شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أنا ثلاث نساء في مدينة واحدة... الممثلة منال عيسى و

أنا ثلاث نساء في مدينة واحدة... الممثلة منال عيسى و"بيروتها"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

"متل كأن حدا فات عبيتك وغيّرلك العفش وفل". (فيلم "البحر أمامكم"، 2021).

أصبحت جملة جنى التي لعبت دورها الممثلة منال عيسى بكلماتها: "سرقلك فرشك وفل. كل المحال أغلقت كأن أحداً دخل المحل، سرقه وأغلقه وغادر".

لم تكن عيسى تعرف بيروت من قبل. وُلدت في فرنسا لكنها عادت إلى لبنان في سنوات طفولتها المبكرة. كانت تعيش في منطقة الجيّة وتزور بيت جدّها في البازورية وأحياناً صور. كانت تقصد بيروت بمشاوير خاطفة. أتت إلى ضاحيتها الجنوبية في أثناء حرب تموز 2006، ثم سافرت إلى فرنسا.

منال عيسى

بعد تخرّجها من جامعتها الفرنسية في الهندسة الصناعية، خاضت أول تجربة تمثيل لها في فيلم "باريسية" (2015)، أو "الخوف من اللا شيء"، للمخرجة دانيال عربيد. ثم عادت إلى بيروت لتكتشفها: "مسكت الشنطة وبرمت". أقامت منال في "الحمرا"، فهي تجدها مفعمةً بالحياة بموسيقيّيها ورسّاميها ومبدعيها.

تتغير علاقة عيسى بالعاصمة اللبنانية نسبةً إلى ما تعيشه فيها. ساعدها التمثيل في التنقّل بين الدولتين (لبنان وفرنسا) لكنها شعرت بأن بيروت قاسية عليها عندما سكنتها

تتشارك عيسى مع شخصياتها الثلاثة: لينا "باريسية" (2015)، مايا "دفاتر مايا" (2021)، وجنى "البحر أمامكم" (2021)، علاقة الهجرة من بيروت. كلهنّ اختبرن نوعاً مختلفاً من الغربة والحنين والعودة والتصالح أو عدمه.

تتغير علاقة عيسى بالعاصمة اللبنانية نسبةً إلى ما تعيشه فيها. ساعدها التمثيل في التنقّل بين الدولتين، لكنها شعرت بأن بيروت قاسية عليها عندما سكنتها. كما أنها اختبرت معاملةً جلفةً في مجال التصوير هناك، إذ لا يعطون الشخص قيمته.

"أنجي"، المدينة الفرنسية التي سكنتها، حلوة، لكنها لا ترتاح فيها. أما باريس، فاختبرت صعوبةً بالغةً في العودة إليها ولا رغبة لها في ذلك. ولم تكن تجد من يؤجّرها منزلاً بسبب عملها كممثلة لاشتراط المؤجرين مدخولاً ثابتاً وتفاصيل أخرى.

يبقى في بيروت أناسها الـ"غالية ع قلبها أكثر من فرنسا"، برغم انقطاع التواصل مع كثيرين، لأنها تسافر وتعود كثيراً. كانت ترغب في أن تسكن بيروت عندما أنجبت ابنتها سونا، فكانت عودتها البيروتية. "حتى سونا تضجر في فرنسا. هنا نستطيع الوصول للناس. يسايرها الجميع ويعاملونها بلطف لا تختبره هناك، وهي تحب بيروت"؛ تصف عيسى علاقة ابنتها بالمدينة، التي تحمل مسؤولية تربيتها والاعتناء بها وحدها.

