للمرة الثالثة، أعيد حضور مقطع فيديو مدته ثماني دقائق وخمسة عشر ثانية، وهو عبارة عن فيلم قصير عن الروائي السوري خالد خليفة، وعن دمشق، والموت، عنوانه "منفي في بيتي".
في الدقيقة الرابعة، يبدأ خالد، وهو يجلس وحيداً في محل "القصبجي" في دمشق، بسرد بعض الأحداث "الاعتيادية" من العام 2013. "قصف جسر دير الزور المعلق، ومئذنة الجامع الأموي في حلب. قُتل الكثير من السوريين. هيثم سافر إلى مصر وستلحق به ديما وشادي. ريتا تفكر بالسفر إلى ألمانيا أو لندن. لينا سافرت إلى لندن. وفي الأخير، أنا لا أستطيع النوم منذ أسابيع عديدة".
خالد رحل عن عالمنا يوم السبت الفائت إثر أزمة قلبية مفاجئة في منزله في حي برزة بدمشق، وأنا أعيد سماع تلك العبارات بالذات لأكثر من عشرين مرة، وأفكّر: مثل سوريين كثر، لم أكن صديقته المقرّبة، لكني كنت أشعر على الدوام بكثير من التقاطعات بيننا، مثل الأمل الذي بقي متمسكاً به حتى اللحظة الأخيرة، رغم أنه "ما بيعرف من وين بيجي"، وافتقاد عشرات من رحلوا عن المدينة وعن حياتنا، والعلاقة المعقدة مع دمشق "المظلمة والمفخّخة"، كما يصفها، والتي رفض أيضاً أن يغادرها ويبني ذاكرة جديدة في أي مكان آخر، وأصرّ على البقاء فيها "ليأخذ حصته من العار والألم".
أفكر بكثير من الأمور التي أحسد خالد عليها، إلى جانب المحبة الهائلة التي يشعر بها مَن حوله تجاهه. كنت أحسده على قدرته البالغة على التعبير عما يجول في ذهني من أفكار، بكلمات أعرفها لكني لا أعلم كيف أرتبها وأصيغها بكل هذه السلاسة
أفتح المحادثة بيننا على واتس آب. في بداية السنة تمنينا لبعضنا عاماً جميلاً، وأخبرني بأنه مسافر لعدة أشهر، وسنلتقي عندما يعود إلى "الشام" أي دمشق. أشعرني حينها هذا الوعد بالطمأنينة. بالنسبة لي، كانت رؤية خالد بين الحين والآخر في المقهى أو الشارع، والأحاديث القصيرة معه، وتشجيعه الدائم لي على مواصلة العمل والكتابة، مصدر إحساس ما بالارتياح. كتب أحد رفاقنا أمس: "في سوريا (الداخل) هناك أشخاص بوجودهم تطمئن على وجودك".
أصرّ على البقاء في دمشق "ليأخذ حصته من العار والألم"
كان لخالد أصدقاء كثر. كنت أشعر بأن كل من في الشام وخارج الشام هم أصدقاؤه بشكل أو بآخر. ببساطته ومرحه وعفويته وثقافته الواسعة، كان قادراً بكل سهولة على الدخول لقلب وحياة أي أحد. لعل ذلك ما جعلني أشعر بحزن قاتل حين عرفت بأنه مات وحيداً في منزله. كان أصدقاؤه يحاولون الاتصال به لساعات، قبل أن يعثروا عليه متوفى في مطبخ شقته. في الدقيقة الخامسة من فيلم "منفي في بيتي"، يقول: "أنا بحب الطبخ، شو فيكِ تعملي الساعة 12 بالليل بالشام غير أنو تطبخي؟"، وبعدها بقليل يتابع: "كتير بشعر بالوحدة... بقول يمكن بدها تصير جزء أساسي من حياتنا".
أفكر بكثير من الأمور التي أحسد خالد عليها، إلى جانب المحبة الهائلة التي يشعر بها مَن حوله تجاهه. كنت أحسده على قدرته البالغة على التعبير عما يجول في ذهني من أفكار، بكلمات أعرفها لكني لا أعلم كيف أرتبها وأصيغها بكل هذه السلاسة. انغمست في الفترة الأخيرة بقراءة مجموعة مقالاته عن مدينة حمص، وعن الفريكة والبرغل، وعن العزلة ومن وما بقي في الشام، وتمنيت لو أنني أمتلك مثله القدرة على الحديث عن ثقافة بلد بأكمله من خلال الكتابة عن الفريكة. ومن منا لا يحبها؟
كنت أحسده أيضاً على إتقانه وتفنّنه في الطبخ، ربما شأنه شأن كل من ينحدر من حلب، عاصمة الطهو في العالم دون منازع. لا أنسى طعم "المامونية بالتمر" التي كان يعدّها. وشعرت بالمزيد من الحزن حينما علمت بأنه مات داخل مطبخه، وهو يعدّ "المكدوس"، بعد أن أحضر كمية من الباذنجان الحمصي خصيصاً لذلك، وهو عائد من اللاذقية إلى دمشق قبل أيام.
نعزّي بعضنا البعض ونواسي حزننا المشترك، ليس فقط على خالد خليفة ربما، وإنما على كل خساراتنا اللامنتهية. إن قال أحدنا: "العمر إلكم"، أجبنا: "العمر إلنا كلنا"
لكن، أعتقد بأن أكثر ما كنت أحسده عليه هو قدرته على اتخاذ موقف واضح وغير قابل للمساومة من كل شيء.
في يوم تشييع جثمان خالد إلى مثواه الأخير، شعرت بأنني أستعيد شيئاً من مدينتي. وكأن الشام التي قال عنها: "هي بلدي، هون بيتي، هون أهلي، هون قبر أمي"، تعيد احتضاننا، نحن من بقينا لنودعه، بحنوٍ مؤلم رغم قسوتها الشديدة.
حين اقتربت الأيادي لملامسة نعشه الخارج من المشفى، وارتفع صوت تصفيق حاد من مئات المشيعين، سمعت صوته مرة أخرى وهو يقول: "ما عندي مكان تاني، ما بدي مكان تاني، غير قادر روح على أي بلد وأعمل ذاكرة جديدة". وحين ارتفعت تلك الأيادي للتصفيق مرّة أخرى مطولاً قبل توجه النعش إلى المقبرة، عرفت بأننا ما زلنا قادرين على الاحتفاء بمن نحب، وبمن أحب بلادنا بشكل استثنائي، كما يليق. بنا جميعنا وكأننا في مأتم جماعي، نعزّي بعضنا البعض ونواسي حزننا المشترك، ليس فقط على خالد ربما، وإنما على كل خساراتنا اللامنتهية. إن قال أحدنا: "العمر إلكم"، أجبنا: "العمر إلنا كلنا".
لعل ما أشعرني في نهاية اليوم ببعض المواساة، هو أن جثمان خالد ووري الثرى في مقبرة التغالبة التي تقع على أحد سفوح جبل قاسيون، وتطل على المدينة التي أَحَب، تماماً كما كان منزله الصغير المشرف على دمشق من أعلى. المقبرة أيضاً مليئة بأشجار ونباتات وورود جميلة، وكأنها باحة بيت عربي في دمشق القديمة. شعرت بأنها قد تؤنس وحدته الأبدية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون