كانت تجربة ثريّة تلك التي تعرفت فيها على هؤلاء الملتحين عن كثب، فقد ازددت معرفة بتفكيرهم وأحلامهم ورغباتهم وحتى مشاعرهم تجاه الآخر، سواء أكان هذا الآخر المتفق معهم، أو الآخر المختلف عنهم. فقد لاحظت بغض بعضهم لكل من يختلف عنهم في الفكر والمظهر والانتماء.
التاريخ لا يكفي لقراءة الأفكار، إنما التعامل المباشر هو الكاشف الأول لمعادن البشر، لذلك كانت فرصة جيدة للتعرّف على جانب آخر من الناس، لهم آراء وسلوك وطريقة تفكير مختلفة.
أصحاب التيار الإسلامي، الإسلاميون، أو أصحاب الإسلام السياسي، كلها مسميات لقطاع كبير من الناس، يمتزج بينهم أصحاب الفكر وأصحاب المصلحة والمرتزقة والمحبين للدين، بفهم وبغير فهم، والباحثين عن الهيبة التي تحققها اللحية الكثيفة والجلباب القصير، وغيرهم من الباحثين عن وجود صعب تحقيقه لغياب العلم والموهبة والتفرّد في أي مجال، فكان المظهر الديني هو الحل الأسهل لإبراز ذواتهم، ولذلك كثر المدّعون وكثر الأشياخ المزيفون.
قال لي أحدهم متهكماً: "أنت تكتب لإحدى الصحف اللندنية، اكتب براحتك.. كده كده حرام". ظننت أن اعتراضه وتهكمه لأن الصحيفة تصدر في أوروبا، حتى قال لي شيخ آخر: "الصحافة حرام.. ولو كانت حلالاً لفعلها النبي"
عربات الأمن والشعارات الدينية
كانت تلك المرحلة من حياتي مليئة بالالتباس، حيث أشاهد دائماً عربات الأمن تحمل الشباب الملتحين، يطلّون بالكاد من نوافذ صغيرة عليها شبكة من السلك، ويرددون "لا إله إلا الله... إسلامية إسلامية". كنت أشفق عليهم، حتى قرّرت أن اقترب، فربما الاقتراب يكشف شيئاً.
استرعى انتباهي الشيخ الذي يؤمّنا في المسجد، فعند مروره في الشارع رواحاً ومجيئاً لا يلقي تحية الإسلام، ومن المفترض أن يكون قدوة، فالحديث الشريف يحثّ على ذلك، السلام ينشر المحبة. والإسلام يوجب على المرء رد التحية.
تعرفت على الشيخ أحمد، إمامنا في مسجد "خامس الخلفاء الراشدين" عن طريق أحد أصدقائي من ذوي اللحى الكثيفة، ووجدته صاحب شخصية قيادية، رغم أنه ظل ساكتاً مستمعاً لفترة طويلة، حتى جاء يوماً وطالبني بضرورة الحضور مبكراً إلى المسجد لصلاة الفجر، ثم التوجّه لمشاركة الإخوة في لعب كرة القدم.
اعتذرت له مبرراً بأن التدخين يجعلني غير قادر على مجاراة الآخرين في الركض والعدو، فقال: "لا تتهرب"، واستشهد: "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة..."، وحينما سألته عن العلاقة بين لعب مباراة في كرة القدم والآية الكريمة؛ قال إن ممارسة الرياضة تعتبر استعداداً لملاقاة العدو.
كانت أرض المباراة ترابية، تجمعنا على شكل حلقة واحدة وقف الشيخ أحمد في وسطها يلقي أذكار الصباح، ونحن نردّد خلفه، ثم قسّمنا إلى فريقين، وأثناء اللعب أحرز أحد اللاعبين هدفاً رائعاً فصفّقت له مشجعاً، فضلاً عن إعجابي بروعة الهدف، فنظروا إليّ جميعاً يلوموني على التصفيق، وقال أحدهم إن ذلك من سلوك النساء.
تناول الإفطار في بيت إرهابي
بعد الانتهاء من اللعب، اصطحبنا الشيخ إلى بيته، قدّم إلينا فطارا جيداً به العديد من صنوف الأطعمة، فول وجبن، ومربى وبيض. رفضت في البداية خجلاً، فهي المرة الأولى التي أدخل بيته، لكن الإخوة أصرّوا أن أشاركهم، وكانوا يأكلون بنهمٍ وشهيّة. قال الشيخ: "عايزين نشوف عروسة للأخ طارق"، فقال أحدهم: "موجودة، لكن عليه أن يقلع عن التدخين أولاً"، وقال آخر "هيعقد ولا هيبني". فهمت أنه يقصد بالعقد عقد القران، أما البناء فقالوا انه يعني الدُّخلة (الزفاف).
كان عملي بالصحافة منذ السنة الثانية بالجامعة لا يروق لهم، فقال لي أحدهم متهكماً: "أنت تكتب لإحدى الصحف اللندنية، اكتب براحتك.. كده كده حرام". ظننت أن اعتراضه وتهكمه لأن الصحيفة تصدر في أوروبا، حتى قال لي شيخ آخر: "الصحافة حرام.. ولو كانت حلالاً لفعلها النبي".
شعرت بمدى التخلف الذي يعيشونه وتدني حالة الوعي والفهم، فهم متعلمون، بعضهم تخرج في الجامعة والبعض الآخر توقف بعد الشهادة الثانوية، لكن أفكارهم تنتمي لعالم قديم.