مبانٍ في بيروت في الماضي

تحاول أن تكون بخير ليكون من حولها بخير. تستمتع الفائزة بجائزة أفضل ممثلة لدورها في "البحر أمامكم" في Lebanese Movie Awards 2023، بالألعاب الإلكترونية. تحب ممارسة الرياضة لكنها لا تفضّلها عندما يجبرها انقطاع التيار الكهربائي على صعود ثمانية طوابق. حلاوة بيروت بالنسبة لها أنها تخلق فيها مساحتها الآمنة حسب رغبتها: "بدّك تسهري بتطلعي بتسهري. ما بدّك، بتقعدي بالبيت".

كانت عيسى متأكدةً من عودتها إلى بيروت، حتى على صعيد حياتها المهنية. فجرّبت السنة الفائتة أفلاماً كثيرةً في فرنسا، وقُدِّمت لها عروض عديدة لم تلاقِ طموحاتها، فالأدوار الأساسية فيها مملّة، وهي هدفها تمثيل أدوار جيدة وليس قضايا.

فجأةً، اتخذت عيسى قرارها بالتوقف عن التمثيل. كانت تذهب إلى التصويرات "حاطة إيدها ع قلبها"، متمنيةً أن يكون الجو لطيفاً. تتذكر كم استمتعت بتصوير فيلم المخرج إيلي داغر، على عكس فيلمٍ صوّرته مع شركة إنتاج عالمية، وكان من أسوأ تجاربها. صارت تعاني من "PTSD الـ set" كما تقول. كانت معاملتهم غير إنسانية برغم نجاحه العالمي. لذا قرّرت التوقف لتفهم نفسها وكيف تريد لعملها الذي تعشقه أن يكون وترضى عنه وتفرح فيه، لا أن تكون الفرحة محصورةً في الجمهور.

ترى منال أن "بيروت قاسية عالكل، على نفسها. وعندما لا تكونين بخير ولا أحد بجانبك، يدفعك ذلك للاعتناء بنفسك بحق. صرتُ أفضل عندما اتخذت قرار الاهتمام بنفسي. أصبحت بيروت أحلى. تتعرفين على نفسك عندما يحميك أحد، عندما يسألك أحد: 'كيفِك؟'".

لينا "باريسية" (2015): "في نفس الموت من جوا، بروح شي من الشخص"

"لم يعطني أحد شيئاً من المدينة عندما كنتُ في فرنسا، ولم يدعُني أحد كأن "تعي تعرّفي ع بلدي"؛ تستذكر عيسى. برغم أن لديها دائرتها الاجتماعية في أنجي، لكنها في الوقت ذاته "ما بعرف شي عن البلد لحسّه وارتاح فيه". تتمنى لو حصل معها ما حصل مع لينا. تراها قويةً بوصفها "ما عندي بيت معليه، بس عيش".

"كنت أخبر العالم بأنني أسمع القذائف، لكنني كنت أسمع أكثر صوت أهلي يتشاجرون". صارحت لينا جوليان بعلاقتها مع العائلة والوطن. برأي منال أن علاقة لينا ببلدها المتحارب مرتبطة بعائلتها التي شكّلت تحديات لها على صعد كثيرة. ترى عيسى جماليةً في ما فعلته لينا التي سافرت لدراسة اختصاص لم تختَره، فسمعت بتاريخ الفنون ودرسته مما خلق رغبتها في البقاء.

صورة لشارع في بيروت في الماضي

تحنّ منال إلى لحظات لينا ووالدها، لذا عندما توفي "فلّت دغري". ربما لو بقي على قيد الحياة لكانت بقيت أكثر برأيها، فأكملت دراستها في فرنسا وعادت بعد تخرّجها. تعتقد أن باريس كانت مهرباً لها.

تسترجع منال قول أهلها: "عندما نخسر أهالينا لن يبقى لنا شيء". للأسف، اختبرت ذلك بوفاة والدتها وهو ما كان من الأسباب الأساسية لعودتها. "في نفس الموت من جوا، بروح شي من الشخص"؛ تصف عيسى شخصية مايا في الجزء الأخير من Memory Box بعد موت أبيها (جو قديح)، وعدم وجود رجا (حسن عقيل). تتشارك شخصيَّتاها (لينا ومايا) فقدان الأب.

