مي التلمساني روائية وناقدة مصرية كندية عُرفت منذ روايتها الأولى "دنيا زاد" في تسعينيات القرن الماضي، التي تُرجمت إلى العديد من اللغات، منها الفرنسية والإنكليزية، وتحصلت بها على جائزة الدولة التشجيعية سنة 2002. غادرت مصر نحو مونتريال لإكمال دراساتها العليا، ومن جامعة مونتريال تحصلت على الدكتوراه حول الحارة في السينما المصرية، ثم التحقت بالتدريس في الجامعات الكندية وتحصلت على العديد من الجوائز وآخرها وسام فارس من فرنسا. تشتغل في تدريس السينما العالمية في جامعة أوتاوا، وتدير ورشات كتابة في النقد والسينما.
أسست دار التلمساني ببيت التلمساني في مصر، الذي تحول إلى مقر للكتابة الإبداعية ومحترف لإقامة ورشات الكتابة. صدر لها في الرواية: "دنيا زاد" و"هليوبوليس" و"أكابيلا". وفي القصة القصيرة: "نحت متكرر" و"خيانات ذهنية" و"عين سحرية"، وفي فن اليوميات "للجنّة سور"، كما صدرت لها بحوث كثيرة في السينما.
حول تجربتها الأدبية وتعالق الفنون في تجربتها وعالم الكتابة العربية في كندا، يدور هذا اللقاء.
الكتابة والفنون
ـ لنتحدث عن بدايات الوصول إلى كندا. ما الذي دفعك وأنت ذات التكوين الفرنسي لاختيار كندا على فرنسا مثلاً؟
كنت قد أنهيت كتابة الماجستير في مصر في الأدب الفرنسي، باستلهام نظريات جيرار جونيت عن أشكال العبور بين النصوص، أو ما يُسمّى بالـ"ترانستكستواليتي"، وتقدمت لمنحة دكتوراه في كندا التي توقعت أن تكون أكثر ملاءمةً لتربية الولدين ولاستقرار أسرتي الصغيرة. عشت في فرنسا ما يقرب من عام في أثناء الماجستير، وعانيت من أشكال متنوعة من الاضطهاد العرقي والثقافي، ولم أشأ أن ينشأ ولداي في هذا المناخ المعادي للعرب.
"أتصور أني التزمت على مستوى بنية الرواية بإيقاع المتتالية الموسيقية وعلى شكل التنويعات على لحن. المتتالية تسمح بحرية الانتقال بين فصول الرواية، والتنويعات تسمح بالعمل على ثيمات محددة، منها الصداقة بين امرأتين، وكيف تتطور وتندثر"
وصلت إلى كندا عام 1998، وأقمت في مونتريال حيث درست الفرنسية لنيل الدكتوراه من جامعة مونتريال. لاحظت أشكالاً مماثلةً من العداء ضد العرب في مقاطعة كيبك، فقررت الهجرة داخلياً نحو مقاطعة أونتاريو حيث أعمل حالياً في جامعة أوتاوا.
ـ "الحارة في السينما المصرية (1939ـ2001)"؛ هذا عنوان الأطروحة التي أنجزتها بالفرنسية في جامعة مونتريال. ما الذي انتهت إليه أبحاثك والتي ما زلت مؤمنةً بها إلى الآن؟
الدكتوراه كانت ولم تزل متّكأً لنقد الخطاب القومي والأيديولوجيات الداعمة له. تصوير الحارة في السينما المصرية مع التركيز على شخصيات نمطية مثل ابن البلد والأفندي والفتوة، يرسخ لمبدأ الإقصاء الثقافي، والاستقطاب القائم على عنصرية الطبقية، ويلفظ خارج إطار ما يسمى بـ"المصري الأصيل"، شرائح عريضةً من الشعب لا تُعدّ من "أبناء البلد" وفقاً لتلك المنظومة الشعبوية. أعدّ نفسي واحدةً من هؤلاء الذين تم إقصاؤهم من الخطاب القومي، وسعيت في الدكتوراه إلى فهم الدور الذي لعبته السينما في ترسيخ هذا الخطاب على مدار تاريخها.
