كلما أثيرت مشكلة ترجمات النصوص الكلاسيكية العالمية إلى العامية المصرية، بما تخلفه من موجات سخرية وإدانة، لا أجد أن لي موقفاً حاسماً، سواء ضد تلك الترجمات أو معها، ولي في ذلك قانون بسيط لا أجده كافياً بشكل أكاديمي أو علمي في ذلك النوع من المناظرات، لكنه يكفيني كقارئ معياره أنه يستسيغ أو لا يستسيغ ما يقرأه، والقانون هو: أنك إما قادر على كتابة نثر أدبي مقنع بالعامية أو لا تستطيع.
إذن هو معيار لا ينفي أن كتابة نثر أدبي بالعامية أمر ممكن، لكن يشكك في قدرة ما رأيناه من ترجمات أو محاولات على أن تكون مقنعة.
هذا المقال إذن ليس حجّة أكاديمية للمناظرة، لا يضع في حسبانه نظريات المؤامرة على اللغة العربية، أو حتى أن العامية التي تُرجمت بها تلك الكلاسيكيات قد تكون مساراً خاطئاً، أو حتى تنظيرات، كتحرير الفكر باللجوء إلى العامية المفهومة، لكنها تعبير عن ذوق قارئ وتفضيلاته، ولا ينم عن يقين بل شك، مصدره أن ثمة كتاباً فاتناً بالفعل نجح في إقناعي أنه يمكن كتابة أدب بالعامية، ولعله يشير إلى سبب فشل باقي تلك التجارب في إقناعي، والكتاب الذي أعنيه هو كتاب "الفاجومي"، السيرة الذاتية لأحمد فؤاد نجم، التي أقول بدون أي شعور بالمبالغة، إنها يجب أن تعامل معاملة كنوز الأدب، وأنها تضاهي السير الأدبية الكبرى.
كلما أثيرت مشكلة ترجمات النصوص الكلاسيكية العالمية إلى العامية المصرية، أتذكر أن ثمة كتاباً فاتناً بالفعل نجح في إقناعي أنه يمكن كتابة أدب بالعامية، ولعله يشير إلى سبب فشل باقي تلك التجارب في إقناعي...
قرأت الكتاب مرتين، واستمعت إليه صوتياً مرة واحدة، وفي المرات الثلاث لم تقلّ الدهشة أو المتعة، السيرة كلها مكتوبة بالعامية. لم أتوقف لأسأل إذا كان ذلك أدباً أم لا، لأنه كان بالفعل كذلك، لم أستشعر ضرورة السؤال إلّا عندما تثار المشكلات بشأن الترجمة الأدبية إلى العامية، لأنها على عكس تلك السيرة المدهشة، لم تلب قانوني البسيط، قانون القارئ والذوق، لم تكن مقنعة. إذن، عامية فؤاد نجم هي دليلي ومرجعي لما يمكن أن أسميه نثراً أدبياً بالعامية، وإن كنت متفهماً أننا لا نملك عامية واحدة بل عاميات.
دعني إذن أتفحص سيرة الفاجومي الذاتية عن قرب، التي حكيت كلها بعامية مدهشة، ببساطة ودون فذلكة، لا تتوسّل أي محاولة لتقريبها للغة الفصحى أو الثقافة الرسمية، لتنال اعترافاً رسمياً بكونها أدباً، بل هي لغة الحكي الشفاهي كما أنزلت على أفئدة المصريين، لا يرطن بها، ليست مخصية كعامية التليفزيون والراديو، كأن أحمد فؤاد نجم ليس مجرد مؤلف لها، بل كأنه هو نفسه قد تم تأليفه بشكل جماعي من المأثورات الشعبية وأشعار الناس وحكمتهم ونكاتهم اللاذعة وتراكيبهم الساخرة الفذة، بألسنة ومذاهب الأمهات والصعاليك والفقراء، والظرفاء أيضاً.
