لم تكن بغداد مدينةً يمرّ بها العلماء والرحالة دون أن تترك أثراً في وعيهم، بل كانت حاضرةً في كتاباتهم على مرّ الأزمان. فقد تميزت بمكانة سياسية وعلمية وحضارية، وأصبحت لقرون طويلة مركزاً من مراكز الثقافة العربية الكبرى، إذ كانت منارةً للعلم وساحةً للثقافة والفن، تُضرب بها الأمثال لجمال بنيانها، وكثرة مجالس العلم فيها، وحضارتها البازغة في مختلف علوم الفلك والطب والصيدلة، ما جعلها قبلةً للرحالة والباحثين.
جاء وصف بغداد في كتب الأدباء والرحالة الذين زاروها في أزمنة مختلفة، من أمثال ابن بطوطة الطنجي، وابن جبير الأندلسي، وياقوت الحموي، وأبي القاسم الإِصْطَخْرِيّ الكرخي، وشمس الدين المقدسي، بأجمل ما يكون، فقد وصفوا مساجدها، ودور الخلافة فيها، وتوقفوا في كتاباتهم عند المدارس، والشوارع، والمستشفيات التي عُرفت حينها بالمارستان، ووصف بعضهم تقسيماتها الجغرافية وصفاً دقيقاً، وبالغوا في كتاباتهم في وصف بغداد لما كانت عليه من تحضّر خاصةً قبل كارثة المغول، فقد كانت جنّة الأرض، ولذلك جاء تناولها وكأنها مدينة خيالية من أساطير "ألف ليلة وليلة".
حظيت بغداد التي عُرفت بمدينة المنصور، ومدينة السلام، والمدينة المدوّرة، بما لم تحظَ به مدينة أخرى، فقد كانت من أكبر المدن وأجملها، وحاضرة العلم والثقافة والفنون
منذ أن أسّسها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور في القرن الهجري الثاني، وجعلها عاصمة الدولة العباسية، حظيت بغداد التي عُرفت بمدينة المنصور، ومدينة السلام، والمدينة المدوّرة، بما لم تحظَ به مدينة أخرى، فقد كانت من أكبر المدن وأجملها، وحاضرة العلم والثقافة والفنون. قام الخلفاء العباسيون في العصر العباسي الأول على وجه الخصوص، بالكثير من الإنجازات التي جعلت بغداد واحدةً من أجمل المدائن، وقد اهتم الخلفاء العباسيون بأمور العلم والترجمة، ووجّه الخليفة المنصور بنقل كثير من الكتب في الطب، والفلك، والمنطق، والفلسفة، إلى العربية، ومن أشهر المترجمين في عهده "ابن المقفع".
بغداد في عهد هارون الرشيد
كما ازدهرت الحركة العلمية خلال عهدَي هارون الرشيد وابنه الخليفة المأمون، فقد أنشأ الرشيد في بغداد أول دار للكتب في الإسلام وهي "بيت الحكمة"، واهتم بحركة الترجمة وأمر بترجمة ما وصل إليه من كتب اليونان، ونظراً إلى المنجزات الحضارية الكثيرة أُطلق على تلك الفترة العصر الإسلامي الذهبي.
وفي عهد المأمون ازدهرت حركة النقل والترجمة خاصةً من اليونانية والفارسية إلى العربية، فأُرسلت البعوث إلى القسطنطينية لإحضار المصنفات الفريدة في الفلسفة والهندسة والموسيقى والطب، وبذلك أصبحت بغداد مركزاً من مراكز الثقافة الكبرى في العالم، فقد تميزت بمكانة سياسية وعلمية وحضارية كبيرة، ما دفع العلماء والرحالة إلى الارتحال إليها ليسجلوا مشاهداتهم ويصفوها في آثارهم، وفي مقدمتهم ابن جبير البلنسي الأندلسي (ت614 هـ)، وابن بطوطة الطنجي (ت 779 هـ)، الذي أُعجب بمقامها ومعالمها ووصفها بالجمال والكمال.
بغداد... مجمع المحاسن ومعدن اللطائف
تناول ياقوت الحموي الأديب والجغرافي في كتابه "معجم البلدان"، إنشاء بغداد والمبالغ التي أنفقها الخليفة أبو جعفر المنصور على بنائها، فحوت كتاباته معلومات قيّمةً، خاصةً أنه لم يتوقف عند آرائه ومشاهداته الشخصية فحسب، بل استشهد بآراء بعض المعاصرين له وبعض السابقين عليه من علماء ورحالة وجغرافيين.
