شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
في الأربعين... نصبح أكثر استسلاماً

في الأربعين... نصبح أكثر استسلاماً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الثلاثاء 26 سبتمبر 202311:41 ص

في الأربعين... نصبح أكثر استسلاماً

استمع-ـي إلى المقال هنا


الأربعون رقم مميز، وأنا أحب الأرقام المميزة. هذا ما أفعله في حياتي المهنية. أبحث عنها. أغريها بنسج قصص مثيرة عنها. وأبحث عن شغورها. كل شغور يعني غياب قصة ما، عن مجموعة ما، عن قضية ما، عن تطور ما، عن ظلم ما. وأنا لا أحب لا الظلم ولا الظالمين.

وها قد جاءني رقم مميز. أتممت الأربعين. والأربعون رقم مميز في أكثرية الديانات، السماوية وغير السماوية. يخفي سرّ الوجود وخبايا القديسين والأنبياء. فالمطر استمر أربعين يوماً خلال طوفان نوح. المسيحيون يصومون أربعين يوماً وكذلك الهندوس. والطائفة الشيعية تحيي ذكرى الأربعين الحسينية، أي مرور أربعين يوماً على مقتل الإمام الحسين. لكن جنازة الأربعين مرتبطة بالحضارات القديمة ومنها الفرعونية، ومدة الأربعين يوماً تعادل المدة اللازمة للتحنيط.

يخفي الرقم أربعون قدسية الوجود، وهو في الوقت نفسه يمهد للقبول بالزوال والتعايش مع الموت. يخفّ الحداد بعد الأربعين. وهذا ما لحظته وأنا أتجه صوب الأربعين. نصبح نحن النساء، أكثر احتفاءً وأكثر خفةً. لا نتوقف عند الكثير من القضايا. ربما لأننا نكون قد حسمنا موقفنا من أكثرها. حسمنا أمرنا تجاه من نحب ومن لا نحب. وعرفنا ماذا نحب. نصبح أكثر إدراكاً للحياة وماذا تعني لنا. نحدد ماذا نختار أن نتحمل. متى نتجادل ومع من؟ ومتى سنستسلم ولمن؟

أتممت الأربعين. والأربعون رقم مميز في أكثرية الديانات، السماوية وغير السماوية. يخفي سرّ الوجود وخبايا القديسين والأنبياء

عندما نصل إلى سن الأربعين، نصبح أكثر استسلاماً. لا بل نحتفي بالاستسلام. يصبح الاستسلام سلاحنا الفتاك. نستسلم بطواعية. نمسك الأعلام البيضاء ونلوّح بها ونحن نقهقه خسائرنا. لقد خسرنا. هذه المعركة تحديداً خسرناها بطيب خاطر، وسنخسر غيرها أيضاً. وسنحتفي فرحاً بكل هذه الخسارات لقضايا ومواقف لم تعد تعنينا، أو تعنينا. لا فرق. اخترنا أن نربح صحتنا النفسية ونخسر كل شيء باستثناء دائرة مقربة من الصداقات والعلاقات الاجتماعية. وفي القضايا الكبيرة أيضاً. كأن نخسر وطناً، ونستمرّ. وتُفجَّر مدينتنا، فنسلمّها لكل هؤلاء الذين يعدّون أنفسهم حكّاماً ومسؤولين. وتستمرّ، إلى حدَ ما. ولكن نستمر.

عندما نصل إلى سن الأربعين، نصبح أكثر استسلاماً لكل شيء، ما عدا العمر. أو هكذا أشعر. ندرك أنه لم يعد من إمكانية للرجوع. التجاعيد ستكثر. نعم، قد نشدّها يميناً وشمالاً، ونملؤها بما تيسّر من خيرات الدنيا، من بوتوكس وغيره، ولكنها ستتكاثر. سنشعر بها تتسرب إلى محيط العين والفم وتحفر في كل ما يتسنى لها. ستحفر بين عيني. وعلى جبيني. وتحلّق سواداً حول عينَيّ. ستتكاثر التجاعيد. وقد ندرك أنه قد يكون من الأسهل علينا أن نستسلم لها ونتصالح معها على أن نحاربها.

وها أنا أحاول أن أتصالح مع تجاعيد وجهي، خاصةً محيط عينيّ عندما أبتسم. 57: هذا رقم عدد التجاعيد على وجهي عندما لا أبتسم. ربما عليّ أن أقلل من ابتساماتي. وعندما أبتسم، يصعب حصرها في رقم معيّن، فهي تتأثر بدرجة الابتسامة ونوعها، ابتسامة تحبب أو سخرية أو محاولة لقمع ضحكة فاقعة. فماذا أفعل بتجاعيدي وقد اخترت ألا أحقنها؟ ليس موقفاً من إجراءات تجميلية بل هو خوف. فأنا أحياناً أخاف من خيالي. ومن التغيير. وفي حالتي أخاف من أي تغيير قد يطرأ على ملامحي ويصبح عليّ أن أتعوّد على وجه جديد يحدّق في المرآة. وكنت قد قرأت عن مراكز مختصة برياضة عضلات الوجه. وطبعاً قصدته. الجلسة كانت لطيفةً. وقفت المختصة فوق وجهي وبدأت بتوجيه صفعات على خدودي وهي تضغط على وجهي بطابة مطاطية. يبدو أنه وفق هذه المدرسة التجميلية، فإن الصفعات تعوّق ظهور التجاعيد، وترهبها. وسألت نفسي: كيف ظهرت هذه التجاعيد والحياة غالباً ما توجّه إليّ وإلى غيري أشكالاً وألواناً من الصفعات؟

