"يسعى كل الرجال ليكونوا سعداء. ما يدفع البعض للذهاب إلى الحرب، والبعض الآخر لا يذهبون لنفس الدافع: السعادة، إنه الدافع لجميع الرجال حتى أولئك الذين سيشنقون أنفسهم هذا المساء". هكذا يقول باسكال، عن الرجال تحديدا، أو على الأقل من وجهة نظرهم، وربما باستثناء الذهاب إلى الجنة، لا يوجد هدف آخر يحظى بالإجماع الذي يحظى به هذا الهدف، لكن لسوء الحظ، وكما يقول كانط، إن هذا الهدف غير معيّن وغير جلي لدرجة أن لا أحد يستطيع أن يقول بعبارات واضحة ومحددة ماهي سعادته: هل هي الثروة، الشهرة، النفوذ أم غياب المعاناة فحسب؟

يستحيل علينا أن نحرر أنفسنا من الرغبة بأن نكون سعداء

هل "المغفلون" أكثر سعادة؟

من المنطقي الميل نحو الرد بالإيجاب على سؤال مماثل، بدليل قياسات الرضا والاستبيانات والعوامل الأخرى التي تمت دراستها، كما أن الفكرة العامة هي أن "الفطنون" يميلون بشكل خاص للتعمق في المواضيع والأفكار والتساؤل باستمرار عما خلف الأشياء الواضحة، وهذا ما يجعلهم أكثر قلقاً وفضولاً وأقل استقراراً، بينما يميل "المغفلون" بالعموم إلى الإجابات الجاهزة والعموميات التي لا تلزم الكثير من التفكير، لكن هذا السؤال بحد ذاته يقيس شيئين لا علاقة لهما ببعض، ويجمع بين مصطلحين مختلفين تماماً، السعادة وهي فكرة ذاتية ونسبية تخضع لعوامل شخصية بالدرجة الأولى، والذكاء هو طريقة معينة في تناول الظواهر وتشريح الحقائق وطرح الأسئلة، فيعلم الجميع أن شخصاً، بغض النظر عن مستواه العقلي، قد يسعد بالأشياء الصغيرة التي تتضمنها الحياة البسيطة، بينما "يشقى ذو النعيم بعقله".

في الحقيقة هذا السؤال أصلاً يزيد من الشعور بعدم الرضا عن الذات ويخلق مشكلة لم تكن أصلاً موجودة، كما تفعل الإعلانات: تخلق لديك حاجة بالقوة لأمر لن تحتاجه قبل أن تمتلكه، وفي الواقع لا يمكن السماح لفكرة "التفاهة" أن تسيطر على الأشخاص الفطنون أيضاً كما سيطرت على يوميات الأقل معرفة، الذكاء يخلق مسافة مع العالم تجعلنا نعيش بشكل أفضل بالتأكيد.

الهوس بالسعادة... عشرون دولاراً فقط ما يفصلها عنك

تتحدث الكاتبة البريطانية والباحثة في جامعة لانكستر، سارة أحمد، في كتابها "وعد السعادة" عن الهوس الجمعي الذي حصل في وقت ما بعد الألفية الثانية بتحقيق السعادة، وتُسمّي هذا الهوس "نقطة تحول السعادة"، حيث تمّت طباعة عدد لانهائي من الكتب والمقالات ومحاضرات التنمية البشري، ولا سيما "علم النفس الإيجابي" لإقناعك بتعاستك الجديدة، ومن ثمّ تخليصك منها و"كل هذا بعشرين دولار مع أجور الشحن"، حيث أصبح وهم السعادة نوعاً من الصناعة التي تستجلب كل يوم رؤوس أموال للاستثمار في إنتاج هذا الوهم واستهلاكه أيضاً وتضخيمه بحيث يصبح "لاريب فيه"، وتحولت "حمّى البحث عن السعادة"، كما "حمّى البحث عن الذهب"، مطلباً شعبوياً بعد أن كانت سؤالاً لاهوتياً وأخلاقياً وفلسفياً.

