تاريخياً، يُرجع كثيرون من المراقبين ظهور الميليشيات القبلية في السودان إلى الفترة الانتقالية التي أعقبت سقوط الرئيس جعفر النميري في العام 1985، وتشكيل حكومة انتقالية برئاسة المشير عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب، إذ يُنسب إليها البدء بتسليح بعض القبائل ذات الأصول العربية في إقليم كردفان لمعاونة الحكومة الانتقالية في حربها مع تمرد جنوب السودان، وامتد الأمر إلى حكومة الصادق المهدي المنتخبة، بحيث أصبحت هذه الميليشيات تقدّم مساندةً فعالةً للقوات المسلحة في حربها ضد جيش الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب، خاصةً في مناطق بحر الغزال وأعالي النيل المتاخمة لدارفور.
نشأة قوات الدعم السريع وتطور دورها
انبثقت قوات الدعم السريع من ميليشيا الجنجويد المسلحة، وذاع صيت المصطلح كاختصار لتعريف أفراد القوة وتشبيههم بـالـ"جنّ الذي يمتطي جواداً"، بعدما اتُهمت لاحقاً "بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، والتطهير العرقي"، وبعدما شاركت مطلع الألفية في الصراع في دارفور، واستخدمها نظام البشير -الحاكم آنذاك- لمساعدة الجيش في إخماد التمرد في الولاية، حيث شُرّد 2.5 ملايين شخص على الأقل وسقط 300 ألف شخص إجمالاً في الصراع. نمت القوات بمرور الوقت لتصبح قوةً عسكريةً موازيةً تتكون مما يقرب من 40 ألف مقاتل، ومجهزةً بالعتاد والأسلحة، وأصبحت إحدى أذرع النظام السوداني القوية حينها، واستُخدمت كحرس حدود على وجه الخصوص لتضييق الخناق على الهجرة غير النظامية بحكم انتشارها على حدود دول الجوار الإفريقي، وأضفى البشير الشرعية على تلك الميليشيات بإصداره مرسوماً رئاسياً في 2013، يقضي بإنشاء تلك القوات كقوة تابعة للحكومة السودانية تحت قيادة جهاز الأمن والمخابرات الوطني، للقضاء على التمرد في إقليم دارفور وجنوب كردفان وولاية النيل الأزرق.
وقد اتُهمت قوات الدعم السريع بارتكاب انتهاكات في دارفور وضد المشاركين في احتجاجات أيلول/ سبتمبر 2013، والتي راح ضحيتها العشرات في الخرطوم. وفي كانون الثاني/ يناير 2017، أجاز البرلمان قانون قوات "الدعم السريع"، لتنتقل تبعيتها من جهاز الأمن والمخابرات إلى الرئاسة بشكل مباشر، ثم تم إصدار قانون يمنح قوات الدعم السريع صفة قوة أمن مستقلة، مما خلق قلقاً لدى قيادة الجيش إزاء نمو قيادة "حميدتي" الذي رفض دمج القوات في الجيش السوداني. وفي نيسان/ أبريل 2019، شاركت قوات الدعم السريع في الإطاحة بالبشير، واتُّهمت بقتل عشرات المحتجين المناصرين للديمقراطية، بالإضافة إلى العنف القبلي، وهو ما دفع برئيس القوات لرفع الحصانة عن بعض القيادات الفرعية للقوات من أجل تقديمهم للمحاكمة، ليوقّع بعدها حميدتي، اتفاقاً يقضي بتقاسم السلطة، جعله نائباً لرئيس مجلس السيادة الانتقالي الذي يرأسه عبد الفتاح البرهان، ثم شاركت قوات الدعم السريع في أحداث تشرين الأول/ أكتوبر عام 2021، التي عطّلت الانتقال لإجراء الانتخابات، وسرعان ما عاد حميدتي معرباً عن أسفه عما حصل، وعبّر عن موافقته على إبرام اتفاق جديد لاستعادة الحكومة المدنية الكاملة.
