شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
رفضت بلقيس أن تدوس خشبها و

رفضت بلقيس أن تدوس خشبها و"أوراقها مثل آذان الفيلة"… الأشجار المقدسة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الجمعة 13 أكتوبر 202312:05 م

حظي النبات بأهمية كبرى في التاريخ القديم. قدس البشر العديد من الأشجار في مختلف أنحاء العالم، واعتقدوا أنها مساكن للأرواح وللكائنات الخفية غير المنظورة. على مر التاريخ، اشتهرت مجموعة من الأشجار التي ورد ذكرها في المصادر الدينية المقدسة، ولا تزال الكثير منها محلاً للتقديس والتبجيل حتى اللحظة.

في الأديان القديمة في أوروبا وآسيا

عرفت الحضارات القديمة التي قامت في كل من آسيا وأوروبا ظاهرة تقديس الأشجار على نطاق واسع. من أشهر تلك الأشجار الشجرة المسماة بشجرة بوذا. عاش سيدهارثا غوتاما -والذي سيُعرف في مرحلة متقدمة من حياته باسم "بوذا" بمعنى "المتنور"- في شبه القارة الهندية في القرن السادس قبل الميلاد.

بحسب التقليد البوذي فإن غوتاما ترك حياته المرفهة وانطلق متجولاً ليستكشف الحقيقة. ووصل إلى مدينة بود جايا بولاية بيهار، وجلس هناك تحت شجرة تين عظيمة طوال ثلاثة أيام وليال. في أثناء تلك الفترة، وصل غوتاما إلى حالة اليقظة التامة (الاستنارة) المعروفة باسم "النيرفانا". ومن هنا استمد ذلك المكان قداسته عند البوذيين، حتى وُصف في بعض المخطوطات القديمة بأنه "سرة الأرض".

على مرّ التاريخ، اشتهرت مجموعة من الأشجار التي ورد ذكرها في المصادر الدينية المقدسة. ولا تزال الكثير منها محلاً للتقديس والتبجيل حتى اللحظة

يتردد بين البوذيين الحاليين أن جزءاً من شجرة بوذا لا يزال موجوداً حتى الآن. يُقال إن ابنة الإمبراطور أشوكا أخذت فرعاً من شجرة بوذا الأصلية وقامت بزراعتها في سريلانكا في القرن الثالث قبل الميلاد. في مرحلة لاحقة، سقطت الشجرة الأصلية في بود جايا. ولكن البوذيين أخذوا فرعاً من الشجرة الموجودة في سريلانكا وقاموا بزراعتها مرة أخرى في بود جايا في مكان الشجرة الأصلية. نما هذا الفرع وأصبح شجرة كبيرة وارفة الأغصان. ويقوم البوذيون والهندوس بزيارتها طلباً للبركة حتى اليوم.

في اليابان أيضاً، حظي الشجر بأهمية كبرى. تمثل ذلك في شجرة السكاكي المُقدسة عند الشنتو، وهو الدين التقليدي الشائع بين اليابانيين. الاسم الأصلي لشجرة السكاكي هو كلييريكا جابونيكا. وهي شجرة دائمة الخضرة تنمو في المناطق الدافئة في اليابان وتايوان والصين وميانمار ونيبال وشمال الهند.

يذكر  كتاب "المعتقدات الدينية لدى الشعوب" أنه يتم تقديم أغصان شجر الشنتو كقربان لتطهير النفس قبل زيارة المقامات المقدسة عند اليابانيين. في السياق نفسه، تُزرع أشجار السكاكي حول الأضرحة كسياج لحمايتها من الأرواح الشريرة.

إذا ما انتقلنا للقارة الأوروبية، لوجدنا أن بعض الأشجار حضرت كمفردة أساسية في القصص والروايات الدينية القديمة؛ على سبيل المثال، تحدثت الميثولوجيا النوردية عن الشجرة العظيمة "إغدراسيل"، والتي يُنظر إليها بوصفها شجرة العوالم.

تحدث الباحث السوري فراس السواح في كتابه "موسوعة تاريخ الأديان" عن أهمية تلك الشجرة في المعتقدات النوردية، فقال إن الإله أودين طعن نفسه بالرمح وعلق جسده على أغصان تلك الشجرة. ومن هنا فقد احتلت إغدراسيل رمزيةً كبرى في معتقدات الشعوب الأوروبية الشمالية.