وصف ابن جبير مدينة بغداد وعمرانها وتحدث عن الخراب الذي طالها وخلّف آثاره عليها، وحكى عن مشاهدته لنهر دجلة.
مما قيل في مدحها، ينقل ياقوت الحموي في "معجم البلدان": "قال بعض الفضلاء، بغداد جنّة الأرض ومدينة السلام وقبة الإسلام ومجمع الرافدين وغرة البلاد وعين العراق ودار الخلافة ومجمع المحاسن والطيبات ومعدن الظرائف واللطائف وبها أرباب الغايات في كل فن وآحاد الدهر في كل نوع... وكان أبو أسحاق الزجاج يقول بغداد حاضرة الدنيا وما عداها بادية، وكان أبو الفرج الببغا يقول هي مدينة السلام، بل مدينة الإسلام".
الرحالة والجغرافي شمس الدين المقدسي (336-380 هـ)، وُلد في القدس وارتحل إلى كثير من البلدان، لكنه استقر في بغداد وتوفي فيها، وتناول في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، تضاريس وسمات الأقاليم والمدن، وأفرد لمدينة بغداد حيزاً كبيراً، وامتدح بغداد قائلاً إنها "أشهر من أن توصف، وأحسن من أن تُنعَت، وأعلى من أن تُمدَح، أحدثها أبو العباس السَّفاح ثم بنى المنصور بها مدينة السلام وزاد فيها الخُلَفاء من بعده". وأضاف أنها "مِصر الإسلام، وبها مدينة السَّلام، ولها الخصائص والظَّرافة، والقرائح واللَّطافة، هواءٌ رقيقٌ، وعلم دقيق، كُلُّ جيِّدٍ بها، وكلُّ حسن فيها، وكل حاذقٍ منها، وظلُّ ظرف لها، وكل قلب إليها".
رحلة ابن جبير إلى بغداد
يُعدّ أبو الحسين ابن جبير الأندلسي البلنسي أحد الرحالة البارزين الذين زاروا بغداد في القرن السادس الهجري. غادر غرناطة متجهاً إلى الإسكندرية عن طريق البحر، ثم اتجه برّاً إلى القاهرة ومنها إلى بلاد النوبة والحجاز ونجد والعراق والشام. دوّن مذكراته ويومياته، وحاول تحليل بعض الظواهر الاجتماعية والعمرانية في كتابه الشهير "رحلة ابن جبير"، فتضمن وصفاً دقيقاً لأحوال الخلافة العباسية بعد كارثة المغول وفي عصر أفول الخلافة العباسية، وجاء وصفه لأحوال بغداد وثيقةً تاريخيةً كبرى.
وصل ابن جبير إلى بغداد في شهر محرم سنة 580 هـ، نيسان/أبريل 1184 م، وأقام فيها ثلاثة عشر يوماً، وشاهد دور الخلافة والمدارس والحمامات، كما شاهد الكثير من الخراب الذي أحدثه المغول، مما جعله يذكر في يومياته أن بغداد "وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية، قد ذهب أكثر رسمها، ولم يبقَ منها إلا شهير اسمها". وعاد إلى كتاب الخطيب البغدادي في وصف بغداد وجمالها قبل كارثة المغول على يد هولاكو وجنوده، ليقارن بينه وبين وصف بغداد بعد ذلك الحادث، فيبرز ما أحدثه المغول فيها.
من ملاحظات ابن جبير في بغداد أيضاً، أن جميع العباسيين كانوا في الواقع معتقلين في دورهم اعتقالاً جميلاً، لا يخرجون ولا يظهرون، وأنه لم يكن للخليفة نفسه وزير في ذلك العصر، إنما له قيّم يُعرف بالصاحب الأستادار، يقوم على جميع شؤون الدور الخليفية.