تحولت "حمّى البحث عن السعادة"، كما "حمّى البحث عن الذهب"، مطلباً شعبوياً بعد أن كانت سؤالاً لاهوتياً وأخلاقياً وفلسفياً

كما أن الهوس الجمعي بتحقيق السعادة خرج من إطار الرضا الذاتي الذي أشاعته الأديان من حيث كونه "علاقة خاصة مع الإله"، ودخل في إطار الحملات الانتخابية والإنجازات الدولية، حيث نشرت العديد من الإحصائيات التي تقيس السعادة بكمية الثروة، بالناتج الكلي وبمؤشرات أخرى "مالية"، لكن المفاجأة تمثلت حين حصلت الدول الأقل تقدماً، كبنغلادش مثلاً، على مرتبة أعلى من الدول الأوربية، فآلية عمل السعادة وقياسها بالنسبة للغربي تستند لنموذج من التأثيرات الواضحة بل والشفافة والتي تكوّن أسس الحياة الأخلاقية: الشعور بالرضا عن الذات وعن الأهداف التي خُطط لها سابقاً، مثل الزواج، العمل، الدراسة والاستقلال المادي والنفسي، وهذه كلها تقود إلى المزيد من "الإنجاز"، لكن المفارقة أن الإنجاز المفترض حصوله لدى الأفراد الذين يشكلون مجتمعات غربية، وبرغم من ارتفاعه المضطرد، لم يجعل البشر أكثر سعادة، ذلك أن البحث عن السعادة تمّ حيث لا يمكن أن توجد، في الشارع المضاء بمصابيح وليس حيث فقدناها فعلاً، والمفارقة الكبرى أن التشكيك في افتقاد السعادة هذه لم يؤد بالمجتمعات الغربية للتشكيك بمثلها ومبادئها التي تزعم أنها الطرق الوحيدة للسعادة، بل زادت من التأكيد على أن المزيد من الثروة، المزيد من الشهادات العليا، المزيد من الاستحواذ على الحياة السياسية والنفسية سيؤدي، وبالضرورة، للسعادة المفقودة، وهذا ما لم ولن يحصل.

يسخر فرانسوا موريل، وهو كاتب وممثل كوميدي فرنسي، من المفهوم الغربي للـ "الإنسانية" الذي قلّص مفهوم السعادة القديم عند الأنظمة والمجتمعات الكولونيالية والبطريركية: "قريباً لن نتمكن من الجلوس على العشب وإلا سنسحق الحشرات النادرة، قريباً لن نتمكن من قتل فيل للحصول على العاج، قريباً لن نتمكن من غسل سياراتنا لأن المياه قليلة، ولن نتمكن من الحصول على بامبولا (أي عبد إفريقي) لخدمتنا وإلا سنكون داعمين للعبودية، لن يعود بإمكاننا تغيير زيت السيارة ولا أكل الفراولة في الشتاء لأن ذلك يسيء إلى البيئة".

بدونه تصبح الحياة برمتها عبارة عن مهنة مكررة وغير مدهشة، كأغنية وحيدة يكررها المذياع إلى مالانهاية... البحث عن السعادة 

كما خلط الجميع السعادة بالمتعة خلطوها أيضاً بالامتيازات، بالوسائل التي تعظّم فرصة الحصول على ما نريد، يسخر منها موريل باعتبارها "منتجاً اقتصادياً" أيضاً، مثل البن المطحون والنفط المكرر وآلات إزالة الشعر، بحيث يتم تعريف "الشخص السعيد" كما يعرفه آلان كار، وهو من أشدّ المدافعين عن علم النفس الإيجابي، كالتالي:

"من المرجح أن يتواجد الأشخاص السعداء في البلدان المزدهرة اقتصادياً، حيث الحرية والديمقراطية والاستقرار السياسي، ومن الأسهل مقابلة الأشخاص السعداء في مجموعات الأغلبية مقارنة بالأقليات، وفي كثير من الأحيان في الجزء العلوي من السلم الاجتماعي، عادة ما يكونون متزوجين ولديهم علاقات جيدة مع العائلة والأصدقاء، أصحاء جسدياً وعقلياً، نشطاء ومنفتحون ويسيطرون على حياتهم، ويميل الأشخاص السعداء إلى أن يكونوا محافظين بالعموم".