في الأديان الإبراهيمية

لم يختلف الوضع كثيراً في الأديان الإبراهيمية. حافظت الأشجار على مكانتها وحضورها الرمزي، كما دخلت في تشكيل وصياغة قصص الخلق والنشأة. على سبيل المثال تحدث الكتاب المقدس عن الشجرة المسماة بشجرة المعرفة. ورد الحديث عن تلك الشجرة في العهد القديم باعتبارها شجرة عظيمة كانت تقع في جنة عدن التي عاش فيها آدم في أول حياته.

جاء في الإصحاح الثالث من سفر التكوين أن الله أمر آدم وحواء بعدم الأكل من تلك الشجرة. وأنه قال لهما: "وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا". لم يطع الاثنان لهذا الأمر. وأكلا من الشجرة بعد أن استجابا لإغواء الحية.

نُسجت العديد من القصص حول شجرة المعرفة في الكتابات اليهودية والمسيحية. جاء في التقليد المسيحي الغربي أن الصليب الذي صُلب عليه يسوع الناصري صُنع من أخشاب تلك الشجرة. وجاء في كتاب "الأسطورة الذهبية" ليعقوب دي فراغسي أن آدم لما شارف على الموت اشتاق لشجرة المعرفة، وطلب من ابنه شيث أن يرحل شرقاً، ودعا الله أن يبعث له بغصن من الشجرة. استجاب الله لدعاء آدم، وأرسل بالغصن مع أحد الملائكة لشيث. قدم الابن البار بعدها إلى أبيه بالغصن ولما مات آدم زرع شيث الغصن بالقرب من قبر الأب.

بحسب التقليد فإن الغصن قد كبر على مر السنين وصار شجرة عظيمة. وفي زمن الملك سليمان، وفي أثناء قيام اليهود ببناء الهيكل المقدس، أمر سليمان بقطع أخشاب الشجرة لاستخدامها في أعمال البناء، ولكن تعذر نقل الأخشاب الكبيرة إلى موضع الهيكل. فاكتفى البُناة بوضع الأخشاب فوق بحيرة صغيرة لتصبح جسراً يعبر الناس من فوقه.

تذكر القصة أن الملكة بلقيس لما قدمت إلى أورشليم لمقابلة الملك سليمان استشعرت القداسة التي توجد في تلك القطع الخشبية، فسجدت ورفضت أن تعبر فوقها. عرف سليمان حينها أهمية تلك الأخشاب، فأمر بقطعها وخزنها في إحدى الحجرات بقصره الكبير. وبقيت تلك الأخشاب في مخبئها حتى استخرجها اليهود وصنعوا منها الصليب الذي عُلق عليه يسوع الناصري بأمر من الوالي الروماني بيلاطس البنطي في القرن الأول الميلادي.

تحدث العهد القديم أيضاً عن شجرة العليقة التي تجلى فيها الله لموسى للمرة الأولى. جاء في الإصحاح الثالث من سفر الخروج أن موسى كان يرعى غنم حميه يثرون كاهن مدين بالقرب من جبل حوريب. وشاهد عندها ناراً مشتعلة في شجرة العليقة. فاقترب من الشجرة وعندها "ظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة. فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار، والعليقة لم تكن تحترق".

في ذلك الوقت تلقى موسى الأمر الإلهي بخروج بني إسرائيل من مصر إلى فلسطين: "إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مسخريهم. إني علمت أوجاعهم. فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين، وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة، إلى أرض تفيض لبناً وعسلاً". بحسب الاعتقاد الشائع، فإن هذه الشجرة توجد حالياً في دير سانت كاترين في سيناء. ولا يزال العديد من الزائرين يتوافدون عليها.

توجد أيضاً العديد من الأشجار المقدسة في التقليد المسيحي؛ من أشهرها شجرة مريم الموجودة في منطقة المطرية شمالي العاصمة المصرية القاهرة.

