تقفي الأثر والتنقيب عن الذهب وقراءة الطالع... عن عادات قبيلتي العبابدة والبشارية

في المثلث الذي يجمع حلايب وأبو رماد وشلاتين، تعيش قبائل العبابدة والبشارية، في رحاب جبال ووديان جنوب البحر الأحمر في الصحراء الشرقية لمصر. 

هناك تتوالد القصص من تراث هذه القبائل، حيث يلتقي الجمال البكر مع الحياة التي لا تخلو من صعوبات البيئة الصحراوية، والتي شكلت الجذور الثقافية والتاريخية للقبيلتين، وهي البيئة التي ما زال عدد كبير منهم متمسكاً بها، رغم هجرة البعض إلى المدن، بحثاً عن حياة أكثر رفاهية واستقرار وحداثة.  

اللغة واللهجات

تعد حلايب وشلاتين وأبو رماد أبرز البؤر العمرانية في المنطقة، حيث قرى رأس الحداربة، ومرسى حميرة، وأبرق.

يقول أستاذ التاريخ في جامعة الملك فهد د. محمود الساعدي لرصيف22 إن البشارية والعبابدة فرع من عرقية "البجا" الإفريقية، التي تعود أصولهم إلى البدو التقليديين، ولهم عدة بطون متفرعة، ومنهم قبائل كثيرة كعامراب، وعالياب، والمليكاب، والبدقاب، والدريمساب، حيث يستوطنون في مثلث حلايب وما حوله من صحراء ووديان، كما يعيش قسم منهم في ولاية البحر الأحمر شرق السودان، ويتحدث العديد منهم لهجة منطوقة غير مكتوبة تسمي "الرطانة"، وقد امتهنوا عبر تاريخهم تربية ورعي وتجارة الإبل والأغنام والماعز، وصيد الأسماك. 

قبيلة العبابدة تتمايز عن البشارية بقولهم إن نسبهم يمتد إلى الزبير بن العوام، ويتحدثون العربية رغم احتفاظهم بلغة البجا القديمة، فيما يحتفظ البشاريون بلغتهم القديمة رغم معرفتهم باللغة العربية

ويستطرد الباحث في الشأن القبلي: "قبيلة العبابدة تتمايز عن البشارية بشكل واضح، فهم يدّعون أن نسبهم يمتد إلى الزبير بن العوام ابن عمة النبي محمد، ويتحدثون اللغة العربية رغم احتفاظهم بلغة وتقاليد البجا القديمة، فيما يحتفظ البشاريون بلغتهم القديمة رغم معرفتهم باللغة العربية، واحتل البشارية والعبابدة مكانة خاصة عبر التاريخ، حيث اعتادوا مرافقة حجاج وادي النيل إلى ميناء عيذاب القديم، والذي منه تبدأ رحلة الحجيج في التوجه إلى جدة ثم مكة المكرمة، مشيراً إلى أن أبناء القبيلتين هم أدرى الناس بتفاصيل وتضاريس المنطقة التي لم يتم اكتشافها بشكل كامل حتى الآن".

أما عضو المجلس الأعلى للقبائل المصرية الشيخ ناجي الشرصي فيقول لرصيف22 إن قبيلتي العبابدة والبشارية أبناء عمومة، يجمعهم موطن الإقامة، حيث يمتهن أبناء القبيلتين رعي وتجارة الإبل والأغنام وجمع الأعشاب الطبية من الصحراء، وقد تخصص عدد كبير منهم في تقفي الأثر والكشف والتنقيب عن المعادن الثمينة التي تحتضنها مناطقهم، وهو ما جعل مؤسسات الدولة المصرية تستعين بخبراتهم في العديد من الأمور التي تتعلق بكشف تضاريس المنطقة.