ـ لا يمكن الحديث عن الحارة المصرية دون الحديث عن نجيب محفوظ. يتحدث البعض اليوم عن ورثة حارة نجيب محفوظ من الكتّاب الجدد في الكتابة والسينما. هل تغيّرت صورة الحارة المصرية اليوم في الفن والأدب؟ وهل استطاعت أن تتخلص من إرث محفوظ؟
هو إرث ثقيل ويصعب التخلص منه تماماً. سيظل نجيب محفوظ كاتباً عملاقاً بمقياس الفن، لكني أختلف معه من منظور فكري في كثير من القضايا، خاصةً قضية الهوية القومية. الحارة في السينما ظلت تُقدَّم بشكل نمطي في السينما المصرية حتى ظهر جيل الواقعية الجديدة. استلهم عاطف الطيب، أفلام صلاح أبو سيف ونجيب محفوظ، لكن خيري بشارة خرج من عباءة محفوظ في أفلام عظيمة مثل "يوم مر يوم حلو"، وداوود عبد السيد فعل الشيء نفسه في "الكيت كات"، حيث التفتا إلى الحارة على أطراف المدينة في أحياء شبرا وإمبابة، أي بعيداً عن الحارة الفاطمية بإرثها المحفوظي الثقيل.
ـ تتسم كتابتك بما يسمّيه النقّاد بالكتابة المشهدية. ما الذي يدفعك إلى هذا الاختيار الجمالي؟ هل هو الشغف بالسينما وانت ابنة المخرج المؤسس للسينما التسجيلية، عبد القادر التلمساني؟ هل هو التكوين الأكاديمي أو هو اختيار فني متعلق بتراث قراءاتك الأدبية؟
بلا شك هناك تجليات للإرث العائلي في ما أكتب، خاصةً أني أدّعي أن كتابتي بها قدر من الاحتفاء بالسيرة الذاتية. فأنا ابنة أسرة فنية عدّت الفن رسالةً، وإن كنت أختلف عن أسرتي وعن أبي في ما يخص الاهتمام برسالة السينما التسجيلية التعليمية. لا أظن أن رسالة الفن هي التربية ولا تغيير الوعي بشكل مباشر، ولا أعتقد أن للفن رسالةً تنفصل عنه ويسهل تعيينها. التكوين الأكاديمي ساهم في تطور وعيي بحقائق الفن بعيداً عن النمط الملتزم، بل وضده أحياناً، وجعلني أثمّن الحرية المطلقة في الكتابة. المشهدية تأتي في هذا الإطار لتدعم مشروع التجاوز الذي أتبنّاه منذ البداية، تجاوز محددات النوع والثقافة والجغرافيا، تجاوز كل ما من شأنه أن يكبّل الخيال ويحدّ من انطلاقه، مثل الهوية القومية والسرديات الكبرى.
ـ في مجموعتك "عين سحرية"، تذهبين في كتابة تجريبية إلى استنطاق السينما والارتكاز عليها كمرجع لكتابة القصص. أي أن التخييل السينمائي يصبح نفسه مرجعاً وعتبةً لإنتاج التخييل القصصي، في الوقت الذي تعوّدنا فيه الانطلاق من الواقع المحسوس لكتابة التخييل. فهل السينما صارت واقعةً أو واقعاً، واقعة ثقافية لننطلق منها بصفتها مشتركاً ما؟ هل السينما لها هذه القدرة على التغلغل في ذاكرة المجتمع لكي يتعامل معها القاصّ بصفتها معرفةً بديهيةً أم هو التجريب وجنونه؟
أعدّ السينما ومرجعياتها البصرية والسردية مصدراً أصيلاً من مصادر التخييل الأدبي، مثلها مثل الفنون البصرية والموسيقى. تحفظ ذاكرتي مشاهد كاملةً وطرائق في الحكي تعلّمتها من أفلام سينما الأبيض والأسود، من مصر والعالم، وتُعدّ مصدراً لا غنى عنه في نصوصي الأدبية. المعرفة بأصول السينما وإشكالياتها الخاصة تتيح الحكي بشكل مغاير للسائد أو المتوقع. في بعض قصص "عين سحرية" أردت أن أخلط بين واقع الممثل في أثناء التصوير وواقع المشاهد في أثناء الفرجة، وقد مضت على صنع الفيلم عقود.