في وصف الخراب
وصف ابن جبير مدينة بغداد وعمرانها وتحدث عن الخراب الذي طالها وخلّف آثاره عليها، وحكى عن مشاهدته لنهر دجلة وقال إن الزوارق أكثر من أن تُحصَى... "هي كما ذكرنا جانبان: شرقيٌ وغربيٌّ، ودجلة بينهما، فأمَّا الجانب الغربي فقد عمَّه الخراب واستولى عليه، وكان معموراً أولاً، وعمارة الجانب الشَّرقي مُحْدَثَة، لكنَّه مع استيلاء الخراب عليه يحتوي على سبع عشرة محلة، كل محلَّةٍ منها مدينة مستقلة، وفي كلِّ واحدةٍ منها الحمَّامان والثلاثة والثمانية منها بجوامع يُصلَّى فيها الجُمُعة، فأكبرها القُرَيَّة، وهي التي نزلنا فيها بربَض منها يُعرَف بالمربَّعة على شطِّ دجلة بمقربة من الجِسْر، فحملتْه دجلة بمدِّها السيلي، فعاد النَّاس يعبرون بالزوراق".
أضاف: "والزوارق فيها لا تُحصى كثرةً، فالنَّاس ليلاً ونهاراً من تمادي العبور فيها في نزهة متصلة رجالاً ونساءً، والعادة أن يكون لها جسران: أحدهما مما يقرب من دُور الخليفة، والآخر فوقه لكثرة النَّاس، والعبور في الزَّوارق لا ينقطع منها".
ووصف موقع المارستان (المشفى)، وتوقف عند آليات العمل من أجل خدمة المرضى: "بين الشارع ومحلة باب البصرة سوق المارستان، وهي مدينة صغيرة، فيها المارستان الشهير ببغداد، وهو على دجلة، ويتفقَّده الأطباء كلَّ يوم إثنين وخميس، ويطالعون أحوال المرضى به، ويرتِّبون لهم أخذ ما يحتاجون إليه، وبين أيديهم قَوَمَة يتناولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصرٌ كبيرٌ فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية، والماء يدخل إليه من دجلة".
ملاحظات حول أهل بغداد
امتدح ابن جبير كثرة المساجد والمدارس في بغداد، وذكر أن المدارس أهمها النظامية. يقول: "أمَّا المساجد بالشرقية والغربية، فلا يأخذها التقدير، فضلاً عن الإحصاء، والمدارس بها نحو الثلاثين، وهي كلها بالشرقية، وما منها مدرسة إلَّا وهي يقصُر القصرُ البديع عنها، وأعظمها وأشهرها النظامية، وهي التي ابتناها نظام المُلْك... ولهذا البلد في أمر هذه المدارس والمارستانات شرفٌ عظيمٌ وفخرٌ مخلَّد، فرحم الله واضعها الأول ورحِمَ من تبِع ذلك السَّنَن الصَّالِح".
وقد وصف ابن جبير أهل بغداد وصفاً قاسياً، فقال إنهم كانوا كأهل روما، في أواخر أيام الدولة الرومانية، "لا تكاد تلقى منهم إلا من يتصنع التواضع رياءً، ويذهب بنفسه عجباً وكبرياءً، يزدرون الغرباء، ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء... قد تصور كل منهم في معتقده وخلده أن الوجود كله يصغر بالإضافة لبلده، فهم لا يستكرمون في معمور البسيطة مثوى غير مثواهم، كأنهم لا يعتقدون أن لله بلاداً أو عباداً سواهم".
لكنه أثنى على فقهاء بغداد ومحدثيهم ووعاظهم، وروى عن حضوره بعض مجالسهم التي تميزوا فيها: "طريقة الوعظ والتذكير، ومداومة التنبيه والتبصير، والمثابرة على الإنذار المخوف والتحذير"، وخصّ بعضهم بالذكر، كالإمام ابن الجوزي الذي عُرف بمجلسه الذي يحضره كل يوم سبت، ووصفه بأنه "قرّة عين الإيمان، رئيس الحنبلية"، و"المشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة ومالك أزمّة الكلام في النظم والنثر".
بغداد في كتابات ابن بطوطة
أما الرحالة أبو عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي الشهير بابن بطوطة، الذي سافر إلى عدد كبير من البلاد، وجمع رحلاته في كتاب "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، فقد وصل إلى بغداد عام 727 هـ، وقال في وصفه لها "مدينة دار السَّلام، ذات القدر الشَّريف، والفضل المُنيف، مثوى الخُلفاء، ومقر العلماء". ويصف ابن بطوطة الجانب الشرقي من مدينة بغداد قائلاً: "هذه الجهة الشرقية من بغداد حافلة الأسواق عظيمة الترتيب، وأعظم أسواقها سوق يُعرَف بسوق الثلاثاء، كل صناعة فيها على حِدة".
