"في اتصال مع أمّي مؤخراً، بدت الأمور مختلفةً. تحدثنا عن الأوضاع في لبنان وما يواجهه مجتمع الميم-عين، فأخبرتها للمرة الأولى وبشكل علني بأنّني مثلي. قالت لي إنّها تعرف هذا الأمر، وإنّها تناقشه أحياناً مع شقيقتي. وعبّرت لي بأنها تحبني كما أنا وتعلم أنّني شخص جيّد، حتى أنّها تريد مقابلة حبيبي... كنت سعيداً بأن أجري هذا الحديث مع أمّي بعد كل ما جرى"؛ بهذه الكلمات، يفتح الفنان اللبناني محمد الكعكي قلبه لرصيف22، ويكشف كيف تحسنت علاقته اليوم بوالدته بعد سنوات كثيرة من المواجهة الشرسة مع المجتمع.
رحلة ملهمة
إن رحلة التقبّل والمواجهة التي خاضها محمد الكعكي لم تكن سهلةً أبداً: قطع رحلةً ملهمةً اصطحب خلالها معه في جميع الفترات هويته وميوله الجنسية، من المدرسة حتى الجامعة وصولاً إلى اليوم. لمن لا يعرف محمد، هو فنان غرافيك ومصمم ويمتلك موهبةً رائعةً في اللعب على الكلام وجعل الكلمات التي نضعها تحت خانة "العيب" فنّاً.
يحاول الكعكي من خلال صفحته الخاصة نشر تصاميم برسائل قوية سياسية واجتماعية، كما ابتكر صفحة Mass-Khara التي تحوّل الكلام البذيء فيها إلى فنّ جميل.
يظهر محمد الكعكي هويته الجنسية في أعماله، وصفحاته اليوم ملجأ لأفراد مجتمع الميم-العين لأنّها تعكس لغتهم/ نّ وتطلعاتهم/ نّ ومشكلاتهم/ نّ كما نكتهم/ نّ.
كل هذا أتى من طفولة صعبة تخطاها بتحقيق وعود كبيرة قطعها لنفسه. لم تكن عائلة محمد متقبلةً للأمر، كما لم تكن ميسورةً مادياً، وتعرض لرفض كبير.
يخبرنا محمد عن ذكرياته خلال طفولته: "كنت في فترة المدرسة أتعرض للتنمر بشكل كبير، وفي حينها لم أعلم ماذا تعني مثلية أو جنس. كنت فقط أحب قضاء الوقت مع الفتيات وكانت تتبعني وصمة أنّني أتصرف مثلهن. وصل التنمر إلى التهديد بالقتل والضرب، وكنت أحياناً أبقى في الصف في أثناء الفرصة، وصديقاتي الفتيات كنّ يدافعن عنّي ويشجعنني على الخروج والمواجهة. استمرت هذه المعاناة مع التنمر حتى علمت عائلتي بأنّني مثلي وأخذوني إلى معالجة نفسية كي أخضع 'للتحويل'، على حدّ قولهم".
يحاول الكعكي من خلال صفحته الخاصة نشر تصاميم برسائل قوية سياسية واجتماعية، كما ابتكر صفحة Mass-Khara التي تحوّل الكلام البذيء فيها إلى فنّ جميل
لحسن حظ محمد، كانت المعالجة النفسية ضدّ "علاجات التحويل"، وقالت له إنّها لن تستمع لعائلته، ولن تنفذ طلباتها. منذ حينها قطع محمد وعداً على نفسه بأن يكون ناجحاً في حياته، وأن يكون الأول ويصبح أفضل من الجميع. ومع دخوله الجامعة اللبنانية وتعرضه للكثير من التنمر من قبل الحزبيين والدينيين وحتى التلامذة المحافظين، تمكن من بناء شخصية أقوى أحياناً تدفع نحو الردّ على المتنمرين/ ات وأحياناً تمكّنه من أن يتجاهلهم/ نّ. كان محمد الأول في الجامعة، وكانت هويته تظهر في تصاميمه حتى في مشاريع الجامعة، حتى أنّه فاز بجوائز في أثناء دراسته.
كيف تغيّر كل شيء؟
يخبر محمد عن تلك اللحظة التي غيرت كل أفكاره تجاه نفسه: "فزت في الجامعة في مسابقة لطيران الشرق الأوسط شارك فيها طلّاب من الجامعات كافة، بسفرة مدفوعة التكاليف. أظن أنها كانت مرحلةً انتقاليةً لكي أبرهن للعالم للمرة الأولى أنّني شخص ناجح ويمكنني تحقيق أحلامي وأفعل ما لا يمكن لأحد فعله. لم تكن عائلتي في وضع مادي جيّد، وكنت أجد نفسي أمشي من دوحة عرمون حتى جامعتي في الشويفات نحو ساعة ونصف وأحياناً لم أكن أمتلك مصروفاً لشراء الطعام، وهذه الانتصارات الصغيرة تعني الكثير لي بالأخص حينها مع الرفض الذي تعرضت له. ولهذا يمكن القول إنّني كنت شاباً مثلياً، من عائلة تعاني مادياً، أتعرض للرفض والتنمر، ومع هذا أكملت الطريق. كان كل ما مررت به تحفيزاً. كنت أفوز في كل مسابقة في الجامعة، ومع التنمر كان الكل يأتي ليأخذ رأيي ويسألني".