ما وراء الكواليس في اعتقادي مرتع كبير للخيال والتجريب. تبدو سماء الفن أكثر رحابةً عندئذ، حين نأخذ في الاعتبار عملية التصوير وليس فقط الفيلم كمنتج نهائي. تنشأ عن تلك المراوحة بين واقع الصورة السينمائية وواقع التصوير، حركة هي عكس الزمن وعكس المتوقع في الحكي أيضاً. كما تنشأ عنها حركة أخرى هدفها "كتابة تاريخ النظر"، بما يتضمنه هذا التاريخ المفترض من سياقات اجتماعية وسياسية مسكوت عنها، أو مهمشة.
ـ في مجموعتك القصصية "عين سحرية"، كأنما نحن أمام لعب بالمعرفة، المعارف السينمائية، هل هو انتقام المبدعة مي من الأكاديمية مي التي أبعدها البحث عن عالمها الإبداعي سنوات، فحولت المبدعة مكتسبات الأكاديمية إلى ألهية ومادة لإبداعها؟
كنت أتمنى أن أكتب سيناريو للسينما، ولم أفلح سوى مرة واحدة، حين كتبت سيناريو "تصريح بالغياب" المأخوذ عن رواية منتصر القفاش، والذي ظل حبيس الأدراج لعدم توافر فرصة للإنتاج. لكني أدركت منذ زمن أن الوحدة والعزلة في أثناء الكتابة أهم، وأجدى بالنسبة لي من محاولة "صنع" فيلم يتدخل في صناعته عشرات الأفراد. لكنك محق في تحليلك للحظة كتابة قصص المجموعة. فعلياً كنت أعاني من العجز عن الكتابة الإبداعية، وران صمت غريب على موقع الكتابة من حياتي اليومية استمر لمدة ثماني سنوات. كنت في أثنائها منغمسةً في كتابة الدكتوراه. ثم حين أتيحت الفرصة، وجدت أن موضوعات الدراسة قد تسللت إلى الكتابة الإبداعية وأثرتها.
ـ تنعكس فنون أخرى في كتاباتك مثل الفن التشكيلي، وأنت مهتمة به وبمدارسه ولذلك علاقة بسيرة العائلة أيضاً. ما الذي يضيفه حسب رأيك الوعي التشكيلي وفنون الرسم للروائي من خلال تجربتك السردية؟
أتصور أن التشكيل بمعناه الحرفي أمر لا غنى عنه للكتابة الأدبية. تكوين الكادر، التناسب والتجانس بين عناصره وألوانه، ملمس اللوحة وحسيتها، تعقيد الألوان وسخاؤها، لحظة التأمل الممتدة في الزمن التي يفرضها علينا الفن التشكيلي، كل هذا يتسلل إلى الكتابة ويثريها. في تجربتي هناك إشارات للفن دائماً، وللموسيقى، فهما مثلهما مثل السينما، من مصادر المعرفة والعاطفة في كل ما أكتب. الكتابة تستقي من تلك الفنون أدوات للتعبير، وموضوعات أيضاً. في روايتي "أكابيللا"، الشخصية الرئيسية فنانة تشكيلية غير متحققة، تموت في عمر الشباب وفي نفسها شيء من الفن لم تستطع تحقيقه. هنا تصبح روح الفن وجدلية التحقق، إشكاليات الفراغ والامتلاء، من العناصر التي بنيت عليها الشخصية فمنحتها فرادتها.
