برغم أنّ تجنيد الأطفال في مناطق النزاعات في السودان ليس بالأمر الجديد، إلا أنّ العاصمة الخرطوم لم تشهد هذه الظاهرة حتى اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، في 15 نيسان/ أبريل الماضي. بدأت الظاهرة مع فقدان الدعم السريع آلافاً من مقاتليه في الخرطوم، سواء الذين لقوا حتفهم منهم أو الذين فرّوا من المعسكرات بعد قصفها جميعاً بطائرات سلاح الجو التابع للجيش السوداني، ليلجأ الدعم إلى تجنيد الأطفال لتعويض ذلك النقص الكبير.
حاور رصيف22، ثلاثة أطفال مجنّدين في الدعم السريع، وما يزالون يحملون السلاح في صفوفه، ويشاركون في المعارك التي لا تنقطع ويتمركزون في نقاط التفتيش التي تنتشر في الأحياء السكنية التي يسيطر عليها الدعم.
خطف القُصّر
تتنوع طرائق تجنيد الأطفال في الدعم السريع، ما بين التجنيد القسري والإغراء بالمال والتجنيد على أسس إثنية. تقدّم قصة تجنيد القاصر "ناصر"، مثالاً على التجنيد القسري. بحسب حديثه إلى رصيف22، تعرّض للخطف على يد الدعم السريع، حين كان برفقة أسرته في حافلة متجهة من الخرطوم إلى إحدى الولايات، هرباً من القتال الدائر في العاصمة.
تتنوع طرائق تجنيد الأطفال في الدعم السريع، ما بين التجنيد القسري والإغراء بالمال والتجنيد على أسس إثنية. تقدّم قصة تجنيد القاصر "علي"، مثالاً على التجنيد القسري. ناصر تعرّض للخطف على يد الدعم السريع حين كان برفقة أسرته مغادراً الخرطوم هرباً من القتال الدائر.
يقول ناصر إنّ أفراد الدعم أوقفوا العديد من السيارات، وأجبروا العديد من الأطفال دون الثامنة عشرة على النزول. كان برفقة ناصر 13 طفلاً، تم ترحيلهم إلى معسكر جنوب مدينة الخرطوم، وتلقوا تدريباً عسكرياً مع آخرين لمدة 15 يوماً، تضمن فكّ وتركيب السلاح وإطلاق النار. تعرّض ناصر ورفاقه من القُصّر المختطفين لمعاملة سيئة من أفراد الدعم السريع، الذين قيّدوا عدداً منهم بالسلاسل في المركبات القتالية، لمنعهم من الهروب من معسكرات التدريب.
بعد ذلك تمّ الزجّ بهم في صفوف المقاتلين، وشاركوا في المعارك الدائرة في الخرطوم، ولقي ثمانية أطفال كانوا برفقة ناصر مصرعهم. بعد ذلك نُقل إلى مهمة أخرى، وصار عنصراً في أحد الارتكازات الأمنية التابعة للدعم في حي سكني.
استطاع ناصر التواصل مع أهله الذين انتقلوا إلى منطقة في وسط السودان لطمأنتهم عليه، وذكر لرصيف22، أنّه يفكر جدّياً في الخروج من هذا الكابوس الذي وجد نفسه فيه، فلم يعد يطيق رائحة الدماء ومناظر الجثث.
وكان الجيش السوداني قد أسر 30 قاصراً قاتلوا في صفوف الدعم السريع في منطقة أم درمان خلال الأشهر الماضية، وسلّمهم في منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي، إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي نقلتهم إلى مدينة ود مدني في وسط البلاد.
تجنيد إثني
بخلاف ناصر الذي تعرّض للخطف، انضم "ياسين" البالغ من العمر 17 عاماً، إلى قوات الدعم السريع عن قناعة. يتحدر أحمد من إحدى ولايات إقليم دارفور في غرب السودان، الذي يُعدّ المعقل الرئيس لقوات الدعم السريع، والمورد البشري الأساسي لتلك القوات.
يقول لرصيف22، إنّه جُنّد على يد خاله الذي يعمل في الدعم السريع، إيماناً منه بأنّ الحرب الحالية هي حرب الهامش ضدّ المركز، ونضال ضد الجلابة. والجلابة مصطلح يُطلق على أبناء الشمال النيلي، وهو مسمى اقترن في مناطق دارفور وكردفان بالتجار الشماليين الذين مارسوا تجارة الرقيق ضمن نشاط تجاري أشمل. ومنذ عقود يتبنى ساسة وقادة العمل المسلح في ولايات جنوب السودان وغربه، رؤيةً مفادها أنّ أبناء الشمال النيلي يتحكمون في الدولة السودانية منذ الاستقلال عام 1956، ويهمشون أبناء الولايات.
يؤمن ياسين بالشعارات التي ترفعها قيادات الدعم السريع، ومنها أنّ قضيتهم هي جلب الديمقراطية للشعب السوداني ومحاربة فلول الإخوان المسلمين (الكيزان)، الذين كانوا يشكلون النظام السابق. ويرى أنّ مدينة الخرطوم لا بد أنّ تدين بالولاء لقيادة الدعم السريع؛ لأنّهم بحسب ما يقول هم المسيطرون، وأنّ غرب السودان له الحق في قيادة دولة السودان، على أنّ يكون قائد الدعم محمد حمدان دقلو (حميدتي)، هو الرئيس.
بحسب حديثه إلى رصيف22، شارك أحمد بإرادته في المعارك التي تدور في الخرطوم. يقول إنّه هاجم مع الدعم السريع مقرّ القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية 45 مرةً، وشارك في 15 هجوماً استهدف سلاح المدرعات، وفي 13 هجوماً على سلاح الإشارة، ومرات عدة في الهجمات التي استهدفت كرري.