مايا "دفاتر مايا" (2021): "نحنا ما منرقص إلّا إذا آخدين شي"

ترى عيسى أن السفر للدراسة يمنح الشخص خبرةً مختلفةً كالتعرّف إلى الناس. لكن مايا سافرت برفقة أمها (نسرين أبي سمرا)، فلا نعلم ماذا فعلت، ولم تعِش شيئاً: "خلص بينكسر الواحد". تشعر بأن مايا خسرت كل شيء. واختيار المخرجَين جوانا حاجي توما وخليل جريج لها لمواعدة رجلٍ في كندا فكرة جميلة، لا يستدعي الشفقة. برغم ذلك ترى عيسى أنها إنسان ميّت لكن ابنتها أليكس (بالوما فوتيي)، تعود وتربطها بماضيها لتستطيع أن تحيا المستقبل.

لم تتغير نظرة عيسى إلى بيروت بعد Memory Box ، برغم أنها وُلِدَت بعد الحرب الأهلية. تصفها: "بعرفها هيك، نحنا اللي عم نعمل فيها لبيروت. بعرف أمراض الناس النفسية بعد الحرب وهذه 'الأمراض' ذاتها هي التي ما زالت تحكم".

مبنى أورينت في بيروت في الماضي

تحدّثت المخرجة جوانا ومنال عن اختلاف جيليهما؛ جيل حاجي توما عنده أمل أكثر برأيها، أما جيل عيسى، فينتظر النهاية قليلاً. حتى عندما قرأت مخرجة "Je Veux Voir" (2008)، فيلم عيسى الطويل، علّقت: "أوف كيف إنتو غير مع بعض، نحنا ماكنا هيك؛ كان في صعوبة بالغة، بس كنّا نرقص".

تغيّرت الأيام. تقول عيسى: "نحنا ما منرقص إلّا إذا آخدين شي، كله بيرقص كرمال الشي". تغصّ الممثلة المهندسة عند مشاهدة الفيلم، خاصةً بعد عودة الأصحاب والتقائهم فاليوم لا يلتقي الناس مع بعضهم، يعودون من الغربة ولا يخبرون أحداً.

"نحنا ما مناح" تقول عيسى التي ترى أن فيلمَي "البحر أمامكم" و"دفاتر مايا" يشبهان ولا يشبهان بعضهما، ولا يمكن تصنيفهما على أن واحداً صحيح والثاني خطأ. يصوّران تغيّر الإنسان: "نختلف كثيراً عن جيل أهلنا. كانت لديهم القدرة على الهجرة وإطلاق أعمالهم وزيارة الوطن. نحن الآن لا نستطيع. ربما لا يزال البعض قادراً لكن جيل الشباب هنا لم يعد السفر بالنسبة له سهلاً، يموتون كرمال فيزا. وعندما يسافرون يواجهون العنصرية المتزايدة".

بيروت روحها في ناسها. فمايا استشهد أخوها لكنها تعرّفت إلى رجا الذي كان إكسير حياتها لتحيا مع مشكلات أهلها. وكما لينا، هي متحمسة لتخبر صديقتها ليزا (ريم خوري)، عبر مراسلاتهما أنها "انغرمت بِرَجا". كان هنالك خوف لكن مايا جعلت مُنقِذها الحب: "ما في رجا، انهيار، في رجا، فرحة".

لا تستطيع مؤدّية دور الممثلة ماريا شنايدر في فيلم Maria Schnieder 1983 (2022)، مغادرة بيروت وعدم النظر إلى الوراء: "غصّيت بس بعّدت بيروت، دايماً بتضايق بس فل. لديّ الكثير لفعله هنا، الناس، كيف تفكر، ماذا يحدث، وكيف يتبعون الزعيم، إلخ".