ـ يقول الروائي التشيكي ميلان كونديرا: أتمنى أن أصل إلى لحظة أكتب فيها روايةً كقطعة موسيقية. كان مهووساً بفكرة التلاشي التدريجي. في روايتك "أكابيبلا" توظفين هذا النوع من الفن. حدّثينا عن هذا الاختيار الفني وكيف وقع توظيفه؟
أتصور أني التزمت على مستوى بنية الرواية بإيقاع المتتالية الموسيقية وعلى شكل التنويعات على لحن. المتتالية تسمح بحرية الانتقال بين فصول الرواية، والتنويعات تسمح بالعمل على ثيمات محددة، منها الصداقة بين امرأتين، وكيف تتطور وتندثر. هذا الاختيار الفني لم يكن واعياً بالضرورة منذ بداية العمل على الرواية، لكنه اتضح بعد قليل في أثناء الكتابة ودعمته بإشارات للأوبرا مثلاً أو لأغنيات البيتلز. تلك الإشارات تسمح بوضع الموسيقى موضع الصدارة في السرد، حيث تجمع الأوبرا بين فن الحكي وفن الشعر وفن الموسيقى وفن الرقص أحياناً، وتستعين بهذا كله لخلق شخصيات مفاهيمية أيضاً، مثل شخصية توسكا في المسرحية، أو شخصية ماريا كالاس وفريق البيتلز في الواقع.
أؤمن بالكتابة بالقفز والوثب
ـ النزوع نحو الأوتوبيوغرافيا منذ بدايتك ومنذ الرواية الأولى "دنيا زاد"، يسمّيه النقاد بالتخييل الذاتي، في "دنيا زاد" تنطلقين في التخييل من حادثة فقدانك ابنتك، في "الكل يقول أحبك" توظفين التجربة الكندية، مع "هليوبوليس" هناك استفادة من الحي الذي عشت فيه، وفي "عين سحرية" استفادة أو رجوع إلى رواية "هليوبوليس" نفسها. كيف تقرأ مي التلمساني هذا التمركز القوي للذات في كتابتها؟ هل لهذا علاقة بالنشأة وبالتربية أو بالتجربة الحياتية؟
أتصور أن للنشأة والتربية علاقةً مباشرةً بالرغبة في حكي الذات، خاصةً في المجتمعات البطريركية التي تسعى إلى قمع صوت المرأة الخاص، بما في ذلك في المجتمع الأدبي ذاته. طالما ووجهت تلك الكتابة باستعلاء النقاد والصحافيين والقراء، ذكوراً وإناثاً، بوصفها كتابةً بلا قيمة فعلية حيث أنها تنطلق من حكي الذات ولا تعتمد على الخيال الذي تعودنا عليه مع كبار الكتاب من الذكور في مجتمعاتنا، خاصةً في مجال الأدب الملتزم. ما أردت أن أثبته بتلك الكتابة، والتي احتفى بها الكثيرون أيضاً بلا شك، هو أن ثمة قضايا جماليةً تستحق أن ندافع عنها، منها قضايا التجريب وتعدد الأصوات وتداخل الأنواع والفنون، وكذا هناك قضايا نسوية تتصدر الكتابات التي تنطلق من التخييل الذاتي، مثل الأمومة، والجنس، والصداقة بين النساء، والحب عن بعد... إلخ. على الرغم من ذلك لا أدعي الحديث باسم أحد، ولست نسويةً أيديولوجياً. تلك الذات المتعددة لا تستقرّ ولا تقبل السجن في قوالب سابقة. وهي من أسعى إلى فهمه من خلال الكتابة لا عن ذاتي فقط لكن عن ذوات أخرى التقيتها وتأثرت بحكاياتها.
ـ هل يمكن أن تُقدِم مي التلمساني يوماً على كتابة سيرتها الذاتية بعيداً عن أقنعة التخييل خاصةً أنك مارست فنّاً قريباً هو المذكرات واليوميات؟
أعتقد أني أمارس تلك الكتابة اليومية بشكل غير مباشر عبر الحوار. لقد أدليت على مدار ما يقرب من ثلاثين عاماً في عالم الكتابة، بنحو مئة حوار أو يزيد، تمثّل بشكل ما نوعاً من المذكرات. ولدي حالياً مشروعاً لنشر يومياتي في جزأين، الجزء الأول نُشر منذ سنوات بعنوان "للجنّة سور"، والجزء الثاني لم يسبق نشره. أما كتابة سيرة ذاتية مكتملة كما فعل سارتر مثلاً، فلا تهمني كثيراً. يبدو وكأنه فعل خانق لحرية الخيال. أتصور في المقابل أني سأستمر في "الكتابة بالقفز والوثب"، كما يقول كيليطو، بين الذاتي والتخييلي.