هذا ما لحظته وأنا أتجه صوب الأربعين. نصبح نحن النساء، أكثر احتفاءً وأكثر خفةً. لا نتوقف عند الكثير من القضايا. ربما لأننا نكون قد حسمنا موقفنا من أكثرها. حسمنا أمرنا تجاه من نحب ومن لا نحب

عندما نصل إلى سن الأربعين، نفكر في أرقام كثيرة، ومنها، كمية السعرات الحرارية التي تدخل جسمنا، أو أردافنا لكي نكون أكثر واقعيةً، وعدد السعرات التي تخرج أو التي غالباً ما تبقى محبوسةً حتى عندما نحاول إخراجها بالقوة. تصبح هذه العملية الحسابية أساسيةً. وغالباً ما نستسلم لسعرات ملذات كثيرة. ملعقة مربّى المشمش مع جبنة صفراء حادّة. علبة بطاطا مقلية ترفع معنوياتنا. صحن هامبرغر. وجبة ورق عنب نقنع أنفسنا بأنها أقرب إلى صحن سلطة خضراء. وهكذا نتحايل على ملذات كثيرة تشكّل هويتنا الغذائية. فأنا مع الوقت أدركت أن لي هويةً غذائيةً لا يمكنني أن أستغني عنها مهما أثبتت الدراسات وتغيرت التراندات. أعرف أن الفاكهة الطازجة صحية أكثر ولكنني لن أستغني عن ملعقة مربى البوصفير أو الزنجبيل. أعرف أنه عليّ أن أركّز على البروتين في وجباتي، ولكن غالباً ما أنسى كل هذه الدراسات، وأنا أمام أطباق كثيرة تعوّدت أن آكلها كما يحلو لي. فكيف أقنع ذاكرتي الغذائية بأنني أحب حبوب الشيا وأفضّل الكينوا على البرغل؟ سأفشل. حبوب الشيا، لن أحبّها. هذه معركة سأخسرها أيضاً.

عندما نصل إلى سن الأربعين، نجد أنفسنا نتنقل بين زمنين وفئات عمرية كثيرة. سأقنع نفسي أن الأربعين هي الثلاثين الجديدة، كما يقال بالإنكليزية، وأن الحياة ما زالت أمامي. ولكنني غالباً ما أدرك أن هذه القفزات العمرية إلى الوراء لا تصلح لنا نحن سكان بلاد العالم الثالث. ولذلك تأتي ترجمة 40 is the new 30 ثقيلةً. فنحن سكان بلاد تفتقد الأمن والأمان وبلاد حرمتنا وحرمت أهلنا من جنى أعمارهم، الذي كانوا قد أودعوه مصارف تجاريةً أقنعتنا بأنها والبنك المركزي عصية على الاقتصاد العالمي وتتحدى قوانين نيوتن للجاذبية الأرضية. مصارف لا تنهار. واتضح فعلاً أنها لا تنهار بل تسرق.

سأقنع نفسي أن الأربعين هي الثلاثين الجديدة، كما يقال بالإنكليزية، وأن الحياة ما زالت أمامي.

عندما نصل إلى الأربعين، نفكر كثيراً في هرمونَي الدوبامين والسيروتونين، ونجرّب أنشطةً كثيرةً تفرزهما. وسرعان ما نكتشف أن المشي كفيل بهما. طبعاً مع حبة أو أكثر من تشكيلة أدوية مختلفة قد تنفعنا أو لا تنفعنا. ولكن لا ضرر من تجربة أي شيء من أجلهما. وللأمهات منّا، نكتشف أن أفضل ما نفعله لأولادنا هو أن يرونا نفعل ما نحب. لا شيء سيقرّبهم من السعي إلى الراحة والسعادة سوى رؤيتنا نفعل ما نفعله من أجل استعادة ما يشبهنا في هذه الحياة. وسرعان ما ننتبه إلى أنه علينا أن نستشرس في الحفاظ على كل ما يشبهنا، من ملذات غذائية وموسيقية وأدبية، ومن صداقات خفيفة على الروح، وروح خفيفة على الذاكرة، وذاكرة تنتقي لنا أبسط الملذات لنمضي أيامنا بالحد الأدني في بلد يخطف منا كل يوم الحد الأدنى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image