تجارة الإبل والتنقيب عن الذهب

يعيش البشارية والعبابدة في مجتمع شبه مغلق، فنادراً ما يتزوج أبناء وبنات القبيلتين من قبائل أخرى، خلال رحلة بحثنا عن أهم عادات وتقاليد الحياة لدى العبابدة والبشارية، التقى رصيف22 ببعض أعيان قبيلة العبابدة: مهران الشنتوري الذي يعيش في قرية أبو رماد في مثلث حلايب الحدودي، وفراس البشاري الذي تعود أصوله لبشارية أم علي ويعيش في قرية أبرق، وسردا لنا أبرز العادات والتقاليد الفريدة.

يعمل الشنتوري في تجارة الإبل منذ أكثر من ثلاثين عاماً، إذ يستورد "الدبوكة" أي قطيع الإبل من السودان عبر رحلة طويلة وشاقة سيراً على الأقدام إلى منفذ رأس حدربة الحدودي في حلايب، ثم إلى تبة الجمال في شلاتين، أحد أهم وأقدم معالم المدينة، حيث السوق الرئيسي لتجارة الإبل والغنم، ليقوم ببيعها للتجار من مختلف أنحاء مصر.  

يعمل الكثير من أبناء القبيلتين بالتنقيب عن الذهب، بينما يتجار آخرون بالإبل التي يحضرونها من السودان في رحلة برية طويلة وشاقة 

بينما يخرج البشاري خلال مواسم المطر في رحلات تستغرق عدة أيام، ليرعى ماشيته في الوديان الشاسعة التي تمتلئ بالمياه وتحتضن العديد من النباتات والأعشاب الطبي، حيث يجمعها ويبيعها إلى وكلاء شركات أدوية وعطارين، بينما يمتهن أبناءه الأربعة التنقيب عن الذهب وهي مهنة ورثوها عن جدهم وأعمامهم في جبال الصحراء الشاسعة عبر رحلات مثيرة لاستكشاف المنطقة وخيراتها.

يتولى الرعاة مهمة إيصال الرسائل بين أبناء القبيلة الذين ما زالوا يقطنون في جبال ووديان البحر الأحمر البعيدة، بينما تعمل النساء في غزل أصواف الإبل والغنم وصنع الثياب التقليدية. بالإضافة إلى رعي الماشية واحتطاب الخشب الذي يستخدم في صناعة "القبوري"، وهي حفرة يتم حفرها في الرمال، وبعد إشعال جمر الحطب فوق الرمال يتم طهي الخبز في باطن الحفرة، بعد ردمها فوق العجين، في واحدة من أغرب ثقافات طهي الطعام. 

قراءة البخت 

تعد قراءة الطالع من أبرز الموروثات الثقافية لسيدات القبيلتين، فارتباطهن بالصحراء جعلهن على علم بخريطة النجوم التي يستخدمنها لقراءة طالع الأشخاص تبعاً لتاريخ الميلاد وعلم الفلك، فيما تهتم العديدات منهن بـ"ضرب الودع"، كأحد طرق التنجيم، على اعتبارها تكشف جزءاً من مستقبل الإنسان عبر قراءة تراص قطع الودع والأحجار الكريمة فوق حفنة من رمال الصحراء. 

عادات اللباس 

يرتدي أبناء القبيلتين من الرجال ملابس تقليدية تتضمن السراويل الفضفاضة و"الصديري" والجلباب الأبيض، بالإضافة إلى قطعة كبيرة من القماش يتم لفها حول رقبة الشخص والصدر ويطلق عليها "الشقة"، والتي تمثل جزءاً من موروث القبيلتين حيث اعتاد الأجداد ارتداءها واستخدامها كغطاء حال النوم، نظراً لاستطوناهم قديماً في كهوف جبال الصحراء، بينما ترتدي النساء "الجرجار" وهو عبارة عن ثوب أسمر واسع، بالإضافة إلى غطاء رأس طويل يمتد إلى أسفل الظهر. 