ـ يتحدث النقد الآن عن أن المستقبل لفن اليوميات بانفتاحه على بقية الفنون مثل السينما والرسم وحتى المسرح وخروجه بذكاء ونجاح من أسر التدوين والكتابة وانفتاحه على كل أشكال التعبير: شعر رواية وسيرة. جرّبت اليوميات ووظفتها أيضاً في روايتك "أكابيللا"، حدّثينا عن موقع هذا الفن في عالم مي التلمساني.
كتابة اليوميات فعل حر، ينطلق من التفكير في الجزئيات إلى التفكير في الكليات، والعكس بالعكس. وهي فعل تراكمي، يتخذ معناه الأكبر بالمسافة، وبالمراجعة، وإعادة تنظيم الأفكار. وهو بناء منفتح على كافة الأنواع، بما في ذلك الأنواع الهامشية مثل أدب الاعتراف، والمذكرات. اليوميات المنشورة تسمح للقارئ أيضاً بحرية أكبر، خاصةً لو شاء المؤلف أن يضع جانباً فكرة التتابع الزمني وتحرر من أسر التأريخ. ولأنه نوع أدبي مفتوح وحر، فقد وظفته في "أكابيللا" على مستويين: الأول حين تكتب عايدة يومياتها للبوح أو للانتقام، على أمل أن يعثر عليها أصدقاؤها بعد وفاتها، والثاني حين تعيد صديقتها ماهي، كتابة اليوميات فتبرز الجانب الأدبي فيها على الجانب الشخصي وتضيف وتعدل وفق هواها كقارئة لليوميات. الوظيفتان في رأيي تتكاملان؛ وظيفة الشهادة على واقع ووظيفة التأويل.
ـ يبدو أنك تنتهجين إستراتيجيةً في النشر تبدو كما لو أنها تناوب بين القصة القصيرة والرواية، مع أن مجدك الأدبي ارتبط بالرواية لكنك ترتبطين بفن القصة القصيرة وكأنك بهذه الإستراتيجية تحمينه من الضياع.
الرواية التي أكتبها هي في الواقع مجموعة قصص قصيرة ذات سياق واحد وشخصيات متكررة. هو مبدأ الكتابة بالقفز والوثب الذي أشرت إليه قبل ذلك. يقول عبد السلام بنعبد العالي، في كتابه بالعنوان نفسه، إن التكثيف والحال هذه يحل محل الاسترسال، وهو مؤشر على الرغبة في انفتاح النص وسهولة الخروج منه والدخول إليه، تماماً كما يصف دولوز وغواتاري الرواية عند كافكا. لم أكفّ عن كتابة قصة قصيرة، لكنها تنتظم أحياناً على هيئة رواية أو تنفرط على هيئة مجموعة قصصية. والنشر بالتناوب يسمح بالتقاط الأنفاس بين كل كتاب وما يليه.