تصف سارة أحمد هذا التعريف بالتفاؤل الغبي، لأن ما تضمنه التعريف هو امتيازات يتمّ الحصول على أغلبها بالولادة، وتُخرج السعادة من إطارها الفردي لتصبح معطى اجتماعياً مؤثراً، مثل الأعراف والعادات، كما لو أن الأمر ليس أكثر من صدفة بيولوجية يتم منحها لبشر وحجبها عن آخرين، ويحجب أهمية السعي وتفضيل طرق عيش عن أخرى، كما أنه يصنع فصلاً بين الطبقات التي تتبنى أخلاقاً متباينة ونظماً وعادات متغيرة تبعاً للزمان والمكان، تضيف سارة: "السعادة بهذا التعريف مفهوم برجوازي فحسب، بطريركي وكاثوليكي بالضرورة".

هل يستحق الإنسان أن يكون سعيداً

إن افتراض الحصول على السعادة يستجلب وجود غاية، أو إرادة عليا مخططة للغايات وللمصائر: "وما خلقتكم إلا لتعبدون"، للاستماع إلى الوصايا وتحقيق الخطة المرسومة منذ ملايين السنين، والمتضمنة في اللوائح والوصايا واتباع الأقوال المرسومة وعدم التشكيك للحظة بالإيمان بالغاية الربّانية. لقد حررنا أنفسنا من قيود الدين والأسرة والسياسة لكننا وقعنا فريسة لـ "بعبع" السعادة، فهي خلافاً للقيم المجردة الأخرى، كالحق والخير والعدل، لا تحتاج لمساعدة كبيرة، لا من الله ولا من الدولة، ومع أن الحصول عليها بسيط للغاية، طالما أنها ذاتية لهذه الدرجة وشخصية، إلا أنها تواجه عقبات مستمرة، إذ إنها وقبل كل شيء تأتي بالضبط عند غيابها، أو نشعر بدقة بأنها كانت لدينا منذ دقائق، قبل أن يفلس البنك الذي وضعنا فيه أموالنا، قبل أن يكتشف شركاؤنا عشّاقنا السريين أو أن تصلنا فاتورة كهرباء ضخمة. لا يمكن أن تحصل على السعادة إلا بالخوف من فقدانها ومع الرغبة بدوامها، ومع أنها تأتي مرهونة بسعادة الآخرين إلا أن سعادة الآخرين أيضاً تحرمنا من حصتنا من السعادة، كما الميزان، ما ينقص لدينا يحصل عليه طرف آخر، وبالتالي يبقى الشخص متأرجحاً بين الإحباط من عدم الحصول عليها والحسد من حصول الآخرين على ما يظنه هي.

السعادة لا تجعلنا أكثر ذكاء أو نجاحاً، هي تعمي الفضول وتنشأ من التناقض بين تعاسة الآخرين وتعاستك الشخصية، وهذا الترتيب الطبيعي للمواقف يتطلب قدراً معيناً من الذكاء مرة أخرى، وهذا ما يثير التناقض: الأذكياء إذن أسعد حالاً.

السعادة لا تجعلنا أكثر ذكاء أو نجاحاً، هي تعمي الفضول وتنشأ من التناقض بين تعاسة الآخرين وتعاستك الشخصية

إن كل البحوث حول السعادة افترضت أنها شيء جيد للبشرية ويمكن الحصول عليه بمجرد اتباع تقاليد معينة: أحبب لغيرك ما تحب لنفسك، المساواة، العدالة، أي تحويلها إلى قوانين مكتوبة وإشارات مرور: أصفر، أحمر، أخضر، يكفي اتباعها لضمان عدم الحصول على مخالفة، لكن من قال إن عدم التعاسة يعني السعادة؟

ثم ماذا فعل البشر ليستحقوا شعوراً مماثلاً؟

إنهم يتحاربون ويستعبدون بعضهم البعض ويشجعون على المزيد من الإساءات، بحيث يملؤون الفراغ الذي خلقه الوعد المثالي بالسعادة بإطالة عذابات الآخرين ومطاردة الرغبات السامة، لكننا نسعى خلفها، نحتاجها، نرتكب جرائم لأجل صيانتها وحماية حدودها، يستحيل علينا أن نحرر أنفسنا من الرغبة بأن نكون سعداء، التي تشبه غريزة مثل نداء الطبيعة، تعطشنا للسعادة ورغبتنا بقياس ما نعيشه بمقياس السعادة هو سبيلنا للإعجاب بأي شيء، بالمدن والجمال ونجوم الفوتبول، وبدونه تصبح الحياة برمتها عبارة عن مهنة مكررة وغير مدهشة، كأغنية وحيدة يكررها المذياع إلى مالانهاية.