كنت شاباً يغضِب الله بالتدخين
أغرتني التجربة أكثر بالاستمرار لمزيد من الدهشة والتعرّف، أو بالأحرى لمزيد من الصدمة، وذلك على الرغم من أنهم كانوا يتركون بيني وبينهم مسافة، خاصة مع اختلافي معهم في بعض الأمور، وتضخيمهم لموضوع التدخين، فأنا بالنسبة لهم "مشروع صحفي"، ولي آراء عقلانية، وأغضب الله بالتدخين.
ذكرت لهم أكثر من مرة أن القرآن موجه لقوم يعقلون ويتفكرون كما جاء به، فكيف تريدونني أن آخذ النصوص كما هي دون تفكير وفهم، وأما الحديث فهناك الكثير منه موضوع أو مشكوك في صحته، ولا بد من تقصّي سلامته.
ربما لذلك كانوا يخاطبون بعضهم بعضاً بكلمة "الأخ فلان" ولا ينعتوني به، ربما لأن كلمة "الأخ" لديهم تحمل منزلة خاصة لا يستحقها مُدخّن مثلي. كما كانوا يتنافسون على سرعة البكاء في الصلاة بصوت مسموع، بينما كنت أخفي صوتي إذا بكيت، وسألت الشيخ ذات مرة عن عدم بكاء كثير من الناس في الصلاة، فقال: "لعلها كثرة المعاصي، لأن كثرة المعاصي تميت القلب".
قوات الأمن في بيوت الأصدقاء
آلمتني الأخبار التي تناقلتها الصحف ونشرات الأخبار حول حرق أندية الفيديو بالزيتون، وقيام الشرطة بالقبض على كثير من المشتبه بهم، كما قبضوا على بعض الملتحين من الحي الذي أقطن به، بعضهم تعرّفت عليه لأول مرة في أرض الملعب يوم لعبنا كرة القدم، ولم أره مرة أخرى، وبعضهم الآخر حضر متأخراً، فجاء إلى بيت الشيخ مباشرة قبيل الإفطار.
اختفوا أياماً قيد تحقيق أمن الدولة الذي سُمّي بعد ذلك بالأمن الوطني. تم الإفراج عن بعضهم واعتقل بعضهم الآخر، ظننت أول الأمر انها عشوائية وتخبط تزجّ بالناس في ظلمات مراكز التحقيق، ورغم معرفتي بأفكارهم، إلا أنني تعاطفت معهم بحدود.
ظننت أن الأمر به شيء من التجنّي عليهم، لكن الكشف لاحقاً عن كونهم ينتمون للجماعة الإسلامية أثلج صدري، وأنهى داخلي أي تعاطف معهم، فالجماعة الإسلامية أسسها القيادي ناجح إبراهيم في السبعينيات والشيخ عمر عبد الرحمن هو أمير الجماعة والأب الروحي لها، وقامت بالعديد من الأعمال الإرهابية.
آلمتني الأخبار التي تناقلتها الصحف ونشرات الأخبار حول حرق أندية الفيديو بالزيتون، وقيام الشرطة بالقبض على كثير من المشتبه بهم، كما قبضوا على بعض الملتحين من الحي الذي أقطن به، بعضهم تعرّفت عليه لأول مرة في أرض الملعب يوم لعبنا كرة القدم
الاقتراب ثم الصدمة والكشف
لقد كان في اقترابي من هؤلاء صدمة كبيرة، حيث بدأت الشفقة تستحيل إلى دهشة سببها ما لاحظته عليهم من طرائق تفكير وتردّي فكري وبدائية تسيطر عليهم، وفهمت في ما بعد أن اقتراب المقبوض عليهم من نوافذ عربات الأمن والتهليل والتكبير يكون عادة من أجل كسب تعاطف الناس ولفت الأنظار.
انجلت الحقيقة تماماً بالنسبة لي عندما تم اعتقال الشيخ أحمد واثنين آخرين ينتمون للجماعة الإسلامية، وعلمت أن إمام المسجد هو أمير الجماعة الإسلامية بالحي وأحد قياداتها.
كبرت صدمتي في هؤلاء، خاصة الشيخ أحمد الذي دخلت بيته ودخل بيتي، فالجماعة الإسلامية لها تاريخ أسود من القتل والاغتيال والتفجيرات، إذن الشيخ كان يخدعنا، يجمع الشباب للصلاة في بيت أحدهم، ويدعو إلى ممارسة الرياضة بعد صلاة الفجر، ويدعونا لتناول الفطور في بيته بناءً على سياسة تنتهجها الجماعة لجذب شباب بعضهم ينتمي بالفعل للجماعة، والبعض الآخر لا يدرك شيئاً، أو يحاول الاقتراب من أجل الفهم والتعرّف.
لم ابتعد وحدي بل تبعني آخرون، فيما انجذب البعض أكثر وكأنهم يبحثون عن مجدٍ وهْمي أو تحققٍ ما، الأمر الذي جعلهم قبلة شبه دائمة لزوّار الليل، يقضون أياماً في المخفر، يخضعون للتحقيق، ثم ينصرفوا لحال سبيلهم، فرحين بلحيةٍ وثوب قصير وزيارات ليلية تشعرهم بأهمية زائفة، قد تتطور لاحقاً إلى ما لا يحمد عقباه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع