أن تعصف بك الطبيعة، فذلك أمر لا يد لأحد فيه، لكن أن تضربك الطبيعة من جهة، ويساندها الإهمال من جهة أخرى، ثم تأتي يد السلطة بعنفها وخططها لتكمل عليك، فذلك أمر لا قِبَل لأحد به... درنة تئنّ.
تحالف القمع والطبيعة على درنة
"لو درنا ما درنا يا درنة، ما نقلوا كيفيك يا درنة"؛ هكذا اعتاد أهل الزاهرة درنة، التغنّي بمعشوقتهم التي غدر بها سد وادي درنة بغتةً ذات ليلة.
ما زاد الأمر سوءاً هو أن المدينة القابعة تحت الموت والحصار وانقطاع السبل منذ الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر الجاري، يواجه أهلها اليوم ما هو أبعد من غضب الطبيعة.
فبعد انقضاء الوقفة الاحتجاجية التي نظّمها أهل المدينة في الثامن عشر من أيلول/ سبتمبر الجاري، تعبيراً عن غضبهم، ومطالباتهم بمحاسبة من تسبّب في تعظيم أثر الفاجعة التي قصمت ظهر المدينة بإهمالهم وفسادهم، استيقظ الأهالي في صباح اليوم التالي، وقد وجدوا عدداً كبيراً من شباب المنطقة قد اختفوا في حملة الاعتقالات الواسعة التي نفذتها قوّات الأمن التابعة للمشير خليفة حفتر، كرد فعل استباقيّ على ما تم التنادي إليه خلال الوقفة الاحتجاجية. كما تم تطويق المدينة وتضييق الخناق على الأهالي، وبدأت عملية إخراس الأصوات المعبّرة عن المعاناة من داخل المدينة، في محاولة للسيطرة على فاجعة نفذتها الطبيعة، وعجزت الجهات ذات السيادة عن مجابهتها.
(تصوير تبره مراجع)
هل يكفي دانيال وحده أم للعذاب بقيّة؟
عند الثالثة صباحاً كانت نقطة الانطلاق، حيث بدأت عمليات قطع الاتصالات عن المدينة بشكل تدريجي، بدءاً بقطع خدمات الإنترنت عن المدينة بالكامل، ثم قطع الاتصالات الهاتفية التي كانت قد عادت إلى المدينة عقب الكارثة بثلاثة أيام.
تبريرات لا منطقية قدّمتها الجهات المسؤولة، مفادها أن الانقطاع كان بسبب تضرر أحد كوابل التوصيلات في أثناء عمليات الإنقاذ.
لكن تفسيرات حكومة الدبيبة، لم تقنع أهالي درنة، الذين يقولون إن ما حدث لا يعدو كونه تواطؤاً أقدمت عليه حكومة الدبيبة في محاولة لمساعدة رجالها في التكتّم على جرائم الإهمال والفساد التي قادت إلى دمار المدينة.
اصوات من درنة
48 ساعةً كانت مدّة التعتيم الكامل عن المدينة وانقطاعها مجدداً عن العالم الخارجي، وبدء عمليات إخلاء الصحافة من داخلها، ومنع دخول السيارات إليها وخروجها منها.
التقى رصيف22، بأحد الشبان المدنيين الذين شاركوا في المظاهرة. يقول: "الموت وحده مش هي يلي ملت درنة، بدأ الخوف وبدأ تكميم الأفواه، صحينا الصبح لقينا جزءاً كبيراً من الشباب يلي شارك معاناة في المظاهرة تم القبض عليهم، جوا لبيوتهم خذوهم من وسط عائلاتهم بدون أي تفسير، الشباب يلي انسجنوا هم من خيرة شباب درنة هادوا هم يلّي وقفوا في وجه داعش أيام حفتر، ومن معه".
يلتقط أطراف الحديث شاب آخر من المتظاهرين ليحلل لرصيف22، المشهد قائلاً: "درنة منذ عام 2011 وهي رقم غير مهم على خريطة صنّاع القرار. التهافت اليوم على كيف يخرسوننا ويمنعوننا من المطالبة بحق دماء أهلنا". ويستطرد الشاب: "للأسف العالم كله خذلنا، وشُغِل الجميع بمصالحهم وأطماعهم".
من جانبنا، حاولنا التحدث إلى أهالي أبرز الشباب الموقوفين وهم رياض الحمر، ومهند الديباني، وطه أبو بيضة، لكنهم جميعهم رفضوا التعليق أو الحديث عن تفاصيل عمليات الاعتقال، خوفاً من أن يتم التنكيل بأبنائهم الذين لم يعلموا حتى لحظة كتابة هذا التقرير بأماكن وجودهم أو التهم الموجّهة إليهم.
المساجد في خدمة النظام
الأمن وسياسة الاعتقالات لم يكونا وحدهما، الأداتين البارزتين في المشهد في درنة هذه الأيام، بل دخلت على الخط في مسلك مريب منابر دينية كثيرة.
زينب، إحدى ربات البيوت في درنة، تقول لرصيف22: "فوجئنا يوم الجمعة الماضي بمكبرات صوت الأذان تحمل لنا صوت خطبة الجمعة، التي تمحورت حول ضرورة التزام البيوت والكف عن الخروج في أي مظاهرات".