التعليم

يتعلم أطفال القبيلة في "الخلوة"، وهي مسجد صغير في كل منطقة مأهولة بالناس، حيث يشرف على تعليم الأبناء والبنات شيخ مسن سبق له الدراسة على يد مشايخ الأزهر الشريف، بينما توجد بعض مدارس التعليم الأساسي في القرى الكبيرة، والتي تبعد مسافات شاسعة عن مجموعات كبيرة من أهالي القبيلتين، التي ما زالت تفضل العيش في المناطق الطبيعية بعيداً عن الاختلاط مع الثقافات الأخرى في القرى والمدن المجاورة. 

طقوس الزواج

يدين معظم أبناء القبيلتين بالإسلام مع إحياء شعائر الطرق الصوفية، وترتبط طقوس الزواج عندهم  بالأيام القمرية للشهور العربية، فلا يتم الزواج إلا خلال الأيام 13 و14و 15 من الشهر العربي، حيث يكون القمر بدراً في السماء. 

ضرب الودع، وقراءة الطالع من أبرز الموروثات الثقافية لسيدات القبيلتين، فارتباطهن بالصحراء جعلهن على علم بخريطة النجوم 

تبدأ طقوس وعادات الفرح قبل أسبوع من ليلة العرس الأخيرة، حيث تحمل كل قبيلة الهدايا، وتسافر إلى العرس في موكب كبير يسمي "الشيلة"، فيما يبدأ أصحاب العرس في استقبال ضيوفهم من كل مكان عبر ذبح الولائم التي يتفاوت عددها ونوعها بحسب حالة فرع القبيلة من أصحاب العرس.

خلال أيام العرس تنتشر سباقات الإبل ورمي الرمح ومبارزات السيوف التي يتميز بها أبناء القبيلتين، وفي الليل يتجمع أبناء القبيلتين ليتشاركوا الأغاني والسمر، وليرقصوا الـ"تربلة"، وهي احدى الموروثات الفنية حيث يصطف الشباب في مجموعتين متواجهتين، ويدخلون في تحدي الرقص بالسيف والدروع، قبل أن تبدأ طقوس الضرب والجلد، فيقف العريس ليضرب بالكرباج ظهور أبناء القبيلة، في طقس يعبر عن قياس درجة التحمل، وعلى اعتباره أحد مظاهر الرجولة وقوة التحمل لدى مجتمع القبيلتين.  

 لا يتم الزواج إلا في ليالي 13 و14 و15 من الشهر العربي ليكون البدر مكتملاً، إلا أن الاحتفالات تبدأ قبل هذا اليوم بأسبوع 

يعزف الحضور على "الطمبورة" التي تشبه العود في تصميمها، وتبدأ النساء في تطريز الحرير الأحمر بالخرز والصدف، بعد شده على سعف النخيل، من أجل تقديمه للعروس في ليلة الزفاف، كما تنتشر طريقة "السلات" في الشواء، حيث يتم شوى اللحم على الزلط الساخن، ويتم تقديم مشروب "الجبنة" التقليدي للحضور، وهو عبارة عن خليط من لبن وزنجبيل وهيل تتم تسويته في فخار على جمر النار، ومن عادات شرب "الجبنة" أن يتم صبها مجددا طالما كان الكوب في وضع معتدل، فاذا اكتفى أحدهم بالشرب فيجب أن يتوقف بعد شرب رقم فردي من الفناجين، ويقوم بقلب الفنجان على الصينية.

أساطير وثقافات وفنون

بحسب الساعدي فقد كان للقبيلتين دور تاريخي في الدفاع عن حدود مصر الجنوبية وشمال السودان، حيث وصفوا بأبطال حماية القوافل، وسادة المدقات الصحراوية، مما جعل الرومان ينسجون الأساطير القديمة عنهم، فتخيلوهم بأحجام ضخمة ووجوه غريبة، بعدما أطلق أبناء القبيلتين على أنفسهم لقب "أبناء الجن"، وتصدوا للوجود الروماني في الصحراء الشرقية، والذي كان مهتماً باستخراج الذهب والميكا والسبار والمعادن الثمينة والاحجار الكريمة النادرة التي تحتضنها الصحراء الشرقية المصرية منذ قديم التاريخ.