من أجل المال
أما حالة الطفل الثالث "مبارك"، فمثال على السبب الأكثر شيوعاً في تجنيد القاصرين في الحروب، وهو الحاجة المادية. مبارك عمره ست عشرة سنةً، وهو من مواليد جبال النوبة في جنوب البلاد، وقبيل الحرب كان طالباً في الصف الأول الثانوي. يقول لرصيف22: "البندقية تؤلم كتفي، فأنا أحملها طوال اليوم".
عرض قائد ميداني على مبارك (عمره 17 سنةً)، الالتحاق كجندي في الدعم السريع، مقابل راتب شهري قدره نحو 500 دولار، بالإضافة إلى حصة 30% من المسروقات التي يعاون القائد على نهبها من بيوت المواطنين بعد تصريفها في السوق
كان مبارك يشتغل كعامل "درداقة"، وهي عربة حديد صغيرة، يدفعها شخص واحد، وتُستخدم في نقل البضائع في الأسواق. وعندما اندلعت الحرب جاء قائد ميداني في الدعم السريع إلى مبارك، واتفق معه على نقل حصته من المنهوبات إلى سكنه، ومع استمرار نهب الدعم السريع لمنازل المواطنين، بات مبارك قريباً من القائد وعمل معه لمدة طويلة.
بعد ذلك عرض القائد الميداني عليه الالتحاق كجندي في الدعم السريع، مقابل راتب شهري قدره نحو 500 دولار، بالإضافة إلى حصة 30% من المسروقات التي يعاون القائد على نهبها من بيوت المواطنين بعد تصريفها في السوق.
يقول مبارك إنّه استطاع بهذه الطريقة توفير حياة كريمة لوالدته وشقيقاته. وبرغم إدراكه أنّ ما يفعله خطأ، لكنه يعلل ذلك بأنّه لولا هذا العمل لما استطاع دفع حقّ الإيجار لأسرته التي انتقلت إلى ولاية أخرى بسبب الحرب، في ظل الارتفاع الكبير في أسعار العقارات والسلع في تلك الولايات بسبب النزوح الكبير من الخرطوم.
كانت صحيفة "نيويورك تايمز"، قد نشرت تقريراً حول تجنيد السعودية لآلاف عدة من المقاتلين من إقليم دارفور للقتال في حرب اليمن، التي اندلعت في العام 2015، وبحسب زعم التقرير، تكونت الكتائب السودانية التي تنتمي إلى الدعم السريع من 20 إلى 40% من قُصّر تتراوح أعمارهم بين 14 و16 عاماً.
لماذا يجنّدون الأطفال؟
لا تقتصر الاتهامات بتجنيد القاصرين في القتال على الدعم السريع، فبحسب تقرير أممي صدر عن مكتب الممثل الخاص للأمين العام المعني بالأطفال والصراعات المسلحة، تورط الجيش السوداني والميلشيات الموالية للحكومة ومنها الدعم السريع، والحركات المسلحة المتمردة في دارفور وكردفان، في تجنيد الأطفال للقتال في النزاعات التي شهدتها البلاد. وفي عام 2018، شطب المكتب الأممي المعني بالأطفال والصراعات المسلحة اسم القوات المسلحة السودانية من قائمة تجنيد الأطفال، بينما ظلت قوات الدعم السريع مُدرجةً عليها.
يقول أستاذ العلوم السياسية إبراهيم مساعد، إنّ تجنيد الدعم السريع للقاصرين دليل على أنهم يعانون نقصاً في الكادر البشري الذي يمثل القوة الضاربة. ويضيف لرصيف22، أنّ الدعم يستهدف تجنيد أبناء الأسر الفقيرة مستغلاً حاجتهم المالية. ويشير إلى أنّ "مخاطر تجنيد القُصّر لا تقف على الانتهاكات بحقّ الطفولة، بل تمتد إلى المجتمع، كما في الحادثة التي شهدتها مدينة الأبيض عام 2019، عاصمة ولاية شمال كردفان، حين فتح أحد جنود الدعم السريع النار على تظاهرة لطلاب إحدى المدارس الثانوية، ثم اكتشفت المحكمة لاحقاً أنّه قاصر في السابعة عشرة من العمر".
ويطالب الأكاديمي السوداني بوضع برنامج لإعادة تأهيل الأطفال المنخرطين في الحرب الجارية، بدايةً بمن يقعون في قبضة الجيش، لتأهيلهم للاندماج في المجتمع، بعد علاجهم من التشوهات التي أصابتهم نتيجة مشاركتهم في الحرب، لتجنّب عودتهم مرةً أخرى إلى القتال.
من جانبه، يقول الكاتب والباحث في الشؤون الاجتماعية هضيبي ياسين، إنّ تجنيد قوات الدعم للأطفال يخالف الأعراف الاجتماعية السودانية والقوانين المحلية والدولية. ولفت إلى أنّ قيام قادة الدعم السريع بتجنيد الأطفال يدلّ على افتقار هذه القيادات إلى الوعي، وعدم الاكتراث بتبعات ذلك على الأطفال والمجتمع، حيث يؤدي ذلك إلى ارتفاع نسبة تسرّب الأطفال من التعليم، وارتفاع نسبة الجريمة بينهم، بجانب التكلفة العامة على المجتمع جراء وجود أجيال صغيرة السنّ تعتاد العنف بسبب نشأتها في بيئات الصراعات المسلحة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...