بعض الأحداث التي تبدو عرضيةً، تحمل في طياتها أشباح الماضي المظلم، ودماءه التي جفّت وإن بقيت ذكراها. تجاهلها لا يفيد، والنفخ في رمادها بغية إحياء الماضي جريمة في حق المستقبل. لذا فالتعامل معها يجب أن يكون بحجمها الذي جاوز أثره نطاقه، دون تهويل أو تهوين.
ومن تلك النماذج، أزمة الأمازيغ في الجزائر، التي أحيتها مجدداً أزمة الطالبة "ثيزيري".
الجينز يهزم الجبة القبائلية
"أن ترتدي الفتاة سروالاً ضيّقاً أو ثوباً قصيراً، فهذا أمر مقبول في المدرسة. أما أن ترتدي 'الجبة القبائلية الأمازيغية' التي تستر جسدها، فأمر مرفوض، يستوجب الطرد"؛ هكذا علّقت ليندة وضاح، والدة التلميذة ثيزيري على طرد ابنتها من المدرسة، عقاباً لها على ارتداء الزيّ الأمازيغي. وتضيف لرصيف22، بتصميم وحزم: "القصة ليست قصة ابنتي ولا قصة المدرسة، وإنما نحن إزاء تمدد للتضييق والقمع اللذين تعرضنا لهما كثيراً في الجزائر. لقد ناضلنا كثيراً دفاعاً عن الهوية الأمازيغية الجزائرية وتاريخها، ولن نسمح لأحد بالمساس بتلك المكتسبات".
لماذا قامت هذة الضجة كلها في الجزائر من أجل 'الجبة القبائلية" الأمازيغية؟
هكذا بدأ النضال الأمازيغي
بدأت مطالبة الأمازيغ في الجزائر بالاعتراف بهويتهم، في نيسان/ أبريل 1980، بعد رحيل الرئيس هواري بومدين.
كانت الشرارة التي أشعلت الانتفاضة التي عُرفت بـ"الربيع الأمازيغي"، هي منع السلطات الجزائرية الكاتب مولود معمري، من إلقاء محاضرة عن الشعر الأمازيغي في جامعة تيزي وزو، فثار طلاب الجامعة وسرعان ما تحول الأمر إلى انتفاضة شعبية تطرح القضية الأمازيغية للمرة الأولى في الشارع الجزائري للمطالبة بالاعتراف باللغة والهوية الأمازيغية.
لكن شرارة الانتفاضة سرعان ما اصطدمت بعصا القبضة الأمنية، التي اعتقلت عدداً كبيراً من الطلبة وكوادر الحركة الأمازيغية حينها.
لكن المكسب الأول تحقق في 1994، حينما أعلن الأمازيغ قرارهم مقاطعة الانتخابات الرئاسية، في ما عُرف لاحقاً باسم "إضراب المحفظة"، وهو ما دعا النظام الحاكم إلى الدخول معهم في مفاوضات أسفرت عن السماح بتدريس اللغة الأمازيغية في المدارس.
الربيع الأسود
النقطة المفصلية الأهم في ذلك التاريخ كانت في نيسان/ أبريل 2001، حين لقي الطالب ماسينيسا قرماح، البالغ من العمر ثمانية عشر عاماً، مصرعه متأثراً بجراحه إثر إطلاق النار عليه في مقر الدرك في بلدة جبلية قريبة من تيزي وزو، لتنفجر بعدها مظاهرات "الربيع الأسود" التي تحولت إلى مواجهات مع قوات الأمن أسفرت عن مقتل 126 شخصاً وجرح أكثر من خمسة آلاف آخرين.
وبعد عام تقريباً من تلك الأحداث الدامية، خطا الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، خطوةً كبيرةً صوب مطالب الأمازيغ، إذ أعلن الاعتراف باللغة الأمازيغية لغةً وطنيةً.
ومن هنا تأتي الحساسية من أي خطوة تُعدّ تراجعاً عن المكاسب الأمازيغية التي كلفت الكثير من الدماء، ولذا تجاوزت قصة الطالبة ثيزيري محيط مدرستها، لتصل إلى الفضاء الجزائري الأوسع، القلِق من العودة إلى الخلف.
