شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
هل يجب أن أصبح مهاجراً ليحبني أصدقائي؟

هل يجب أن أصبح مهاجراً ليحبني أصدقائي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والمهاجرون العرب

الأربعاء 27 سبتمبر 202311:53 ص

لم يتوقف أصدقائي عن تحريضي على الهجرة إلى أوروبا، منذ خرجت من قطاع غزة عام 2021، ففي كلّ محادثة، اتصال، مكالمة فيديو، يعرّجون أولاً على موضوع الهجرة قائلين: لماذا لا تهاجر؟ ماذا تفعل في تركيا إلى اليوم؟ ثمّ يأتون على ذكر محاسن العيش في القارة العجوز، بدءاً من الضمان الاجتماعي مروراً باحترام الحريات ووصولاً إلى الراتب الخيالي.

وأنا، كأيّ شخصٍ عربي على هذا الكوكب، حَلم يوماً بالعيش في أوروبا وبنى أحلاماً كثيرة هناك، حتى صار لي بيت وجيران وأصدقاء وزوجة وأطفال في بروكسل، أعرفهم بالواحد ولكنني لم ألتقِ بهم بعد، واعتقدتُ دائماً أنني سألتقيهم يوماً ما، رغم ذلك، لم أجرؤ أبداً على القيام بأي خطوة عملية للتحقيق هذا الخيال، وأغلب الظن أنني لن أجرؤ أيضاً.

ترند الهجرة

بعد موجة غير مسبوقة من "الهجرة الجماعية" التي يقوم بها شباب غزة هذه الأيام، وصعود موضوع "الهجرة" ليصبح الحديث الأول والأهم بالنسبة لسكان القطاع؛ بدأ تحريض أصدقائي لي يأخذ منحى جديداً، فقد تغلّف باللوم الشديد في محاولة منهم لتحريك "المهاجر" الساكن في قلبي منذ وُلِدت، حيث قال أحدهم: افعلها الآن وإلا ستندم مثلما ندمت أنا. وقال آخر: ماذا تستفيد من جلوسك في تركيا؟ إنك تحرق أيامك دون فائدة. وقال ثالث: الطريق سهلة والشباب تَصل من المحاولة الأولى، ماذا تنتظر؟

هل أوروبا مناسبة لي فعلاً، أم أنني متأثر بما يدور حولي؟ جرّ السؤال أسئلة أخرى من قبيل: هل رفضي للهجرة هو قرار صحيح؟ وهل العائق أمام تحقيقي لأحلامي الكبيرة هو عدم وجودي في أوروبا؟

خلق ذلك سؤالاً رئيساً في رأسي: هل أوروبا مناسبة لي فعلاً، أم أنني متأثر بما يدور حولي؟ ثمّ جرّ السؤال أسئلة أخرى من قبيل: هل رفضي للهجرة هو قرار صحيح؟ وهل العائق أمام تحقيقي لأحلامي الكبيرة هو عدم وجودي في أوروبا؟ وقد جرّت هذه الأسئلة أسئلة أخرى معها، حتى بدأت أفكر في جميع مناحي الحياة هناك، وأفرز ما يناسبني وما لا يناسبني، وما سيكون أسهل تحقيقه من هناك وما سيكون أصعب، وربما وصلت إلى قناعة رئيسية تقول: إنها الحياة كما هي على أيّ بقعةٍ فوق الأرض.

أسباب نفسية

امتلكَ أصدقائي أسباباً مقنعة بشكلٍ دائم للهجرة، واستطاعوا أن يهزموني بمنطقيتهم في كل مرة، فكلّ ما كانوا يقولونه "حقيقة" لا تحتمل وجهة نظر أخرى، فمعدلات البطالة تجاوزت 45% في قطاع غزة، أما الذين يعملون فحوالي 89% منهم يتقاضون فقط 697 شيقل شهرياً، المبلغ الذي بالكاد يكفي لشراء 30 علبة سجائر! لذلك، لم أستطع إلا أن أوافقهم ما يقولون، بل إنني كثيراً ما أبرزتُ لهم أسباباً أخرى تجعل "الحياة هناك" تستحق المغامرة، ولكنني لم أكن مغامراً في أيّ مرة.

وقد امتلكتُ أسباباً مختلفة عن أصدقائي، هذه الأسباب التي سحبتني من يدي وأخرجتني من القطاع قبل عامين، وتوقفت عن كونها أسباب منطقية ولازمة، منذ لم تعد "الزنانة تأكل رأسي"، ولم أعد أستيقظ فجراً على ارتجاج البيت من القصف القريب، ولم أعد مضطراً أن أرتدي البنطال في عزّ الصيف بدلاً من الشورت لأرضي المجتمع، ولم أعد أخاف من الكتابة والحب والأمل.

فأسبابي البسيطة التي تجاوزت حاجز البطالة والفقر والوضع الاقتصادي، لتصل إلى الوضع النفسي البحت الذي كان يؤذيني أكثر من أيّ شيء، لطالما رآها أصدقائي أسباباً "غير مهمة"، لأنهم لم يذكروا في أي وقت مضى، ولكنني ذكرتها وما زلت.

