"إرميا!... للأسف". لم يكن الشاب "إرميا"، يعلم أن حلمه بالالتحاق بإحدى الكليات العسكرية قد انتهى بانتهاء هذه الجملة. في البداية أثارت الجملة التي قالها أحد قادة الاختبار استغرابه، خاصةً أنه كان في مقتبل شبابه محاطاً بأحلام وردية قد تتحقق فقط في مجتمع مثالي، لكنه اصطدم بواقع ملوّث بغبار التمييز.
منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، يحرص الآباء من الأقباط في مصر على إخفاء هوية أبنائهم الدينية بتسميتهم بأسماء مشتركة، وازداد هذا الاهتمام في أيامنا الحالية مع تصاعد المنظور الديني في جميع التعاملات اليومية.
منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، يحرص الآباء من الأقباط في مصر على إخفاء هوية أبنائهم الدينية بتسميتهم بأسماء مشتركة، وازداد هذا الاهتمام في أيامنا الحالية مع تصاعد المنظور الديني في جميع التعاملات اليومية
إرميا شاب من محافظة أسوان في جنوب مصر، يقول: "بعد الثانوية تقدمت للالحتاق بإحدى الكليات العسكرية، وكنت أتمتع بجسد رياضي يؤهلني لذلك. وبالفعل أتممت إجراءات الالتحاق واجتزت الاختبارات واحداً تلو الآخر إلى أن جاء اختبار الهيئة".
و"اختبار الهيئة" لمن لا يعرفه، أشبه باستبيان حالة اجتماعية للمتقدم حيث لا يجوز لمن اتُهموا هم أو ذووهم في قضايا مخلة، أو لأصحاب مهن بعينها التقدم للالتحاق بالكليات العسكرية.
يضيف إرميا: "اجتزت الاختبارات الطبية واللياقة البدنية والرياضية، ولكن في اختبار الهيئة فوجئت برد كان قاسياً: 'إرميا... للأسف'. في البداية لم أفهم معنى الجملة، لكن أدركت معناها بعدما أُعلنت النتيجة ووجدت اسمي بين أسماء غير المقبولين. هنا تبخر حلم الطفولة الذي بدأ يكبر عاماً بعد الآخر منذ أن اشتريت أول بدلة عسكرية في حياتي. تغيرت حياتي وطموحاتي واستسلمت في ما بعد للمتغيرات التي طرأت عليها بسبب اسمي".
"في البداية وجهت اللوم خجلاً إلى والدي: لماذا هذا الاسم بالتحديد؟ لماذا يضيع من بين يدي حلم الطفولة بسبب اسمي؟"؛ يسأل إرميا.
يرى الكاتب والباحث في الشأن السياسي والمسيحي، كريم كمال، أن اختيار الأقباط لأسماء أبنائهم يجب أن ينال قسطاً من الحرية، خاصةً أنهم في معظمهم يميلون إلى اختيار الأسماء المصبوغة بصبغة دينية تيمناً بالقدّيسين أو رجال الكتاب المقدس.
استكمل إرميا حياته العلمية في إحدى الكليات النظرية في جامعة في صعيد مصر: "فقدت الشغف، ولم أكن أبالي بمستقبلي بعد أن تبخّر حلم حياتي وهذا ما كان سبباً في رسوبي كثيراً في الدراسة الجامعية".
وبحسب الباحث كريم كمال، في دولة المواطنة لا يجب أن تكون الأسماء عائقاً أمام اختيار الأشخاص في وظائف بعينها أو أن تعيق مسيرتهم المهنية بأي شكل من الأشكال.
"جرجس، حنا، عبد المسيح، بولا، وبولس، وغيرها من الأسماء يا سيدي اللي تعرف منها إن صاحبها مسيحي من غير حتى ما تشوف بطاقته"؛ هكذا يقول شاب يُدعى عبد الله، مجيباً عن سؤال حول طريقة تمييز الأقباط.
ويضيف كمال: "لكن في الوقت نفسه يجب أن يكون هناك حل جذري لمشكلة التمييز بسبب الاسم أو الدين، وهذا لن يحدث إلا بمعالجة المناهج التعليمية وتجديد الخطاب الديني، وهو ما يحتاج إلى سنوات قادمة".
زكريا ندهي الديب، لاعب كرة موهوب، من مواليد 2002، كان يحمل بين قدميه حلم الالتحاق بأحد الأندية الكبرى في مصر: "تقدمت بالفعل لاختبارات الناشئين في نادي 'البنك الأهلي'، أحد أندية الدوري الممتاز، وتجاوزت الاختبارات وقدّمت مستوى جيداً وأشاد بي جميع المدربين الموجودين".
يمثل زكريا نموذجاً صارخاً للتمييز بسبب الاسم الذي يعبّر عن الهوية القبطية، ويضيف: "لما وقع الاختيار عليّ سألوني عن اسمي. وحين قلت لهم: المدرب الذي اختارني اكتشف أني مسيحي، قالوا لي 'معلش تتعوض في نادي تاني!'".
تعددت الأمثلة والنماذج التي بات فيها الاسم مثار سخرية ورفض مجتمعي في مصر، مثل "بربارة" التي جعل منها أصدقاؤها مادةً للسخرية بسبب اسمها، و"أوغسطينوس"، شاب من أبناء محافظة المنيا، رفضته كلية التربية الرياضية في إحدى الجامعات بسبب اسمه، برغم أنه اجتاز جميع اختبارات اللياقة البدنية المؤهلة للالتحاق بالكلية، وعاد إلى منزله يجرّ خيبته، ويتساءل: هل أنا المذنب أم والدي؟
تقول نجلاء (اسم مستعار): "كان والدي يحرص على اختيار أسماء لنا متشابهة أو مشتركة مع الطرف الآخر حتى لا نتعرض للتمييز أو كنوع من إخفاء الهوية الدينية التي كثيراً ما كانت مثار أزمات. ومع الاختلاط كانت الأسماء الصارخة وسيلةً مهمةً لتمييز الأقباط، ورفضهم في وظائف بعينها".
