يبدو أنّ المعركة بين التوأمين: هاشم وعبد شمس؛ ولدي عبد مناف بن قصي زعيم قريش لن تنتهي أبداً. يحكي لنا المقريزي عن أسباب النزاع بين بني هاشم وبني أمية، والذي ابتدأ من الرحم الذي جمعهما، فقد ولدا ملتصقي الرأس وفصل بين رأسيهما السيف، وظلّ السيف بينهما يتبادلانه طعناً وقطعاً للرّقاب.
وطّد معاوية خلافة الأمويين في بلاد الشام، وتتابع بعد ذلك الخلفاء الأمويون حتى أسقطهم العباسيون، الذين دامت خلافتهم في بغداد حتى سقطوا على يد المغول.
ولولا عبد الرحمن الداخل الملّقب بصقر قريش من قبل عدوه أبي جعفر المنصور، لما كان للأمويين من ذكر بعد آخر خليفة لهم المدعو محمد الحمار. سأل أبو جعفر المنصور مجالسيه: "أتدرون من هو صقر قريش؟" وبعد أن أعيتهم الأجوبة قال لهم هو: "عبد الرحمن بن معاوية، الذي تخلّص بكيده عن سنن الأسنة، وظُبات السيوف. يعبر القفر، ويركب البحر، حتى دخل بلداً أعجمياً. فمصّر الأمصار، وجنّد الأجناد، وأقام ملكاً بعد انقطاعه بحسن تدبيره، وشدة عزمه، ثم أقام مقارنة بينه وبين الخلفاء الأمويين الذين حظوا بمساعدة حتى تقلّدوا الحكم، فمعاوية نهض بمركب حمَلَه عليه عمر وعثمان، وذللا له صعبه. أمّا عبد الملك بن مروان، فقد جاءته الخلافة ببيعة تقدّمت له. في حين كان عبد الرحمن منفرداً بنفسه، مؤيداً برأيه، مستصحباً عزمه، فصنع مجده في الأندلس".
وصف معاوية بن أبي سفيان، بأنّه نهم لا يشبع له بطن، حتى ضرب المثل بشدّة شرهه للطعام. قال أحدهم كما جاء في كتاب "يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر للثعالبي": وصاحب لي بطنه كالهاوية/كأن في أمعائه معاوية
هذا المديح من أبي جعفر المنصور لم يمنع العباسيين من قطع دابر الأمويين حتى في قبورهم. فقد نقل ابن كثير في كتاب "البداية والنهاية": "أنّ الأمير العباسي عبد اللَّهِ بن عليّ لما دخل دمشق نَبَشَ قبور بَنِي أُمَيَّةَ، فَلْمْ يَجِدْ فِي قَبْرِ مُعَاوِيَةَ إِلَّا خَيْطًا أَسْوَدَ مِثْلَ الْهَبَاء، وَنَبَشَ قَبْرَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَوَجَدَ جُمْجُمَة، وَكَانَ يُوجَدُ فِي الْقَبْرِ الْعُضْوُ بَعْدَ الْعُضْوِ، غَيْرَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَإِنَّهُ وَجَدَهُ صَحِيحاً لَمْ يَبْلَ مِنْهُ غَيْرُ أَرْنَبَةِ أَنْفِهِ، فَضَرَبَهُ بِالسِّيَاطِ وَهُوَ مَيِّتٌ، وَصَلَبَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، وَدَقَّ رَمَادَه”.
وعلى الرغم من ذلك العنف يذكر لنا التاريخ أنّ العباسيين قد مالوا إلى اللين بعد أن استتب لهم الحكم، لكن نار الانتقام لم تكن لتهدأ حتى يضرمها مناوئ لبني أمية. فلقد كان أبو العباس السفاح جالساً وعنده الأموي سليمان بن هشام بن عبد الملك وقد أكرمه، حتى دخل عليه الشاعر سَديف منشداً الخليفة أبي العباس:
لا يغرَّنك ما ترى من رجال/إنّ تحت الضلوع داءً دويّاً
فضع السيف وارفع السوط حتى/لا ترى فوق ظهرها أمويّاً.