ـ في ظل اهتمام كبير بالقصّ القصير في الغرب، ما زال، عربياً، يبحث عن سبيل لاستعادة ذاته. كيف يمكن أن نفهم هذا حسب رأيك؟ لماذا القارئ العربي فجأةً لم يعد معنياً بالقصة القصيرة التي كانت أساس الأدب العربي منذ محمود تيمور إلى يوسف الشاروني؟
أتصور أننا عربياً احتفينا بالرواية على حساب القصة القصيرة في العقود الثلاثة الماضية، مواكبةً لاحتفاء دور النشر بهذا النوع على حساب القصة والشعر والمسرح. نموذج النجاح الذي حظيت به روايات نجيب محفوظ في السينما وكيف أثّرت الأفلام على شعبيته كروائي، ربما كان لها أثر في ترسيخ تلك الفكرة. لكني أنتمي إلى كتابات الستينيات القصيرة، عند إبراهيم أصلان ومحمد البساطي وبهاء طاهر، وأحتفي بتلك الكتابة النوعية بلغتها المقتصدة وعوالمها المتأرجحة بين تتبع الواقع اليومي لشرائح منسية في الريف والمدن الصغيرة ووسط القاهرة، وبين تأمل المفارقات التي تؤسس لخصوصية هذا الواقع من ناحية أخرى. لقد احتفى القارئ بالرواية القصيرة وبالقصة القصيرة أيضاً كما حدث في كتابات هؤلاء العظماء، وما زال هذا القارئ النوعي بيننا، يحتفي بالكتابة الجيدة مهما كان نوعها، ومهما أغفلتها الجوائز والميديا ودور النشر في غمرة التفكير في حسابات المكسب والخسارة.
العرب في كندا ما زالوا غرباء وسط غرباء
في روايتك "الكل يقول أحبك"، تنفتحين على هموم الإنسان العربي عندما تفتحين جروحه عبر الهويات الشريدة، المغتربين، اللاجئين، المهاجرين... تقومين بكل هذا التحليل في لحظة سياسية صعبة عنوانها "نهاية الربيع العربي". هل بعد أن وحّد الحلم بالحرية الشعوب العربية، وحّدتها الآن الخيبة؟
لا أتصور أن الربيع العربي قد انتهى. نحمل الخيبات بلا شك، مثل سيزيف، ونحاول أن نصعد الجبل برغم كل شيء. حلم التغيير والخيبات المتكررة يوحدان الشعوب، كما توحدها اللغة والتاريخ المشترك والخوف من الاختفاء التدريجي الذي أسست له الديكتاتوريات العربية منذ عصور الاستقلال الوطني وحتى اليوم. أؤمن بأن الثقافة تنتصر دوماً على السياسة، نحن ننسى رؤساء ووزراء وأمراء وملوكاً حكموا عبر التاريخ ونتذكر كتّاباً وفنانين تركوا على التاريخ بصمات لا تُمحى. أسأل نفسي الآن ونحن نتحدث عن مارسيل بروست: ترى ما اسم الرئيس الفرنسي في تلك الفترة؟ وأجد نفسي عاجزةً عن التذكر.
"الديكتاتوريات العربية شوّهت الكثيرين. يهربون من القمع في الداخل ويمارسونه في الخارج كلما سنحت الفرصة".
ألتفت قبل كل شيء إلى تغيّر ثقافة الشعوب العربية بعد الربيع العربي، وأرى الأمل في انفتاح الناس العاديين على التفكير في الشأن العام، وعلى المطالبة بالحق، والسعي إلى إحداث تغيير ولو على المستوى الشخصي. ثورة منصات التواصل الاجتماعي المواكبة والداعمة لحركات التحرر بشكل غير مباشر مستمرة، وكذا ثورة المعلومات، الأمر الذي أدى إلى إفشال الرقابة على الحريات. الرواية تستعرض تلك التغيّرات قبل الربيع العربي وبعده، وتدين إرهاب الدولة ضد مواطنيها ودفعهم قسراً نحو الهجرة. الديكتاتور يسجن، والأفكار تحلق رغماً عنه وعن سجنه، كما أن الهجرة حل بالنسبة للبعض، خاصةً حين تكون طلباً للحرية.