تصف هجرتها الفرنسية: "يُشعرونكِ بأنه مرحّب بكِ وستكونين سعيدةً. كلا، لست سعيدةً. بالنسبة لي صرنا عنجد حرام بس هني (الفرنسيين) حرام أكتر. هنالك سرقة في بيروت، لكنه أمر جيد أنه ليست هنالك سرقة أكثر بسبب الأوضاع، لأن الناس ليست معتادةً على ذلك. في فرنسا كل دقيقة أنت معرّضة للسرقة. أنا عندي إنو بيتي هون (بيروت)". فهي مرتبطة بالمدينة، بمشكلات أناسها فيها متأثرةً بأحداثها، وتؤمن بضرورة عيشها لتستطيع تمثيلها.

جنى "البحر أمامكم" (2021): "يمكن بتصيري أقوى بس بتصيري من جوّا مكسورة"

"هذا الفيلم جمع كل أنواع الاكتئاب في البلد. هذا اكتئاب جماعي: الأم (يارا أبو حيدر)، الأب (ربيع الزهر)، آدم (روجيه عازار)، كلهم مكتئبون على طريقتهم ولا أحد قادراً على التكلّم مع أحد. العالم بتقطّع القلب. عندما عرضنا الفيلم في أوروبا هنالك لبنانيون قالوا: 'هلأ أنا جيت مش ماشي حالي'. عالم تقول: 'أنا خيفانة إرجع، بعدني مني منيحة'. هنالك هذا الشيء الذي يجب التحدث عنه لكننا نتجنّبه. والفيلم يشكّل 'تنفيسةً'"؛ تستذكر عيسى.

عندما رجعت جنى لم تكن لديها القدرة على إعادة الوصال ولا القول لأحد إنها عادت ولا مواجهتهم، إذ مرّت بتجربة بشعة جداً في باريس. عادت ضائعةً ولا تريد التكلّم ولا تعرف كيف تتصرّف ولا ماذا ستفعل. تؤمن منال بأن اكتئاب جنى حصل بعد تراكم الأسباب وليس لسبب وحيد. تقول: "كنّا أقوى من قبل، يمكن بتصيري أقوى بس بتصيري من جوّا مكسورة".

بيروت: أينكِ؟

أعادت فكرة فيلم "دفاتر مايا" والـ"تنبيش" في علب الأهل صوراً شخصيةً جداً لبيروت التقطتها المهندسة المعمارية والباحثة عبير سقسوق، كانت لرصيف22 أفضلية مشاركتها. التقطت هذه الصور في سن العاشرة. وقتها أعلنوا نهاية الحرب، وكانت المرة الأولى التي ينزل فيها الناس إلى خطوط التماس.

تسترجع المهندسة عبير ذكرياتها: "كانت أول مرة نذهب فيها إلى وسط بيروت، فزرت مع أمي وأختي ساحة الشهداء والتقطت هذه الصور. نسيت أمرها كلياً واحتفظ أهلي بها. المبهر فيها أنها التُقطت من وجهة نظر فتاة صغيرة ترى المدينة مدمّرةً. نستطيع قراءة ذاكرتَي الحرب والمدينة من خلالها إذ ترسّخ لحظة نهاية الحرب وما قبل إعادة الإعمار، وكم كانت تلك الفترة غنيّةً وامتلاك حيّز المدينة إمكانيات قبل تدميرهم لإعادة الإعمار. هنالك نوع من إمكانية أو بداية: 'أوكي خلصت الحرب، هالمساحات إلنا وعم نجي نستمتع فيها'".