فقال له سليمان: قتلتني ياشيخ. ومن ثم أمر أبو العباس بأن يقتل.
أصبح هجاء الأمويين طريقة لإظهار الموالاة لبني العباس، فقد دخل شبل بن عبد الله؛ وهو من موالي بني هاشم على عبد الله بن علي وعنده تسعين أموياً على الطعام، فأنشد:
أصبح الملك ثابت الأساس/بالبهاليل من بني العباس
طلبوا وترَ هاشم فشفَوها/بعد ميلٍ من الزمان وياس
لا تُقيلنَّ عبد شمس عِثاراً/واقطعَنْ كلَّ رقلة وغراس
ولقد ساءني وساء قبيلي/قربهم من نمارقٍ وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الله/بدار الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيد/وقتيلاً بجانب المهراس.
فأمرعبد الله، فضربوا بالعُمُد حتى قتلوا، وبسط النطوعَ عليهم، فأكل الطعام عليها وهو يسمع أنينَ بعضهم حتى ماتوا جميعاً.
لم تقف المعركة عند هذه الحدود، بل ذهبت مذاهب شتى، فمثل ما شنّع الأمويون على أحفاد هاشم، فعل العباسيون بالمثل. وبما إنّ التعفّف عن مغريات الدنيا كان من سمات المسلمين، وكان الطعام أحد تلك المغريات، فقد تناقل المؤرخون والكتاب في الزمن العباسي الكثير عن جشع ونهم الخلفاء الأمويين الذي لا يقف عند حد.
معدة كالهاوية
وصف معاوية بن أبي سفيان، بأنّه نهم لا يشبع له بطن، حتى ضرب المثل بشدّة شرهه للطعام. قال أحدهم كما جاء في كتاب "يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر للثعالبي": وصاحب لي بطنه كالهاوية/كأن في أمعائه معاوية.
ويعود شره معاوية للطعام لدعوة من الرسول، فقد طلبه، فتأخر عليه، لأنّه كان مشغولاً بتناول طعامه، وعندما علم الرسول بذلك قال: "لا أشبع الله بطنه".
وقد أكّد معاوية بأنّ نهمه إلى الطعام قد جاء بسبب هذه الدعوة، حتى أنّه كان يأكل سبع مرات في اليوم كما ذكر البلاذري في فتوح البلدان. وجاء في كتاب "نهاية الأرب للنويري": "كان معاوية رضي الله عنه نهماً شحيحاً عند الطعام على كرمه وسماحته، فأمّا نهمه، فقالوا أنّه كان يأكل خمس أكلات؛ آخرهن أغلظهن، ثم يقول: يا غلام، ارفع، فوالله ما شبعت، ولكن مللت. وروي أنه أصلح له عجل مشوي، فأكل معه دستاً من خبز السيمذ، وجدياً حاراً وجدياً بارداً وغير ذلك من ألوان الطعام. ويحكى أيضاً بأنّه وضع بين يديه مائة رطل من الباقلاء الرطب، فأتى عليه.
هذا ما ذكر عن شره الخليفة معاوية الذي سأل رجلاً عن ابنه الأكول، فأجاب الرجل بأنّه معتلّ، فقال معاوية: "مثله لا يعدم علّة"! فهل حقًا كان معاوية شرهاً لهذه الدرجة؟ وهو يعلم مخاطر الشراهة للطعام.