ريمون ناجي، كاتب وباحث في الشأن القبطي يرى أن الأقباط في أوقات كثيرة عانوا من التمييز وكانت أسماؤهم إحدى أهم الوسائل التي تميّز بينهم وبين غيرهم، خاصةً مع ميل الكثيرين من الآباء إلى اختيار أسماء مسيحية للتعبير عن هويتهم في ظل محاولات طمس الهوية القبطية خاصةً في الفترة الساداتية وهيمنة التيار الديني وزيادة النبرة الطائفية، وصولاً إلى سنة امتطاء الإخوان سدة الحكم.
ويضيف: "أولوية الأقباط على مر العصور هي حريات مدنية ودينية غير منقوصة، بالإضافة إلى مواطنة كاملة وفرص متساوية للعمل في الأجهزة الحساسة وغير الحساسة وألا تضع في معايير اختيارها دين المتقدم أو معتقده، وهي أزمة ولب مشكلات الأقباط".
نجلاء المتيمة بالقديسة "يوستينا" تقول: "كان نفسي بابا يسميني يوستينا. ولما سألته ليه مسمتنيش بالاسم ده عشان بحبها جداً، ردّ وقاللي: الناس مش هتعرف تنطقه ده غير التريقه اللي ممكن تسمعيها من زمايلك في المدرسة والشغل. وأخيراً صدمني لما قاللي: إنت عارفة إن الاسم ممكن يعطلّك شغلك أو ممكن أصلاً متقبليش بشغلانة بعينها عشان خاطر اسمك".
كما انتقد ناجي، أن يحدد في "الأبليكايشن" الخاصة بالتعارف في مؤسسات وقطاعات حكومية أو خاصة، ما يتضمن هويته الدينية، مما جعل البعض ينادي بإلغاء تلك الخانة من البطاقة ولكنه ليس الحل الأمثل، ويفترض أن يعتمد على ترسيخ المواطنة من خلال المساواة الكاملة وردع المخالفين ليكونوا عبرةً، وهناك بلدان سبقت في تلك الخطوات".
"جرجس، حنا، عبد المسيح، بولا، وبولس، وغيرها من الأسماء يا سيدي اللي تعرف منها إن صاحبها مسيحي من غير حتى ما تشوف بطاقته"؛ هكذا يقول شاب يُدعى عبد الله، مجيباً عن سؤال حول طريقة تمييز الأقباط. ويضيف: "في أسماء كده معروفة يعني ممكن خلالها تعرف إن صاحبها مسيحي، ومش كل الأسماء ممكن الصراحة نقبلها. فيه أسماء كده بتكون تقيلة في نطقها".
محمد الحمبولي، المحامي بالنقض ورئيس مركز الحريات والحصانات لحقوق الإنسان، يرى أن التمييز من خلال اسم الإنسان نوع من أنواع الطائفية.
ريمون ناجي، كاتب وباحث في الشأن القبطي يرى أن الأقباط في أوقات كثيرة عانوا من التمييز وكانت أسماؤهم إحدى أهم الوسائل التي تميّز بينهم وبين غيرهم
ويضيف: "أولوية الأقباط على مر العصور هي حريات مدنية ودينية غير منقوصة، بالإضافة إلى مواطنة كاملة وفرص متساوية للعمل في الأجهزة الحساسة وغير الحساسة وألا تضع في معايير اختيارها دين المتقدم أو معتقده، وهي أزمة ولب مشكلات الأقباط".
ويقول الحمبولي: "هناك بعض الأسماء القبطية ما زالت مادةً للسخرية خاصةً لما تمثله من صعوبة في نطقها، لكن يتم التغلب على ذلك من قبل المسيحيين وخاصةً في الصعيد بتسمية أبنائهم بأسماء يصعب من خلالها تحديد الهويه الدينية، مثل أسماء وعيد وفوزي وعماد. تلك أسماء متعارفة كأسماء للمسلمين والمسيحيين".
ريمون ناجي لديه نظرة تفاؤلية إذ يرى أنه على الصعيد السياسي ساهم الأقباط في حراك ثورة كانون الثاني/يناير بكثافة، وخرجوا من شرنقة الكنيسة إلى رحاب الدولة، بينما استطاع بعضهم خوض غمار الانتخابات بقوة ووصلت الأمور إلى أن جاء مسيحي رئيساً لحزب سياسي عبر الانتخاب، وهو الدكتور عصام خليل، رئيس حزب المصريين الأحرار.
وقال إن ثورة 30 حزيران/يونيو، كانت نقطةً فاصلةً لإعادة جزء من الحقوق الطبيعية للأقباط من حيث بناء الكنائس والمساواة في قياس المهارة لدخول المناصب المرموقة. ولعل اعتلاء المستشار بولس فهمي رئاسة المحكمة الدستورية، أعلى جهة قضائية في أرض مصر، دليل دامغ على الجمهورية الجديدة.
ويشير ناجي إلى أن الثقافة المصرية ومعالم وتعريف التمييز مختلطة، وتُمارس في العديد من الصور ولذا وجب إنجاز تأسيس مفوضية التمييز بسرعة ليكون القانون حاسماً، لا حبراً على ورق، ويكون هناك وعي مجتمعي بهذه الجريمة، وأن تقوم الجهات المختصة بدورها على الوجه الأمثل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 14 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 20 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com