هنا بعض المقاطع العشوائية:
"رجعت هانم أم مرسي إلى قواعدها في عزبة أو نجم.. البت المفعوصة اللي خرجت إمبارح من الحجلة على بيت العدل.. رجعت النهارده حاجة تانية.. بقت الست أم عبد العزيز.. بعد ما ضاع منها البكري وأول الفرحة.. ضاع في السفر والغربة ما عرفتلوش طريق جرة.. لكن كان دايماً حاضر معنا في حواديتها عن جماله ونباهته وأحياناً في غناها الحزين اللي كان يسحرك ويبكيك".
"طاب لي الزمان واستطاب واحلوت الأيام ولا ابتسامة متيم جادله الحبيب بالوصال.. الصبح أصحى مشتاق لشقا الغيط والغنا والضهر أفرح بالتقييلة تحت ضل الشجر ولعب الباط، وآخر النهار أبقى متلهف ع المرواح وحضن أمي الدافي، والعشا كانت أي حاجة بتعملها بيبقى لها طعم جميل.. لو حتى حتة جبنة قريش بالزيت والطماطم، وكانت وهي بتحط لي الأكل تحسسني برجولتي وترضي غروري وأبقى قاعد نافش ريشي زي الديك الرومي! وبعد العشا كنت أطير ع الرملية عشان يكون لي شرف الندا اللي كنا بنلم بيه العيال".
"في طرقة العنبر لقيتني وجهاً لوجه مع الشخص اللي شاور لي عليه خليل الذئب.. عمري ما قابلت شخص أنحف مني إلا هو.. جلد على عضم.. عنيه لـونهم فـروزي زي عنين أمي الخالق الناطق.. شوية الشعر اللي فاضـلين فـي دماغه صفر وناعمين ما فيهمش شعرة بيضة.. وشه نفـس اللون البمبي.. الشباب والصبا في ملامحه بيحاربوا معركتهم الأخيرة ضد الشيخوخة اللي بـدأت تزحـف علـى رقبتـه".
"وصلنا حوش آدم زي الناس ما بينطقوها.. كان المغرب على وشك الحلول والحارة مكنوسة ومرشوشة وروايح البخور والعطارة منتشرة وعاملة جو من السحر، وفي البيت رقم 2 عطفة حوش قدم، طلعنا الدور التاني لقينا أنفسنا في أوضة قاعد فيها شخص مهيب، قدامه طرابيزة عليها خواتم وأساور وحلقان وهو ماسك ماسورة في بقه وبينفخ فيها تطلع نار يلحم بيها الدهب والفضة.. ورمى سعد الموجي التحية بأدبه المعهود، فرد الراجل عليه بألاطة فاحترمته وقدمهولي سعد الموجي قال: الأسطى محمد علي الشهير بمحمد الصايغ.
قلت له: أهلاً وسهلاً تشرفنا.
ما ردش عليَّ فاحترمته أكتر".
هنا بلاغة مكتملة، وضوح وفصاحة، اقتصاد، تعبيرات مبتكرة تجري على لسانه جريان الماء، ليس لأن ليس ورائها جهداً، بل لأن فنانها ومبدعها قد تشربها فظهرت لنا كأنها بلا جهد، وليس لأنها تقارن بجمال اللغة الفصحى، بل لأن بلاغتها مكتفية بذاتها لا ترتكن إلى التفكير بالفصحى من الأصل.
على حد معرفتي، فإن كتاب "الفاجومي" هو آخر سيرة مسجلة لصعلوك مصري حقيقي، لكنه صعلوك على غرار عبد الله النديم ومن سلالته، حيث الصعلكة أكبر من نمط حياة، بل مقاومة ضد ظلم وانحياز لا يقبل المهادنة إلى المظلوم. كما أن كل خطوة في تلك الحياة ليست أقل من حكاية مدهشة متفردة طالعة من السير الشعبية.
وفقا لقانوني البسيط كقارئ، وتلك المرة أيضاً ككاتب فتنه نص كاتب عظيم، أجد أن سيرة الفاجومي النثرية لا تقل عبقرية عن أعماله الشعرية، بل منجز أساسي لم يلتفت إليه بالقدر الكافي في منجزه الأدبي واسع التأثير، بل لعل تلك السيرة قد تكون أكثر خلوداً إذا ما تغير الظرف السياسي، لأنها تتجاوز الراهن والمؤقت إلى الخالد والأبدي بشأن الإنسانية.