ليست "حرية" بل "فكرة حرية"

يحلم أصدقائي وأصدقاء أصدقائي وجيراني وكل من عرفتهم بالحرية، يبحثون عن جواز سفر يجعلهم يلفون العالم بكلّ أريحية، وأنا كنتُ دائماً عكسهم، لم أحلم أبداً بلفّ العالم، بل حلمتُ دائماً بامتلاكي "القدرة على لف العالم"، أي أن يكون القرار بيدي، لذلك، صرت أبحث عن "فكرة الحرية" وليس عن "الحرية" في حد ذاتها، فأنا أعرف أن الحياة ليست وردية بالقدر الذي أستطيع فيه زيارة أكثر من 20 دولة في حياتي مثلاً، ولكنها ستكون منطقية تماماً لو كنتُ أمتلك القدرة على القيام بذلك.

لذلك، عندما رحتُ أضع "أوروبا" على طاولة الطعام بعد كل يوم عَمل، بدأت في إجراء مقارنات حقيقية على المدى القريب والبعيد، ووضعت نصب عيني كوني شخصاً "بيتوتي"، يحبّ الروتين، ولا يأمَن إلا إذا كان يتمدّد على سريره وباب الغرفة مغلق بالمفتاح، وكانت النتيجة أنني لا أبحث إلا عن حياة هادئة، أستطيع التنقل فيها من غرفة النوم إلى المطبخ بنفسٍ مطمئنة، ولدي فيها أصدقاء أستطيع رؤيتهم مرة أو مرتين في الشهر، وعندي فيها زوجة تطبخ لي الأكلات التي أحبها، أما لفّ العالم والانتقال من دولة إلى أخرى، فليس أولوية عندي على الإطلاق، فلستُ من الساعين وراء الاستكشاف في عصرٍ يجعل العالم بأكمله بين يدي.

ولأنني أبحث عن "فكرة الحرية" وليس عن "الحرية"، وجدتُ أن حياتي لن تكون مختلفة في أوروبا، فلن أعيش هناك في قصر مثلاً.

كلنا مهاجرون

الصدفة وحدها من جعلت جدي من سكان خانيونس الأصليين ولم تجعله من سكان عسقلان أو أسدود، لذلك لم ينادني أحد من قبل بمصطلح "مهاجر"، فقد كنتُ "مواطناً" دائماً. هذا ما تقوله الأوراق، ولكنني طوالي 28 عاماً لم أفقد الإحساس بكوني "مهاجراً"، وأنا كذلك فعلاً على مستوى الشعور على الأقل وإن كنتُ لم أهاجر فعلياً إلى اليوم، فكيف لا أكون مهاجراً وقد خرجتُ من البلاد وفي نيتي ألا أعود أبداً؟

صحيح أنني ربما لا أحسب ضمن أكثر من 200 ألف شخص هاجروا من قطاع غزة آخر 15 عاماً دون عودة، إلا أنني كنتُ منهم، فهذه الإحصائية يجب أن تشمل الذين خرجوا دون عودة، أولئك الذين لم يركبوا البحر ولم يقطعوا الغابات ولم يصعدوا إلى الطائرات بجوازات شبيهة أو إقامات أوروبية مزورة، ولكنهم هاجروا، تركوا ذكرياتهم وحيدة في البلاد، بدّلوا بيوتهم وأحلامهم وأصدقاءهم، فارقوا حبيباتهم ولقاءاتهم وحنينهم، وركبوا أمواج الحياة مقبلين على الخوف غير مدبرين، باحثين عن بلادٍ أخرى يعيشون فيها هرباً من الطيران والجوع واليأس.

يحلم أصدقائي وأصدقاء أصدقائي وجيراني وكل من عرفتهم بالحرية، يبحثون عن جواز سفر يجعلهم يلفون العالم بكلّ أريحية، وأنا كنتُ دائماً عكسهم، لم أحلم أبداً بلفّ العالم، بل حلمتُ دائماً بامتلاكي "القدرة على لف العالم"

النجاة ليست أوروبية

لستُ شخصاً متحاملاً، وربما تجبرني الأيام في لحظة ما على اللجوء إلى أوروبا كالكثير من أصدقائي، ولا أدّعي أبداً أن أوروبا ليست مكاناً جيداً للعمل والحياة والحرية والحب، فربما هي كذلك فعلاً، ولكن حساباتي في الحياة مختلفة -إلى الآن على الأقل- ولا أبحث تماماً عما يبحث عنه أصدقائي، وأؤمن أن الحياة مُشقية فوق أيّ بقعة على الكوكب، والأهم من ذلك كله أنني أؤمن بأن النجاة ليست أوروبية خالصة، بل هي كل مكان ينام فيه المرء 8 ساعات متواصلة.

صحيح أنني لم أجرؤ مرة واحدة على مواجهة أصدقائي بهذه الأشياء، ولكنني أفكر فيها دائماً، وأضعها نصب عيني في كلّ مرة يحرضونني فيها على الهجرة إلى أوروبا، وكأنهم يقولون لي: لن نحبك إلا إذا صرت مهاجراً، وأنا لست مستعداً -حتى الآن- لخسارة 3 أو 4 سنوات من حياتي حتى أصبح مهاجراً عليه العين، ولست مستعداً أيضاً أن أغامر بكل الخسارات والذكريات التي بنيتها طوال 28 عاماً، ولكنني سأكون مستعداً تماماً لذلك عندما أرى أنني لن أستيقظ غداً إلا إذا كنت هناك.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image