"لا أحب أن أظهر مجتمعنا وكأنّه ضعيف أو أظهر أنّنا ضحايا. أحب أن تكون تصاميمي قويةً، وغالباً ما أجعلها كذلك في اللغة أو الألوان"
يكمل الكعكي في ما يتعلق بتقبل نفسه واحتضان هويته الجنسية بعد هذه المعاناة، قائلاً: "حينما كنت صغيراً، لم أكن أعرف ما تعنيه كلمة مثلية. كنت أجلس وأتمنى أن أكبر وأهرب بعيداً، وأن أصبح امرأةً عابرةً، ولا يعلم عنّي أحد، ولا يتمكن أحد من قتلي أو معاقبتي أو التنمر عليّ. في حينها لم أعلم ماذا تعني المثلية، وكنت أغرق في فكرة أنّني 'بنوتة' كما ينعتني الآخرون".
عانى محمد لتقبّل هويته، غير أنه وجد دعماً من مجتمع الميم-عين نفسه في لبنان: "كنت أتصفح فيسبوك ووجدت منشوراً لشخص يدافع عن مجتمع الميم-عين، وكان هذا كافياً ليبعث فيّ القليل من الأمل. كلّمته وأخبرته عن معاناتي ووجدت الدعم الذي كنت أبحث عنه. طلب منّي أن أزور 'حلم' حيث يعمل وهناك تعرفت على 'الكوميونيتي' ولقيت دعماً، ووجدت أشخاصاً مثلي، وأنا اليوم ممتن لهذا الشخص الذي لولاه لكرهت نفسي".
فنّ محمد
منذ الجامعة حتى اليوم، لم يخَف محمد الكعكي من أن يضع آراءه في تصاميمه، فحتى في أثناء دراسته في الجامعة اللبنانية، لم يخَف كعكي من أن يعبّر عن هويته أو آرائه. وحتى اليوم، نرى ذلك في صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي والتي يمكن القول إنّها تمثل الجميع وتمثّل مجتمع الميم-عين.
في صفحة الكعكي، أكثر من 30 ألف متابع/ ة، أما صفحته الثانية Masskhara، ففيها 149 ألف متابع/ ة. تتميز الصفحتان بجرأة كبيرة في التصميم والأفكار والكلمات. لربما الأرقام في صفحات محمد تفصح عن وجود قوي لمجتمع الميم-عين، الذي غالباً ما يُقال إنّه مهمش وغير موجود. هذه الصفحات تثبت أنّ المجتمع موجود وله قدرته على التعبير: "أظن أنّنا في مجتمع الميم-عين نعيش أموراً سوداويةً أو Dark، وهذا ينعكس أحياناً في صفحاتي لكن أهرب منه من خلال الألوان المبهجة والتصاميم الجميلة. أنا في الواقع شخص سوداوي، وأحب أن أضيف هذا في لغتي. أظن أنّني ابتكرت صفحة Masskhara كي أضيء على الكلمات البذيئة باللغة العربية. فنحن نتقبل الكلمات الجنسية مثلاً أو الشتائم بالإنكليزية، لكن نعدّها 'عيباً' في العربية. أظن أنّني أحب أن أعكس ازدواجية المعايير".
يعكس محمد رسائل سياسيةً في تصاميمه ومحتواه. ومع هذا، لم يؤثر ذلك على عمله، وبقي له عملاء مخلصون من دون التعليق على صفحاته الخاصة. يحب محمد أن يستفز الأشخاص الذين يخافون من التابوهات والسبب أنّه "علينا أن نصدمهم كي يتقبلوا".
"حينما كنت صغيراً، لم أكن أعرف ما تعنيه كلمة مثلية. كنت أجلس وأتمنى أن أكبر وأهرب بعيداً، وأن أصبح امرأةً عابرةً، ولا يعلم عنّي أحد، ولا يتمكن أحد من قتلي أو معاقبتي أو التنمر عليّ. في حينها لم أعلم ماذا تعني المثلية"
يضع الكعكي الكثير من الرسائل المتعلقة بالصحة العقلية في محتواه، مع التركيز على القوة: "لا أحب أن أظهر مجتمعنا وكأنّه ضعيف أو أظهر أنّنا ضحايا. أحب أن تكون تصاميمي قويةً، وغالباً ما أجعلها كذلك في اللغة أو الألوان".
يمكن القول إنّ تجربة محمد الكعكي تنعكس في محتواه. هناك تمثيل حقيقي واقعي لمجتمع الميم-عين، وهناك شاب خلف التصاميم يعبّر عن نفسه وأفكاره كما يريد.
يمتاز ما فعله محمد الكعكي بالكثير من الشجاعة، وما فعله ملهم لنا، إذ يُعلمنا أنّ تقبّل العائلة لنا يأتي مع الوقت ويأتي مع القوة وعدم الاستسلام. يعيش محمد اليوم خارج لبنان، ليس بسبب مثليته، بل بسبب الوضع الاقتصادي السيئ فيه، فهو من الأشخاص الذين يؤمنون بالتغيير ونرى ذلك في تصاميمه. هو سعيد اليوم بما وصل إليه وبتحقيق الوعود التي قطعها لنفسه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...