وليس مطلوباً من أي تجارب تحاول كتابة أدب بالعامية أن تتمثّله، فمن أين لنا بذلك الذي تشرّد طويلاً في جحور الفقر دون أن يفسد قلبه، أو أن يحوله الجهل إلى كومة من عفن، فقرّر أن يثقف نفسه قدر ما استطاع، مرجعيته البسيطة هي الحق أينما كان ومواجهة عوار الظلم والفساد أينما كان. من أين لنا بذلك الذي يتحدّى الصورة النمطية عن النبل، بأن يكون له مسار مجرم محتمل، لكنه قرّر في اللحظة الأخيرة أن يعدل من ذلك المسار، طاقة إجرامه تصير فناً خالصاً، من أين لنا برجل جرّب اللصوصية دون أن يكون لصاً، فارس لكن يعاني من النقص، ففرسه ليس النبل بل الحقيقة، لا يخجل من تعريف نفسه في سيرته كما فعل نجم: أنا أحمق، لأن في ذلك التوصيف الدقيق والتلقائي، تمكن من استيعاب أخطائه وفهمها وتقبل نفسه، تمكن من تحويل حماقته، فصار لسان شعب ومثقفين، جلاد حكام. لهذا السبب وحده هو شجاع، لأن ارتجالات الأحمق تربك حسابات المنتصر بكل إحكامها.
كتاب "الفاجومي" هو آخر سيرة مسجلة لصعلوك مصري حقيقي، لكنه صعلوك على غرار عبد الله النديم ومن سلالته، حيث الصعلكة أكبر من نمط حياة، بل مقاومة ضد ظلم وانحياز لا يقبل المهادنة إلى المظلوم
ذلك الذي لسانه حلو كفهلوي محتال ومرّ كسيف لا يعرف اللوع، صادق وكذوب، لا يفرق بين الغضب والحقد، بين الوقوف ضد الظلم العمومي والقصاص التافه لذاته، يحب ويكره بحسم، وكرهه كحبه ساذج وطفولي متقلب، أحكامه شديدة العمومية، ليس مثقفاً بالضرورة، لكنه منحاز إلى شعبه، وكذلك يستمع بقلب مفتوح إلى مثقف ما إذا ما صدق أصالته وتواضعه، فمثله بالضرورة لن يطيق كبرياءً زائفاً أو عجرفة تافهة أو حنجورية تدعي المعرفة. يضربه الأقوى "قلمين على صداغه" ولا يخجل من ذكر ذلك، ولا يبقى له سوى رد الضربة بالحيلة وبسوط اللسان وحده، حيث ذراعه لا تقوى على شيء، تحبه النساء رغم أن أفكاره بشأنهن لم تستقم بعد.
كم مثقف من مثقفي تلك الأيام سيكره شخصية كتلك لا تشبه مازورته ضيقة الأفق التي تخاصم الحياة والحيوية، وسيعمل بتنطّع على وأدها، ولن يدرك، كما أدرك مثقفو عصر الفاجومي، عبقريته التي لم تتنكر لوحلها أو أخطائها.
اللغة عنده ليست مجرد أداة، لكنها على لسانه تصير فرجة ومسرحاً وفرقة كاملة، ويصير جسده مدفعية من النحافة، بندقية ذات عود ممصوص. أبو كيفه، وهذا ما حبّب إليه من الدنيا، لا تذله لقمة لكنه يفرح بها إذا ما وجدها بلا كد أو تعب، يتلذّذ باللحظة ولا يقيم وزنا لإرث. لم تتنصر أشعاره في الأرض، وليس لمثله أن يكون منتصراً، لكنها حفرت في الوعي، وفي ذلك ما يفوق فكرة النصر أو الهزيمة.
أقول إن تجارب كتابة النثر بالعامية ليس لها أن تتمثله لأنها تفتقد إلى ما عاشه، لكن بإمكانها أن تجعل من عامية تلك السيرة المدهشة أساساً ومرجعاً لها وحجر زاوية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...