منذ خمسة أيام من وصولنا إلى قرية "رود بهشت" (نهر الجنّة) في شمال إيران ودخولنا في زقاق ضيّق لا يسمح بدخول أكثر من سيارة، ونحن نستيقظ صباحاً على طَرقات متتالية، طَرقات بشرية. كيف نميّز الطَرقات البشرية على الشباك؟ لها وقع بشري، طَرقات بشرية محددة.
موعدنا عند الساعة السادسة صباحاً مع المنبّه المصرّ على طَرقاته على النافذة. لم نكتشف نافذةً محددةً بدايةً. مع الأيام استطعنا تحديد النافذة وتحديد مصدر الصوت. غراب كبير يطرق كلّ صباح نافذة الغرفة الواقعة جهة اليمين، ولا يذهب أبداً إلى الغرفة الواقعة في جهة اليسار.
بعد قطع مسافة أكثر من ألف كيلومتر، في طرق جبلية، لن يترك لك التعب فرصةً للتفكير في احتمالات من يكون الطارق. خرجنا مساء يوم الجمعة عند الساعة العاشرة، ودرجة الحرارة فاقت الأربعين. نعرف بالتحديد متى نتخلص من تبريد السيارة. مع آخر نفق محفور داخل الجبال، سنشعر بالنسمات الباردة وسنتخلص من التبريد. وصلنا يوم السبت عند الساعة الثانية ظهراً. سيرٌ مستمر دون وقفات طويلة. بيد أنّ الغراب يطرق طرقاً فيه إصرار بشري، ولا ينتظر منك لا أكلاً ولا كلمة ترحيب، بل مع انتهاء الطرقات يغيب. لم نرَه سوى مرة يتيمة وهذا أوقفنا عن البحث عن حقيقة الطارق.
الغراب يطرق طَرقاً فيه إصرار بشري، ولا ينتظر منك لا أكلاً ولا كلمة ترحيب، بل مع انتهاء الطرقات يغيب
مع غروب الشمس تنتهي الحركة في القرية. وتنتهي حركة الطيور، إذ قليلاً ما نصادف الناس في الشوارع المتعرجة، لتدبّ حركة الكائنات الليلية على مراحل. مع الغروب تخرج الحشرات بأنواعها؛ حشرات ملوّنة وضفادع لا تمشي على الأرض، تقضي ليلها معلقةً فوق رؤوسنا في السقف الخشبي تلتقط كلّ ما يقترب منها من حشرات صغيرة. الضفادع في منتهى الصغر ولا يمكنها الانقضاض على حشرة تشبه كثيراً "أم أربع وأربعين" المعروفة، لكن غالبيتها سوداء لامعة وغير مؤذية وتموت بأقل ضغط على جسدها الطويل الهلامي.
أغراني الصديق القاصّ صالح الغبين، بقراءة كتاب "الدفتر الكبير". لم أتحمس للفكرة ووضعت الكتاب في قائمة الانتظار المنتظرة بعد عودتي من السفر. لكنه، أي الصديق، أغراني بكلمة "ألقِ نظرةً عليها". ألقيت نظرةً على المترجم "محمد آيات حنّا"، وبدأت بالقراءة. الروائية الهنغارية أغوتا كريستوف، تصارع في ومع لغة تعدّها عدّوةً لكي تكتب دفترها الكبير.
"الغابة كبيرة جداً، والنهر صغير جداً"؛ هذا هو نصّها؛ أنهار صغيرة وأمامها غابات من السرد. إذا وقعنا في فخّ الدفتر الكبير، سنقع بين براثن الشاعر والمترجم اللبناني بسام حجار. قام المترجمان بالتناوب على ترجمة رباعية أغوتا ("الدفتر الكبير"، "البرهان"، "الكذبة"، و"أمس").