ويشير إلى أن هذه الجهة الشَّرقية من بغداد ليست فيها فواكه، وإنَّما تُجلَب إليها من الجهة الغربية لأن فيها البساتين والحدائق... وبقرب الرُّصافة قبر الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وعليه قُبَّة عظيمة وزاوية فيها الطَّعام للوارد والصَّادِر، وليس بمدينة بغداد اليوم زاوية يُطعم الطَّعام فيها ما عدا هذه الزاوية.
وصف ابن جبير أهل بغداد وصفاً قاسياً، فقال إنهم كانوا كأهل روما، في أواخر أيام الدولة الرومانية، "لا تكاد تلقى منهم إلا من يتصنع التواضع رياءً، ويذهب بنفسه عجباً وكبرياءً، يزدرون الغرباء، ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء..."
حرص ابن بطوطة على وصف الحياة العلمية في بغداد وتوقف عند المدرسة المستنصرية المنسوبة إلى الخليفة العباسي المستنصر بالله، وتضمّ شيوخاً لتدريس الفقه على المذاهب السنّية الأربعة، فيقول عنها: "لكلّ مذهب إيوان فيه المسجد، وموضع التدريس وجلوس المدرّس في قبّة خشب صغيرة على كرسيّ عليه البسط، ويقعد المدرس وعليه السكينة والوقار لابساً ثياب السواد معتماً، وعلى يمينه ويساره معيدان يعيدان كلّ ما يمليه، وهكذا ترتيب كلّ مجلس من هذه المجالس الأربعة، وفي داخل هذه المدرسة الحمّام للطلبة ودار الوضوء".
الإصطخري يصف بغداد
تكتسب المشاهدات التي سجّلها الرحالة والجغرافي أبو القاسم الإِصْطَخْرِيّ الكرخي صاحب كتابي "مسالك الممالك" و"صور الأقاليم"، أهميةً خاصةً نظراً إلى أنه عاش في الكرخ الواقعة في مدينة بغداد لسنوات طويلة خلال القرن العاشر الميلادي، فقد تناول كثرة المساجد في بغداد قائلاً: "ببغداد مساجد جوامع في ثلاثة مواضع في مدينة المنصورة وفي الرصافة وفي دار الخِلافة".
وتوقف عند إنشاء مدينة السلام قائلاً: "وأمَّا بغداد؛ فإنها مدينة مُحدَثة في الإسلام لم تكُن بها عِمارة، فابتنى المنصور المدينة في الجانب الغربي وجعل حواليها قطائع لحاشيته ومواليه وأتباعه مثل قطيعة الرَّبيع والحربيَّة وغيرهما، ثمَّ عُمِّرَت، فلمَّا كان في أيام المهدي؛ جعل معسكره في الجانب الشَّرقي فسُمِّيَ عسكر المهدي، ثمَّ عُمِّرَت بالناس والبنيان وانتقلت الخلافة إلى الجانب الشرقي".
"وقد عُقِدَ بين الجانبين على دجلة جسران من سفن، ويكون من باب خراسان إلى أن يبلغ باب الياسرية، وذلك عرض الجانبين جميعاً نحو خمسة أميال، وأعمر بقعة منها الكرخ، وبها اليسار ومعظم التجارة"، يضيف ويتابع: "أمَّا الأشجار والأنهار التي في الجانب الشرقي ودار الخلافة؛ فإنَّها من ماء النهروان وتامَرَّا وليس يرتفع إليها من ماء دجلة إلا شيء يسير يقصر عن العمارة وينضح بالدواليب".
ويذكر الإصطخري أيضاً: "بين بغداد والكوفة سوادٌ مشتبك غير متميِّز تخترق إليه أنهار من الفرات فأولها ممَّا يلي بغداد نهر صرصر عليه مدينة صرصر صغيرة عامرة بالنخيل والزُّروع وسائر الثَّمار من بغداد على ثلاثة فراسخ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...