ـ تمثل تيمة العنف تيمةً مركزيةً في روايتك الأخيرة: نفسي، سياسي، ذاكرة، طبيعة قاسية، تروما المجازر، أيديولوجيات عنيفة... هل تصالحنا اليوم مع العنف وصار جزءاً من يومنا وتقبلناه؟
بالطبع الإنسان العادي أصبح أكثر تسامحاً مع العنف عما كان عليه في عصر ما قبل التلفزيون. نفقد جزءاً من إنسانيتنا بالتصالح مع صور العنف التي تروج لها الميديا. وكلما تقدمت وتطورت تكنولوجيا الاتصالات كلما زادت مساحة الاعتياد والتصالح مع العنف، حتى أن البعض يستخدم منصات التواصل الاجتماعي لممارسة قهر الفكر والحريات، والتحرش اللفظي، وانتهاج سياسات النبذ والفضح والترهيب. في الرواية، هناك اهتمام برصد إرهاصات وباء الكوفيد وأثرها على حياة الشخصيات. ثمة جيل عالمي جديد شكله الخوف من الموت الجماعي، الخوف من الفيروس المجهول واحتمالات إبادة الجنس البشري، والسخط على سياسات اليأس التي انتهجتها بعض الدول لإخضاع الشعوب. قد يكون هذا الجيل أكثر انفتاحاً على سياسات الأمل التي تلفظ العنف وتسعى إلى تأسيس إنسانية جديدة.
ـ تقيمين في كندا منذ كنت طالبةً. هل تشعرين بأنها أثّرت في مخيالك ورؤيتك للكون وللذات وللأدب والفن بشكل عام؟ حدثينا عن أثر كندا على مي الإنسانة والمبدعة.
هناك تجربة الهجرة في ذاتها، والتي سبقتها هجرة داخلية من قلب مصر، حيث كنت أشعر في أحيان كثيرة بعزلة مفاهيمية وروحية نتيجة رغبتي في التمرد على المجتمع الذكوري والقمعي المحيط. الهجرة بعيداً عن موطن الطفولة أكثر ما كان يشقّ على نفسي في البداية، خاصةً أني كنت أنوي العودة بعد الانتهاء من رسالة الدكتوراه. لكن فرصة تعميق المعرفة بالمجتمعات العربية هنا، وبالمجتمع الكندي وتاريخه الحديث، كانت فرصةً ذهبيةً لاصطياد حكايات جديدة، وانفتاح الخيال على تعقيدات لم أكن أعيها قبل الهجرة، مثل إشكالية الترحال والاغتراب من ناحية، واستحالة العثور على تلك الجنّة المفقودة هنا أو هناك، حيث يتشابه الإنسان عامةً في سقوطه المروع وفي تدهوره الإنساني والأخلاقي هنا وهناك. تلك المراوحة هي أهم اكتشافات الهجرة بالنسبة لي، هنا وهناك للجنّة أسوار.
ـ يعيش الأدب العربي المكتوب بالعربية في كندا واقعاً صعباً، فيكاد يكون مجهولاً بالنسبة للكنديين. ما الذي لم تفعله النخبة العربية في كندا حسب رأيك عبر عقود تواجدها في هذه الأرض؟ لماذا لا يعرف الكنديون إلا الذين كتبوا بالإنكليزية وبعض الذين كتبوا بالفرنسية من المهاجرين العرب؟
على عكس أوروبا، تتشكل الجاليات العربية هنا من أصحاب المهن والحرف وقلة قليلة من المعنيين بالشأن الثقافي. وعلى صعيد آخر، تساهم سياسات التعدد الثقافي التي تتبناها كندا في تأكيد الغيتو. كل مجموعة وفقاً للهوية القومية، وهكذا تنغلق الجاليات على أصولها اللبنانية أو السورية أو المصرية أو المغاربية، ويتشرذم العمل العربي العام في جاليات الشتات أو ينخرط في سياق السائد باللغتين الإنكليزية والفرنسية نائياً عن جذوره العربية عن عمد.
أما الكتّاب الذين يكتبون باللغة العربية فعددهم كبير، ولكن ظهورهم الإعلامي يكاد يكون منعدماً. يصارعون من أجل البقاء ويحاولون التواصل مع أبناء الجاليات العربية المختلفة دون نجاح كبير، إلا في إطار فاعليات محدودة يشارك فيها ويحضرها عدد محدود من الجمهور. في النهاية الجالية العربية لا تتعدى ثلاثةً في المئة من سكان كندا، تنتشر في ثلاث مقاطعات هي كيبك وأونتاريو وألبيرتا.