شاهد عيان آخر تحدث إلينا قائلاً: "ذهبت للصلاة في مسجد عزوز برقة ولدي، ففوجئنا بخطيب المسجد يحدثنا طوال الخطبة عن حكمة الصبر والصلاة 'فقط' لمواجهة الأزمات والصعاب. بدا جلياً لجميع المصلين أن الخطيب ينهانا، باسم الدين، عن التظاهر أو تنظيم الاحتجاجات في شوارع المدينة".
هل هناك أسباب خفية وراء دخول الجيش المصري درنة والسيطرة عليها؟
(تصوير تبرة مراجع)
الجيش المصري يسيطر على درنة
على هامش المشهد -وربما في قلبه- يقف الجيش المصري بدباباته وجنوده، وتحيط بوجوده مخاوف وأقاويل عدة بين أهالي درنة.
مخاوف لا يمكن الجزم بها حتى الآن، وإن كانت تحملها في طياتها عناصر للقصة لا يمكن إغفالها وإن تباينت تفسيراتها، بعد أن تمركزت قوات الجيش المصري في درنة، على هيئة معسكرات إيواء.
أسعد (43 سنةً)، أحد الأهالي، يتحدث إلى رصيف22، حول تخوّفهم مما هو أبعد من المساعدة الإنسانية، قائلاً: "الجيش المصري كان أوّل الواصلين، ونحن شاكرون له وقفته بجانبنا، ولكن ما وراء هذه المواقف هو ما يقلقنا".
"فالسؤال هنا -والحديث ما زال لأسعد- هو كيف يجلس رئيس وزراء حكومة مكلفة من البرلمان مع الشركات المصرية للتباحث حول عقود إعادة الإعمار، والناس ما زالت تلمّ بقايا جثث أهلها!".
ويسأل: "لماذا تم إجبار كل الصحافيين والصحافة الأجنبية على مغادرة المدينة؟ ولماذا يضغطون علينا لترك المدينة؟".
تساؤلات أسعد لم تكن نابعةً منه فقط، بل إن المخاوف من أبعاد هيمنة الجيش المصري على المدينة تسود المجالس كلها.
وفي السياق نفسه، يتحدث أحد شباب المدينة قائلاً: "الجيش المصري هو الوحيد الذي دخل المدينة، واليوم بعد أكثر من أسبوعين، ما زال مقيماً فيها، ويتحرّك بكل أريحية وهدوء، ويمهّد لعمليات إزالة المباني والبيوت، وهذا إن دل على شيء، فعلى تصريحات عليا بالتسهيلات لهم. 'نحنا ما فرطوا في مدينتنا لو يبون يقتلونا كلنا على ترابها شبر منها ما يهون علينا، ولو الحكومة الفاشلة السارقة المارقة، ودها تسكن حدا في أرضنا لازمها تنهي حياة بقيتنا قبل'".
حتى الآن لا يمكن الجزم بدقة تلك المخاوف، لكن التخوفات تزداد مع ازدياد طول المدّة والتعتيم المستمر، من أن يكون مخطط منح درنة كهدية وقربان للسيسي أمراً وارداً، خصوصاً مع ما تمر به مصر في هذا الوقت من تقلّبات سياسية، لربما تستدعي البحث عن تسويات سريعة المكسب.
"لماذا تم إجبار كل الصحافيين والصحافة الأجنبية على مغادرة المدينة؟
رفض التحقيق الدولي بداية تؤدّي إلى أين؟
أصوات عديدة علت من الجهات الحكومية متمثلةً في البرلمان والحكومتين المتواجدتين في شرق البلاد وغربها، رافضةً أي مقترحات بفتح تحقيق دولي، ومؤكدةً أنّ جهاز النيابة الليبي والقضاء سيكونان على أعلى مستوى من الشفافية والموضوعية في هذا السياق. يصف أحد الأهالي، وقد فقد اثنين من أبنائه في الفاجعة في أثناء حديث إلى رصيف22، التحقيق الذي تجريه الجهات الحكومية بأنّه "إبر مخدّرة"، قائلاً: "لا يوجد شيء اسمه النائب العام سيحقق ويحاسب. ذلك الرجل لن يفعل شيئاً سوى التغطية على جرائمهم، و'يعطوا فينا في حقن مخدرة حتى نسوا'".
يستطرد الرجل: "للأسف نحن لا نثق بتحقيقاتهم ولا نزاهتها. مطالبنا واضحة بحتمية تولّي المجتمع الدولي مهمة فتح تحقيق عاجل وشديد لمحاسبة الكل من أعلى هرم السلطة"، ويختتم الرجل حديثه بالقول: "ما يجيبون لنا أكباش فداء. كلهم يتحاسبون".
يخيّم اليأس على أهل المدينة الذين ما عادوا يعرفون أي مصير ينتظرهم، بين حكومات تتقاتل لأجل المال، وعسكر يحكمونهم بالحديد والنار، وشبح تسليم المدينة لمصر. أو كما تقول إحدى عجائز المدينة: "نحنا صح نجينا من الموت، ولكن يلي يستنى فينا الموت البطيء".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...