بدءاً من 2015، شرعت قوات الدعم السريع مع الجيش السوداني في إرسال قوات للاشتراك في الحرب في اليمن، وفي أيلول/ سبتمبر 2018، اعترف قائد القوات حميدتي، بمقتل 412 جندياً سودانياً، بينهم 14 ضابطاً، بينما قدّرت تقارير إعلامية متفرقة، عدد الذين قُتلوا من الجيش السوداني في حرب اليمن، بنحو 850 ضابطاً وجندياً. وفي 25 تموز/ يوليو 2019، وبأمر من قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو، كشف تقرير للأمم المتحدة عن دور قوات الدعم السريع في ليبيا، إذ أكد خبراء الأمم المتحدة أنهم علموا بعقد جرى توقيعه في الخرطوم في 7 أيار/ مايو 2019، بين دقلو المعروف بحميدتي، والشركة الكندية "ديكنز أند ماديسون". وبموجب العقد، تتعهد الشركة الكندية بالحصول من المجلس العسكري الليبي في شرق البلاد على أموال للمجلس الانتقالي السوداني مقابل مساعدات عسكرية للجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر.
كيف تحول حميدتي من تاجر مواشي إلى أشهر شخصية عسكرية في السودان؟
"حميدتي"... من تاجر إلى قائد عسكري
أكدت السلطات اختيار محمد حمدان دقلو، المعروف بلقب "حميدتي"، قائداً لقوات الدعم السريع، بعد أن كان قد تحوّل إلى عسكري في مرحلة سابقة ضمن قوات حرس الحدود، وكان "حميدتي" قد تخلى عن الدراسة مبكراً في سن الـ15، وانخرط في تجارة الإبل والقماش بين السودان وليبيا ومصر عبر الصحراء وأخيراً في حماية القوافل، وعُرف بقيادة مجموعات شبابية لحماية القوافل وتأمينها وردع قطاع الطرق واللصوص، وقد تمكّن خلال ممارسته تجارة الإبل والأقمشة بين السودان وليبيا ومصر من جمع ثروة مقدّرة أسس بها لاحقاً ميليشيا مسلحةً، سرعان ما اشتهرت بمواجهتها وملاحقتها حركات التمرد والنهب المسلح وقطاع الطرق بصورة لفتت انتباه الجهات الرسمية في المركز والتي كانت تسعى أصلاً إلى تجييش القبائل في تحالفات لمواجهة حركات التمرد في دارفور، فسطع نجمه بوضوح، وقررت حكومة الخرطوم الاستعانة به ضمن سعيها إلى تجنيد قوات شعبية من الموالين للنظام، واختارته قائداً لتلك القوات التي سرعان ما تطورت تدريجياً مع تنامي دورها وعددها، فتمت هيكلتها لتصبح ذات طابع قومي واختير لها في ما بعد اسم قوات الدعم السريع.
ثروة حميدتي
في تقرير نشرته منظمة غلوبال ويتنس، عام 2019، كشفت فيه أن قوات الدعم السريع الموالية لحميدتي، تُسيطر على منجم جبل عامر، بالإضافة إلى ثلاثة مناجم أخرى في أجزاء متفرقة من البلاد، وأشارت المنظمة إلى أن واجهة تصدير الذهب السوداني إلى الإمارات هي شركة "الجنيد"، وقد أُنشئت عام 2009، من جانب عبد الرحمن حمدان دقلو، شقيق حميدتي، بالإضافة إلى عادل عبد الرحيم حمدان دقلو، وعلاء الدين عبد الرحيم حمدان دقلو. بالذهب أصبح حميدتي يسيطر على أكبر ميزانية سياسية في تاريخ السودان من دون الحاجة إلى تقديم حساب، وذلك عبر "كارتل الجنيد الاقتصادي"، التي باتت تغطي أوجهاً أخرى من الاستثمارات في مجالات التعدين والنقل وتأجير السيارات والحديد والصلب، كما باتت لشركة الجنيد أفرع في مناطق متفرقة من السودان. وتمتلك شركة الجنيد حساباً بنكياً باسمها في بنك أبو ظبي الأول، حيث يتم تسديد الدفعات النقدية جراء تصدير الذهب، وفقاً لمنظمة غلوبال ويتنس. ويُصدّر السودان من الذهب سنوياً ما تصل قيمته إلى 16 مليار دولار، تستحوذ الإمارات على 99% منها، وفي الوقت الذي من المفترض فيه أن بنك السودان المركزي هو الجهة التي تشرف على صادرات الذهب، إلا أن البشير سمح في بعض الأحيان لحميدتي بالتملص من هذه القاعدة.