تحذيرات قلقة
"نتذكر كلنا ما حصل في منطقة القبائل في الجزائر في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، وآلاف الأرواح التي سقطت في ما يسمّى بالربيع الأمازيغي"؛ هكذا يستهل القيادي في حزب "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" عثمان بن صيد، حديثه إلى رصيف22، ويضيف: "التمييز والتضييق، ومحاولة محو كل ما يرتبط باللغة والثقافة الأمازيغية، كانت السبب في تلك الأحداث الدامية، لذلك تصرّف المدرسة غير المسؤول هو نكء في جراح المنطقة التي عانت الكثير سابقاً. ويختم الرجل حديثه بالقول: "هذه سقطة يجب ألا تتكرر، وعلى الدولة محاربة مثل هذه التصرفات التي قد تقود إلى ما لا تُحمد عقباه".
وفي المسار القلق نفسه، يمضي رئيس حزب البناء الوطني عبد القادر بن قرينة، الذي ندد في حديثه إلى رصيف22، بما حدث، واصفاً إياه بأنه "تصرّف منافٍ تماماً للخطوات التي تسعى إليها الجزائر من أجل لمّ شمل أبنائها ونبذ الفرقة والخلاف، واصفاً الزيّ الأمازيغي بأنه لباس محترم، ولا يحمل أي ممنوع في قطاع التربية والتعليم".
هل ينجح بعض الحمقى في إعادة الجزائر من جديد إلى أيام "الربيع الأسود" الدامية؟
جرّ المنطقة إلى النار من جديد
لكن هناك من يرى أن ما حدث لم يكن عشوائياً تماماً، وأن هناك من يسعى إلى إشعال النيران مجدداً في الجزائر. وفي هذا السياق يقول المحلل السياسي الجزائري صابري خير الدين، في تصريحات لرصيف22، إن منطقة القبائل في الجزائر، لا تزال تحت أعين المهتمين بجرّها إلى فوهة النار، من خلال الأحداث المتتالية هناك، ودائماً ما يكون ضحيتها السكان البسطاء.
فهناك من لا يرضى بالمكاسب التي حصل عليها الأمازيغ وجلبت الاستقرار، وبات يرصّع المنطقة بأحداث، هدفها الأول والأخير تحريك المشهد نحو الفوضى.
يدلّل خير الدين على حديثه بالقول: "مقتل الشاب جمال حرقاً، بعد اتهامه بإضرام النيران بغابات تيزي وزو، في شهر آب/ أغسطس 2021، كان بهدف جرّ المنطقة إلى نار العنف والمواجهات مجدداً".
وقبل أن ينهي حديثه، أشار محدثنا إلى الدور الذي تلعبه فرنسا في تلك المنطقة الحساسة، متّهماً الإعلام هناك بالسعي إلى تأجيج الخلافات وإبرازها.
وفي السياق نفسه، يحذّر عبد المجيد قاسي، الأستاذ في قسم الأمازيغية في جامعة مولود معمري في ولاية تيزي وزو، شرق العاصمة الجزائر، من أن تعود الأمور إلى نقطة الصفر في منطقة القبائل الأمازيغية، مشيراً إلى وجود أطراف حتى في الإدارات والمؤسسات الرسمية الجزائرية، تتعامل مع الأمازيغ بعنصرية، وغير راضية بخطوات الحفاظ على الهوية في تلك المنطقة، وهي الأطراف التي يجب على الجميع الحذر منها لتجنب العودة إلى الوراء".
بعيداً عن التفسيرات والتأويلات، تظل الحقيقة البادية للجميع، أن منطقة القبائل الأمازيغية في الجزائر، رمز للنضال للحفاظ على الهوية والثقافة، ومثال للتصدي لكل حملات التضييق والقمع والتهميش، وأنه ليس من مصلحة أحد جرّها إلى فوهة البركان. فتدبّروا يا أولي الألباب!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...