تحكي الروايات القبطية أن العائلة المقدسة قدمت إلى مصر فراراً من هيرودس، وأن مريم العذراء استظلت تلك الشجرة وأكلت من ثمارها وأقامت تحتها لفترة. ولمّا ألقت الماء الذي غسلت فيه ثياب يسوع نبت في هذا الموضع نبات "البلسان" ذو الرائحة الزكية.

في سنة 1656م، سقطت تلك الشجرة، وزُرعت مرة أخرى من فروعها في منطقة مجاورة للموقع الأصلي لها. ولا يزال الكثيرون يزورون تلك الشجرة للتبرك والاستشفاء. كما تشيع بين الناس قصص بعض المعجزات المرتبطة بتلك الشجرة. منها أنها تُكسب المرأة العقيمة القدرة على الحمل. كما يُقال إن بعض المتعصبين لمّا أرادوا قطع أغصان تلك الشجرة فإنها نزفت دماً.

في الإسلام

احتفى المُتخيل الإسلامي بأنواع مختلفة من الأشجار. ارتبط البعض منها بالنص المقدس والغيبيات، في حين ارتبط البعض الآخر بالظروف والأحداث التاريخية التي مرّ بها المسلمون في العهد النبوي؛ على سبيل المثال، تحدث النص القرآني عن "سدرة المنتهى" في الآية الرابعة عشرة من سورة "النجم"، وذلك في سياق الحديث عن معجزة معراج النبي محمد إلى السماء السابعة.

جاء في تفسير الألوسي في تعريف شجرة سدرة المنتهى: "شجرة نبق عن يمين العرش في السماء السابعة على المشهور... أو في السماء السادسة نبقها كقلال هجر وأوراقها مثل آذان الفيلة يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها". من جهة أخرى، احتار المسلمون في سبب تسمية تلك الشجرة بهذا الاسم.

أورد السعدي في تفسيره أهمَّ ما قيل عن سبب تلك التسمية، فقال: "سميت سدرة المنتهى، لأنه ينتهي إليها ما يعرج من الأرض، وينزل إليها ما ينزل من الله، من الوحي وغيره، أو لانتهاء علم الخلق إليها- أي: لكونها فوق السماوات والأرض، فهي المنتهى في علوّها أو لغير ذلك، والله أعلم".

احتفى المُتخيل الإسلامي بأنواع مختلفة من الأشجار. ارتبط البعض منها بالنص المقدس والغيبيات، في حين ارتبط البعض الآخر بالظروف والأحداث التاريخية التي مر بها المسلمون في العهد النبوي

أيضاً، احتفى المُتخيل الإسلامي بالشجرة التي تمت عندها بيعة الرضوان في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة. قام المسلمون عند تلك الشجرة بمبايعة النبي على قتال مشركي مكة. الأمر الذي تمت الإشادة به في الآية الثامنة عشرة من سورة "الفتح": "لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا". ذكر ابن جرير الطبري في تفسيره أن تلك الشجرة قد اقتُلعت من مكانها في عصر الصحابة بسبب سيل أصابها. وفي عصر التابعين اهتم البعض بها وأشاعوا أنهم قد عثروا عليها. وكان الناس يذهبون إليها لغرض التبرك.

في سياق آخر، احتفى المُتخيل المذهبي الشيعي ببعض الأشجار. ومن أشهرها شجرة الأراك التي تم إقحامها في بعض الروايات الشيعية المثبتة لحق علي بن أبي طالب وأبنائه في منصب الإمامة. بحسب ما يذكر شرف الدين العاملي في كتابه "النص والاجتهاد" فإن السيدة فاطمة الزهراء كانت تبكي كل يوم بعد وفاة أبيها تحت شجرة الأراك. وكانت تشتكي مظلوميتها ومظلومية زوجها وبنيها ممن اغتصب حقهم في تولي منصب الإمامة. لمّا زاد الأمر، قام عمر بن الخطاب بقطع الشجرة ليمنع الزهراء من البكاء. عندها، بنى علي بن أبي طالب لزوجته المنزل المعروف ببيت الأحزان في البقيع. وكان هذا البيت مخصصاً للبكاء والحزن. وقضت فيه الزهراء أياماً عدة قبل أن تموت لتلحق بأبيها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image