تكمل المخططة المدنية سقسوق: "بدأ بعدها مشروع إعادة الإعمار وتحوّلت ساحة الشهداء إلى موقف للسيارات وإلى منطقة لديها النيّة في أن تصير مهمةً عقارياً واستثمارياً، لكنهم أعادوا تدمير ذلك. لذا برأيي هذه الصور وثّقت اللحظة الانتقالية وهو ما فكّرت فيه وأنا أشاهد الفيلم لأنها وهي تنكش في العلب، صحيح هذه الصور توثّق الحرب والدمار لكنها أيضاً توثّق لحظات بيروت التي كانت تُعاش بشكل 'ولا مرة رجعنا عرفنا'. لأن ما يحصل في أثناء الحرب، أجل، الدولة غائبة والشوارع 'فلتانة'، في الوقت ذاته، القمع ليس موجوداً فحوّل الناس المدينة إلى أشياء تريدها في لحظات صغيرة، مثلاً: في أثناء هدوء المعارك، يجلس الناس في زوايا (مطارح) ويضعون طاولات وكراسي ويدردشون. كانت علاقة الناس بالشارع وبالسّاحات عفويةً أكثر من اليوم، وهو ما كان يعبّر عن بيروت. يجسّد هذا المشهد آخر ما رأيناه في لحظات الحرب، من بداية التسعينيات ومشاريع إعادة الإعمار والتطوير العقاري الذي اجتاح المدينة. آخر من رأى بيروت بهذا الشكل جيلا الثمانينيات والتسعينيات لأن كل الأجيال التي تلتهما، أصبحت بيروت لهم مدينة الاستثمار والمجمّعات التجارية وتدمّر الكثير منها، فلا يعرفونها هكذا". لذا تعتقد أنه صعب عليهما ما تبقّى لهما منها.

تحزن المهندسة سقسوق من طريقة تعبير مايا في مشهد منطقة "الصنائع". برأيها لم تتكلّم مايا عن المدينة الجديدة بشكل نقدي: "نفهم أن بيتها تدمّر ولا نعرف السبب: الحرب أو جرافات سوليدير. طريقتها في التعبير عن وجود مبنى جديد 'حلو' مع ابتسامة، ليس هناك أي أسى مما حصل، كأنها تتكلم عن إعادة الإعمار بشكل لذيذ، كأنه لم يأتِ على حساب شيء آخر".

ذكّرها مشهد احتفالية جَمعَة الأصدقاء بهوية بيروت، ولذلك عادت إلى صورها شارحةً: "ذكريات الحرب التي برغم مآسيها هنالك شعور بالألفة وعلاقة ما بين الناس مع بعضها ومع المدينة لأنه في أثناء الحرب بالرغم من الدمار، كانت ما تزال المدينة موجودةً والتي لم تعد موجودةً الآن مما يعيدنا إلى فكرة العفوية في علاقتنا مع الحيّز ومعها".

تتوسّع عن هدف المشروع الاستثماري الذي غيّر هويتها العمرانية: "التركيبة التي تشكّلت خلال الحرب وترسّخت بعدها، وتزاوج الميليشيات ورأس المال المتمثل في الحريري ونيّته التعاون معهم، حصل بهدف إرساء مستقبل للبلد يراه من وجهة نظره كرجل أعمال. في النهاية هو ينفذ مشاريع على الأرض ورأى مستقبل المدينة ما بعد الدمار بتسهيلٍ من الميليشيات. وبرأيه أن هذه المشاريع ستجني للبنان الكثير من المال ومنها وضع بيروت ضمن خريطة الاستثمار العالمي. هذا المشروع هو نموذج خليجي، فصنع مستقبل المدينة تم على أساس كيف تجني ربحاً لرأس المال الذي دخل حديثاً وللميلشيات-السياسيين الذين شكّلوا الدولة في ما بعد.

لنصنع مالاً لهؤلاء يجب تغيير هوية بيروت، أو تغيير اقتصادها لأنه عندما نغيّر اقتصادها يتغيّر كل شيء. يصبح الهدف منها إنتاج المال، وليس اعتياش الناس وقدرتهم على العمل فيها. فلم يعد الهدف منها أن يسكنها الناس، ولا أن يكوّنوا اقتصادات منتجةً فيها. أصبحت الغاية منها الاستثمار وهذا له تداعيات على الهوية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مما يدمّر هويتها المحليّة".