ـ تعيش اللغة العربية أوضاعاً صعبةً في كندا عكس بعض اللغات الأوروبية برغم ثقل الجالية العربية هنا. لماذا تعيش العربية هذا المأزق حسب رأيك؟ هل تتحمل الدول العربية وممثلوها من سفارات ومؤسسات ورجال أعمال مسؤولية هذا الوضع الذي يؤثر بالضرورة على كل المشهد الثقافي والمعرفي العربي هنا؟
الصراع على اللغة في كندا أمر مهم، وعادةً ما ينحصر في اللغتين الرسميتين الإنكليزية والفرنسية مع محاولات من قبل السكان الأصليين للاعتراف بلغاتهم وثقافاتهم المتنوعة. هذا الصراع يوازيه صراع على الموارد، حيث تدعم الدولة العمل الثقافي عامةً ونادراً ما نجد جهات خاصةً داعمةً لهذا النشاط. في المقابل، يهتم العرب بلغتهم من خلال وسائط أخرى غير الأدب، مثل الموسيقى والغناء والسينما، وهي الأنشطة التي تجذب أعداداً غفيرةً، عربيةً وغير عربية، إلى مهرجان العالم العربي السنوي في مونتريال. السفارات العربية تتحمل جزءاً من المسؤولية، لأن دعمها يقتصر في أحيان كثيرة على الدعم الديبلوماسي وليست لديها آليات للتمويل إلا في ما ندر.
"أرى أن مساحات الحرية المتاحة لنا كعرب في كندا هائلة، ولدينا فرصة للتأثير على الرأي العام الكندي، لتغيير بعض الصور النمطية المشينة عن العرب، وبناء أشكال من التضامن قد نعجز عنها في أوطاننا"
كما أن المساعي التي تبذلها السفارات لربط الشتات العربي بالأوطان الأم، تواجه بالحذر من قبل الجاليات العربية، لأسباب سياسية لا تخفى على أحد من ناحية، وتحسباً من محاولات تحويل أموال المهاجرين لدعم الأوطان الأم من ناحية أخرى. المشهد الثقافي العربي هنا شديد الثراء بأفراده، ونادراً ما يظهر ككتلة متماسكة تعبّر وتؤسس للثقافة العربية خارج أسوار الجامعة.
ـ تتسع يوماً بعد يوم رقعة الشتات العربي بسبب الحروب الأهلية والديكتاتوريات المتوحشة، هل يمكن أن تشكل هذه الدياسبورا واقعاً عربياً جديداً كما حدث عند قوميات أخرى؟
في كندا تتصاعد جميع الأصوات بلا تناغم وبلا حدود. الكل يمارس حق التعبير بشكل من الأشكال، والصراعات التي نراها على أرض الواقع في الأوطان الأم يتم استيرادها إلى كندا، سواء كانت صراعات دينيةً أو سياسيةً، اجتماعيةً أو اقتصاديةً، على خطوط الطبقة والدين والانتماء السياسي... إلخ. الديكتاتوريات العربية شوّهت الكثيرين. يهربون من القمع في الداخل ويمارسونه في الخارج كلما سنحت الفرصة. لكني أرى أن مساحات الحرية المتاحة لنا كعرب في كندا هائلة، ولدينا فرصة للتأثير على الرأي العام الكندي، لتغيير بعض الصور النمطية المشينة عن العرب، وبناء أشكال من التضامن قد نعجز عنها في أوطاننا. لدينا فرصة للتضامن مع صراع السود والسكان الأصليين ضد العنصرية، ولدينا فرصة للتضامن ككتّاب مع أصدقائنا هنا للمناداة بحق التفكير والتعبير والإفادة من هذا الحق في تقديم كتابة جديدة مغايرة. في النهاية ليس في وسعنا أن نتحدث عن "شتات عربي" إلا لو كان منظّماً، وما عدا ذلك يظل هؤلاء العرب مجرد مهاجرين في غمرة المهاجرين، غرباء وسط غرباء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...