ويُوضح تقرير مجلس الأمن الدولي الصادر في 2016، الخاص بالسودان، أن قوات الدعم السريع تفرض إتاوات غير قانونية على تعدين الذهب التقليدي، ويقدّر المجلس أن الميليشيا قادرة على جمع نحو 54 مليون دولار سنوياً من تلك الإتاوات المفروضة على منقّبي الذهب، كما يُشير تحليل مجلس الأمن الدولي إلى أنه خلال الفترة من 2010 إلى 2014، هُرّب من السودان ما لا يقل عن 96 طناً من الذهب السوداني إلى الإمارات العربية المتحدة، من بينها 48 طناً تم تهريبها من منطقة دارفور السودانية إلى الإمارات.
وطبقاً لتقرير سويسري صدر عن جمعية الدفاع عن الشعوب المهددة عام 2018، فإن إمارة دبي لديها من القوانين ما يسمح للشركات بالتملص من القواعد القاضية بعدم شراء الذهب من مناطق الصراع، كاشفةً أن أكبر مصفاة للذهب في دبي، وهي "شركة كالوتي"، كانت واجهة استقبال الذهب السوداني المهرّب من مناطق الصراع المسلح.
تفرض قوات الدعم السريع إتاوات غير قانونية على تعدين الذهب تصل إلى 60 مليون دولار سنوياً
أشهر المعارك
وتُعدّ معركة "قوزدنقو" أشهر المعارك في تاريخ قوات الدعم السريع، وقد تمكنت فيها القوات من إلحاق هزيمة كبيرة بقوات "حركة العدل والمساواة"، وأفقدتها أكثر من 95% من قوتها المقاتلة، وغنمت منها غنائم كثيرةً، إذ تم الاستيلاء على 160 عربةً وكميات كبيرة من الأسلحة والذخائر وما يقارب 250 مدفعاً، واحتفى رئيس الجمهورية نفسه مع القوات بالنصر في ميدان المعركة، ومنح وسام الشجاعة لقوات الدعم السريع كلها، بالإضافة إلى معركة "فنقا" شرق جبل مرة، في كانون الثاني/ يناير 2015، وانتصاراتها في مناطق دوبو المدرسة، ودوبو العمدة، ووادي صبي وأم أرطال وتروجي والبعاشيم والنخارة ووادي هور وبئر الديك.
تشكيل القوات وأماكن الانتشار والتسليح
يُقدَّر عدد أفراد قوات الدعم السريع بنحو 100 ألف فرد، خاصةً بعدما نجحت في استقطاب عدد كبير من قادة الجيش الذين أحيلوا إلى التقاعد، ولها قواعد منتشرة في معظم أرجاء البلاد إذ تملك إدارات ومعسكرات في غالبية ولايات السودان، إلا أن انتشارها الأكبر هو في ولايات دارفور الخمس، بالإضافة إلى جنوب كردفان وشمالها وغربها، وأسست مقار عديدةً في العاصمة الخرطوم. وفي العاصمة، تملك قوات الدعم السريع معسكرات في كل منافذها، وتقيم أعداد كبيرة من هذه القوات في معسكر "طيبة" في محلية جبل أولياء جنوب الخرطوم، بجانب معسكر آخر في منطقة صالحة، وثالث في الجيلي شمال الخرطوم، كما تملك مقرّاً في سوبا شرقاً، زيادةً على استحواذها على مقار إستراتيجية في قلب الخرطوم، حيث استولت سابقاً على عدد من المقرات مثل جهاز الأمن الوطني، ومقر جهاز المخابرات السابق القريب من قيادة الجيش، ومقر هيئة العمليات القريب من مطار الخرطوم الدولي، وأيضاً مبنى لحزب المؤتمر الوطني المنحل، وتتخذ من تلك المقرات مركزاً لها، بالإضافة إلى أن لها تواجداً كبيراً في ولاية البحر الأحمر، وهي منتشرة أيضاً في مواقع بالقرب من منطقة حلايب.
وفي الوقت الذي لا توجد فيه معلومات رسمية عن نوعية التسليح الذي تمتلكه قوات الدعم السريع وكميته، إلا أن الصور والفيديوهات المنشورة من استعراضاتها العسكرية تشير إلى أنها تمتلك مدرعات ومدفعيةً وقاذفات صاروخيةً ومضادات طيران ودروعاً، بالإضافة إلى آلاف السيارات من عربات الدفع الرباعي، كما انتشرت تقارير تفيد بحصولها على مسيّرات مقاتلة متطورة، وأجهزة تجسس عالية الدقة، إلا أن قوات الدعم السريع سارعت إلى نفي الأمر معلنةً أنه محاولة لتشويه صورتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...