صورة من بيروت الماضي

تصف ما حدث بـ"الفقاعة: همّنا كلنا نجاح هذا المشروع وعاش الجميع على أطلال نجاحه إذ إن الكثير من الناس غيّروا أعمالهم ليدخلوا هذه الدوامة كالذي يملك مبنى، وقرّر هدمه وبيعه لمطوّر عقاري. ومن يملك محلاً حرفياً أتى من حوّله إلى مطعم. قَبِل الجميع بهذه الكذبة-الفقاعة التي نجحت. كانت استعراضيةً إلى حد ما لسنين طويلة. ثم انفجرت وفشلت اليوم: هذه الأماكن فارغة، هذا النموذج الاقتصادي انهار. كلنا نعيش تداعياته: الناس تهجّرت من بيوتها ولا تعلم أين تعيش".

تؤكد منال عيسى واصفةً: "بيروت أصبحت مدينة أشباح. لم تكن كذلك، لكن جزء الزيتونة باي كله مدينة أشباح. تغيّرت المنطقة، تلك البيوت تأخذ البلد إلى مكان آخر".

تؤكد منال عيسى واصفةً: "بيروت أصبحت مدينة أشباح. لم تكن كذلك، لكن جزء الزيتونة باي كله مدينة أشباح. تغيّرت المنطقة، تلك البيوت تأخذ البلد إلى مكان آخر"

تقول الباحثة عبير إن سياسة القروض النقدية التي يمر بها لبنان، ليست من اختراعه. أخذها من مناطق أخرى يحصل فيها الشيء ذاته مثل فرنسا وأمريكا وغيرهما. هذه السياسة النقدية كانت سياسةً عالميةً: كل شيء عقاري حصل تعرّضت له المدن مثل باريس ونيويورك والذي صار شعاره: "المدينة ليست للفئات الهشّة، ليذهبوا إلى الضواحي ويدبّروا راسن هونيك".

تمثال ومبان في السنوات الماضية في بيروت

تغيّرت التلقائية التي كان يعيشها الناس في مدنهم لأسباب عديدة. تعددّهم سقسوق كالتالي: "أولاً، المدينة تقسّمت أكثر، سواء بأوتوسترادات أنشئت وطرقات عريضة جعلت تجربة المشي واستكشافها أصعب بكثير، مثلاً جسر الـ'رينغ' الذي أنشئ أواخر الحرب وتطوّر تدريجياً. تأثّرت تجربة المدينة كثيراً في هذه الأوتوسترادات وصعوبة استكشافها.

ثانياً، أصبحت في المدينة آليات تقيّد العفوية والحرية أكثر بكثير، سواء من الأمن الخاص في الأماكن العامة، أو الأمن الخاص بالأحزاب، وإذا يمكن التصوير في هذه المنطقة أو "منطُبْ عليك"، الأمن العام الذي لا يسمح بالدخول إلى جنينة الصنائع أو حرش بيروت، أو الطرق "المؤمّنة" في وسط بيروت وهل يمكن الدخول أو التصوير فيها أو لا تستطيع أن تفعل كذا.

ثالثاً، العامل الأكثر تأثيراً تجربة المدينة التي أصبحت مرتبطةً كثيراً بالأماكن الاستهلاكية. أصبح جيل بكامله يَستَهلِك أكثر مما كانوا يستهلكون في المدينة. يذهبون إلى المراكز التجارية، المطاعم، المقاهي، في عمر صغير جداً. لم يكن هذا موجوداً".

تستذكر طفولتها: "يعني إذا كنتُ أريدُ أن أجد شيئاً لأفعله يجب أن أنزل إلى الشارع وأجرّب مع أولاد الحي. لا أقول إن هذه التجربة أُعدمت، لكنها تتقلّص خصوصاً في بيروت الإدارية".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image