ذكر عن شره الخليفة معاوية بأنه سأل رجلاً عن ابنه الأكول، فأجاب الرجل بأنّه معتلّ، فقال معاوية: "مثله لا يعدم علّة"! فهل حقًا كان معاوية شرهاً لهذه الدرجة؟ وهو يعلم مخاطر الشراهة للطعام
أمّا عبيد الله بن زياد بن أبيه، الذي لم يعرف له أباً واستلحقه معاوية بنسبه، فقد صحّ نسبه عن طريق ابنه عبيد الله، بموجب شرهه إلى الطعام، فقد حكى البلاذري في فتوح البلدان بأن عبيداً كان أكولاً، يأكل في اليوم خمس مرات، آخرها جبنة بعسل توضع بين يديه بعد فراغه من الطعام. وكان يأكل جدياً أو عناقاً يتخيّر له في كل يوم. وقد مرّ بالطف، فقال رجل من بني أسد: "أتتغذى أصلح الله الأمير؟" فأكل عنده هذا الشخص عشر بطات وزنبيلاً من عنب، ثم عاد وأكل عشر بطات أخر، وزنبيلاً من العنب وجدياً زيادة على ما سبق.
الأكول الأموي الأكبر
إنّه سليمان بن عبد الملك الذي يشبه في شرهه العملاق عوج بن عناق الذي كان يشوي الحوت في عين الشمس ويأكله دفعة واحدة. جاء في كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري بأنّ سليمان بن عبد الملك: "شُوى له أربعة وثمانون خروفاً، فمدّ يده إلى كل واحد منها، فأكل شحم أليته ونصف بطنه، مع أربعة وثمانين رغيفاً، ثم أذن للناس، وقُدم الطعام، فأكل معهم أكل من لم يذق شيئاً. وقال الشمردل وكيل عمرو بن العاص: قدم سليمان بن عبد الملك الطائف، فدخل هو وعمر بن عبد العزيز، فجاء حتى ألقى صدره إلى غصن، ثم قال: يا شمردل، ما عندك شيء تطعمني ؟ قلت عندي جذعٌ تغدو عليه حافل وتروح أخرى، قال: عجّل به، فأتيته به كأنّه عكة سمن، فجعل يأكل وهو لا يدعو عمر، حتى بقي منه فخذ، قال: يا أبا حفص، هلم، قال: إنّي صائم، فأتى عليه، ثم قال: يا شمردل ويلك ! ما عندك شيء ؟ قلت: دجاجات ست، كأنّهن رئلان النعام، فأتيته بهن، فأتى عليهن، ثم قال: ويلك يا شمردل! ما عندك؟ قلت: سويق كأنّه قراضة الذهب، فأتيته بعس يغيب فيه الرأس، فشربه، فلما فرغ تجشأ كأنه صارخ في جب، ثم قال: يا غلام! أفرغت من غدائنا؟ قال: نعم، قال: ما هو؟ قال: نيف وثمانون قدراً، قال: فأت بقدر قدر، وبقناع عليه رقاق، فأكل من كل قدر ثلاث لقم، ثم مسح يده واستلقى على فراشه، فوضع الخوان، وقعد يأكل مع الناس".
تكثر القصص عن شراهة سليمان التي لا تتوقّف عند حدٍّ. وفي قصة ذات دلالة على تشنيع العباسيين على بني أمية، فقد ذكر الأصمعي بأنّه كان حاضراً عند الرشيد: "فجيء بصناديق من ذخائر بني أمية، ففتح صندوقاً منها، فوجد فيه ثياب الوشي، وقد سال الدهن على صدورها وأكمامها. فسأل الناس عن ذلك، فلم يجد عندهم جواباً. وقد كان عنده رجل من بني أمية فقال: "أمير المؤمنين هذه ثياب سليمان بن عبد الملك كان شرهاً أكولاً".
وتستمر الدعاية العباسية عن شره الأمويين، فها هو الحجاج بن يوسف الثقفي، لا يقل شرهاً عن ساداته، فقد جاء في نهاية الأرب بأنّ سالم بن فقيه كان في بيت الحجاج مع ولده: "فقالوا جاء الأمير، فدخل الحجاج وأمر بتنور، فنصب، وأمر رجلاً يخبز خبز الماء ودعا بسمك، فأكل حتى أتى على ثمانين جاماً من السمك بثمانين رغيفاً من خبز الماء".
هذه بعض أوجه المعركة التي أنبأت عنها، ولادة التوأمين عنها، اللذين حكم أحفادهما الأمة العربية الإسلامية من الصين إلى بلاد الغال في ذلك الزمان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.