كنتُ أعيش في أجواء بيت الجدّة القاسية والتي يكرهها الجميع. شعرت بقسوة الجمال السردي الذي برعت أغوتا في ترتيبه. اضطررت إلى القراءة في باحة البيت حتى ساعة متأخرة، لكيلا أوقظ العائلة بالضوء والدخان والحركة. نخرج عصراً إلى بحر قزوين الذي يبعد عنا عشر دقائق بالسيارة، لنشاهد الغروب، ونقفل عائدين إلى البيت. وكلما خطر ببالنا الخروج إلى الغابة نقصد غابة "عباس آباد" أو غابة "دو هِزار" و"سِه هِزار"، نقضي الصباحات هناك ونعود قبل الغروب. هكذا توصي الرباعية الروائية، الغابات المظلمة يصعب عبورها ليلاً، بينما ساحل البحر والأنهار تتيح لكم التراجع حيث تريدون.
يوم الأربعاء قررنا السفر إلى مدينة رَشْت. علقت في ذاكرتي الوجبات الروسية التي يتقن أهل رشت إعدادها. دخلت من باب فيروزي صغير احتلّ مكانه وسط جدار بعلوّ ثلاثة أمتار. أنا على موعد بعد الباب مع عالم من الفيروز: أشجار تين وليمون. كلّ ما أراه كان يعيدني إلى صوت فيروز. على يساري مبنى البيت وعلى يميني حديقة، تقدّمت حتى وصلت بالتحديد إلى وسط البيت الكبير. ثمة نافورة صغيرة وبئر.
أنظر الآن إلى بيت من طابقين وشرفة كبيرة، ستكون مكان جلوسنا لقراءة القصص. الجدار المقابل حيث ينتهي البيت احتلّه الحمام لينام؛ إنها ساعة الغروب. "بيت السميعيين" أو "بيت كيلان الثقافي"، ويقع في أقدم حارات رشت، حارة "ساغَريسازان"، حيث كلّ شيء على حاله منذ قرون. حتى الباعة يرجعون بك قرناً بلهجتهم وطريقة عرضهم لبضائعهم. بنى البيت أحد أفراد العائلة القاجارية، وتبرّع به حفيدهم، وهو طبيب معروف، للرسامين والشعراء والروائيين والقاصّين والموسيقيين والسينمائيين، ليعقدوا جلساتهم فيه: مركز الأربعاء القصصي رشت. أسّس هذا المركز الروائي والقاصّ كيهان خانْجاني، الذي خطرت له منذ تسعينيات القرن الماضي فكرة تأسيس جلسات قصصية. حصيلة هذه الجلسات السردية 25 كتاباً في القصة والرواية ونقدهما (ترجمت رواية خانجاني "قسم المحكومين" إلى العربية، وصدرت عن دار تكوين).
لا الرواية انتهت ولا الغراب جاء مثلما يفعل كل يوم، وطريق الألف كيلومتر ينتظرني للعودة إلى الأهواز
ناقشت الجلسةُ قصةً للكاتبة الكردية سولماز كاكائي، "المُعزّون الأبديون"؛ يجد رجال من القرية شابةً وشاباً مدفونَين، والقرية تمرّ بأزمة مياه ويحاولون حفر بئر. وتجري الأحداث من فكرة إعادة دفنهما إلى أنهما لعنة للقرية. تلاها فصل من رواية خانجاني الجديدة التي ستصدر قريباً، قرأ الفصل بصوته. فصل ساخر وغرائبي. ثم حديث طويل عن القصة والرواية في العالم العربي. كان الحوار عفوياً والأسئلة تحتاج إلى تحضيرات، مثل الأسئلة المباغتة عن السودان وأدبه والأصوات المهمة في الرواية التاريخية. ماذا حدث للقصة والرواية بعد الربيع العربي؟ هل مُنح الكُتّاب مساحةَ حرية أكبر؟ أسئلة تبحث عن جديد العرب. انتهت الجلسة بجملة تكررت في صياغات عدة: أين كنّا من هذه النصوص والأسماء؟
وصلنا إلى قرية "نهر الجنّة" عند الساعة الثانية والنصف فجراً. تفصلني عن الغراب ساعات لأشاهد ولو لمرة منقاره وهو يطرق زجاج النافذة. لذلك جلست أمام النافذة في الغرفة. الجزء الأخير من سلسلة "أغوتا" يحتاج إلى ساعات لأنهيه. لا الرواية انتهت ولا الغراب جاء مثلما يفعل كل يوم، وطريق الألف كيلومتر ينتظرني للعودة إلى الأهواز في جنوب الغرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...