداً عن الحدث جغرافيا فإن المكانة الوجدانية لدرنة جعلته يقول ويكتب كلاماً لها دون سواها، يقول الشاعر علي المنصوري الذي فقد عدداً من أقاربه في فيضان درنة:
لم
يعد في المدينة ما يطرب
شوارعها
المزدحمة بالقصص
والضحكات
فارغة
حتى إشعار آخر
مزمارها العتيق
تلعثم
في ألحانه الشجية
حتى
مطرها الخفيف
صار لحنه
بداية للموت
بحرها الوحيد
ما بين موجة والأخرى
يلفظ
قصيدة يتنفس
أصحابها
تحت الماء.
درنة هي المدينة التي راقبناها من بعيد بقلب مكسور وهي تستسلم للرايات السود قبل أن تمزقها وتعود بنا إلى حقول الياسمين النابضة بالحياة، منذ ذلك الوقت لم نكف عن النظر إليها بعيون ملؤها الفخر والحب
هكذا هو الحزن العظيم، قد تصفه الكلمات لكنها قد تتراصف لتكتشف قصر قامتها أمام امتداده في كل الاتجاهات، قال الشاعر عصام الفرجاني:
هل خانك الشعرُ إذ راودته فأبى
أم خِلتَ كل الذي أبصرته كذِبا
أم أن خطبك أعيا كلَّ قافيةٍ
إن سُقتَ حرفا محاه الدمعُ منسكبا
يا درنةَ اليَمِّ، يا عذراءُ، يا وجعي
يا قِبلةَ الموت مكشوفا ومنتقبا
يا صرخة الروح لم تظفر بها شفتي
غصَّ الفؤاد بها فالتعاعَ منتحِبا
يا درنةَ اليمِّ، قولي واعذري لهفي
صِفي ليَ الموتَ، قالوا من هنا ذهبا
يا أيها الجبل المخذولُ دُم جبلا
برغم جرحك قف واستقبل الشُّهُبا
درنة... تنويع على الموت
ومن طرابلس البعيدة جغرافيا والتي تكون الأقرب دائماً تلبي نداء أمومتها، كتبت الشاعرة أمينة بن منصور:
غرق
للغيمة العابرة لا تصل يد الغريق
في جوف البحر ترتطم أغنيته الأخيرة
يطلقها كأنها وصية
بحضور النهاية التي لا تقبل الأخطاء
مثل كل اللحظات المبهمة
الموت ينتصر من جديد
بينما الحياة تنظر واقفة
ولا تستطيع..
الموت ينتصر في كل مرة بعد أن يصفع وجه الحياة ويدميه ويُبقي أثره ألماً لا يزول، وفي درنة المدينة التي كانت تقف احتراماً لجنائز موتاها تزاحمت أعداد الراحلين فلم يقو أحد على الوقوف لأن الحمل كان ثقيلاً على أرواح ضلّ الصبر طريقه إليها، وترنح الناجون تحت وطأة شعور لا يرحم بالألم والوحدة، كتب الشاعر جمعة الموفق:
لو أنهم رأوك
كيف كنت
تلوح للأحبة وأنت تمسك برجل كرسي عالق
يجرفهم سيل العرم
كيف استطعت أن تنظر إليهم
أن تمد يدا في الماء الغاضب
كيف سألت الله
أن يرسل في طريقهم سبل النجاة
الجثة التي صدمتك في غفلة
كانت لطفلة
أخذها السيل مثل هدية للبحر الهائج
تشبثت
أصابعك كأنها من حديد
نجوت
وأخجلك أن تنجو
فيما غادرت قوافل الأحبة
يقودها موت كبير وغاشم.
كم من نبوءة شاعر تحققت، كما حدث مع "مصطفى الطرابلسي" الشاعر الذي أغرقه فيضان وادي درنة قبل أن يغرق في عشقه لمدينته التي قال فيها الغزل
رسم كل منا صورة للموت الذي نزل من السماء قطعاناً من الغيلان لم يصمد أمام جبروتها شيء وهي في طريقها إلى البحر، وما خفي أكثر هولاً ورعباً، كتب فارس سالم برطوع:
وحدكم
أيها البسطاء تتجرعون مرارة الفقد
بصبر العارفين
وحدكم رحلتم شهداء شهامتكم
وأنتم تنقذون الجيران
وحدكم تطحنون الألم في طوابير المصارف وتقفون
بخجل من عفافكم أمام صناديق الإغاثة
وحدكم بلا بيوت ولا أقارب في السلطة
تطبق على ضعفكم الأوامر
وحدكم تختارون غربة بلا حقائب
وأنتم تحاولون استيعاب زحام الأيدي
التي لا تلقي عليكم التحية
المطلة من السيارات بكاميرات الموبايل
القادمة لتوثيق رحلة سياحية حول وجعكم
والعيون التي تحدق بكم باستغراب
كأنكم زومبي أو كائنات فضائية
وأنا ورقة جردها الخريف من كل شيء
تأخذني رياح الحنين
إلى حافة "باطن بو منصور"
لأراقب غربتي.
وأي غربة سيعيشها من فقد كل شيء، البيت والأهل، والذكريات التي اجتثها الماء من جذورها العميقة في الروح، ولمن سينساب الغزل شفيفاً بعد أن كان لدرنة وحدها، التي قال عنها ابنها أحمد بللو:
لو كان في عمري عمر يكفيك
ويبعد السَّو عليك
يمسح غمامات الكدر عن شمسك
وينطق بعد تكميمته صوتك
ويعلي همسك
يمطر زها في دروبك
ويجري سواقي في شجر واديك
ويفوح نعناع وحبق في اجنانك
وتمشي المحبة في الزناقي رايقة
ويطير الحمام من ضحكتك ويجيك
نعطيك كل العمر ونوفّيك
راكي درنة
ويا درنة شوي عليك.
في كتابه "حول الموت والحياة" يقول المفكر فرنسوا شنغ ما معناه أننا "لا نعلم إلا القليل عن غموض الحياة وأسرارها، وفي البشرية تتمثل جميع التطلعات المكبوتة والرغبات التي لم تتحقق، وهي تحفر أخاديدها في النفوس التي تقف عاجزة عن ردمها. إن حقيقتنا ليست في المقابر أو الأرض التي تعود إليها أجسادنا الآدمية، بل في أمواج التغييرات والتحولات التي تصنع إلى ما لا نهاية رؤى جديدة".
السيل جرف الكثير هذه المرة، لكن المدينة التي صمدت في وجه الموت دائماً ستظل جنة الوادي ونغمة المزمار ورائحة الياسمين وطعم النعناع في شاهي العشية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم