دشّنت بلدية رام الله، قبل أيام قليلة، ما يمكن تسميته نصباً تذكارياً لعمال البلدية في المدينة. النصب كان تحت عنوان "صنّاع الجمال"، ما يحيل إلى أن هؤلاء العمال هم من يصنع الجمال في المدينة، وبالتالي فهذا الجمال منبثق عن النظافة أولاً وآخراً.
النصب عبارة عن تمثالين متقابلين من الصلصال، الأول لرجل يحمل مكنسة، والثاني لمواطن عادي ينحني قليلاً، ويرفع قبعته بيمينه كتحية للأول. في اليوم التالي للتدشين، قام مجهول، ممن لم يعجبهم النصب، بقطع رأس تمثال المواطن وكسر يده التي تحمل القبعة.
هذه الحادثة ستمرّ مرور الكرام، مثلما مرّت وتمرّ حوادث شبيهة وغير شبيهة، ولا أقصد بالطبع أن عدم مرورها يكون بمعاقبة الجاني، أو بجعله عبرة لكل من يريد أو لا يريد أن يعتبر، بل بالبحث الجدّي عن مسببات هذه الأفعال ومعالجتها بالشجاعة والوعي الكافيين.
قبل سنوات، وضعت بلدية بيرزيت تمثالاً حجرياً يجسّد المناضل عبد القادر الحسيني، فتمّ الهجوم عليه ليلاً من قبل أناس يعتبرون هذا العمل من فصيلة الأصنام، وقطعوا رأسه. قبل سنة تقريباً، قام شاب موتور بالهجوم بـ"مهدّة" على أسود المنارة، في وضح النهار، وبدأ بتكسيرها وسط تشجيع البعض من المتفرّجين واستهجان البعض الآخر، لكن أحداً لم يجرؤ على التدخّل، ما أتاح للشاب الوقت الكافي لتهشيم التماثيل، وفرض رؤيته وإسماع صوته للكاميرات المتواجدة.
النصب عبارة عن تمثالين متقابلين من الصلصال، الأول لرجل يحمل مكنسة، والثاني لمواطن عادي ينحني قليلاً، ويرفع قبعته بيمينه كتحية للأول. في اليوم التالي للتدشين، قام مجهول، ممن لم يعجبهم النصب، بقطع رأس تمثال المواطن وكسر يده التي تحمل القبعة
هذا في محافظة رام الله، أما في غزّة فقد قام مسلّحون في 2007 بالهجوم على نصب الجندي المجهول في شارع عمر المختار وتحطيمه، وترافق ذلك مع الاعتداء على كنيسة دير اللاتين ومدرسة راهبات الوردية، في غزة أيضاً.
هذه هي بعض الحوادث الشبيهة، أما غير الشبيهة فتتعلّق بعدد لا يحصى من حالات تكسير البارات أو المقاهي المخالفة لـ "العادات والتقاليد" و"الشرع والأخلاق" .
ليست فلسطين حالة خاصة بالطبع، فكلنا يعرف ما حل بتمثال أبي العلاء المعري في سوريا، أو بآثار وتماثيل مدينة تدمر التاريخية، وكلنا يعرف ما حل بأهم معلم في مدينة طرابلس الليبية، وهو تمثال "الحسناء والغزالة" والذي صمّمه النحات الإيطالي أنجلو فانيتي، في ثلاثينيات القرن العشرين، ومنذ ذلك التاريخ وحتى 2014 وهو يتوسط أحد أهم ميادين طرابلس، إلى أن تم قصفه، أولاً، ومن ثم اقتلاعه من مكانه وإخفائه نهائياً، والحجة الجاهزة هي منافاته للعادات والتقاليد وللشرع والأخلاق، وكأن العادات والتقاليد انتبهت، بعد قرن كامل من الغفلة، أن تمثالاً حجرياً لحورية عارية يخدشها ويهدمها ويخرب أخلاق حامليها ودينهم.
الحجج والأسباب والتبريرات التي ينطلق منها كل من يعتدي على تمثال، أو على مَعْلَم، أو على صاحب تصرف مختلف هي: خدش الحياء العام، تخريب أخلاق المسلمين، العادات والتقاليد، التشبّه بالغرب الكافر، وما إلى ذلك من جمل تؤكد الانطواء والتقوقع على الذات، ورفض كل جديد، وبالتالي محاربته باليد والعنف والإلغاء، وليس بالفكر أو التنظير المضاد.
هل نحن نكره الجمال فعلاً أو نكره المختلف، أو نخاف من الدخيل على ثقافتنا، إن كان لنا أصلاً ثقافة متمايزة عن العالم ويمكن تحديدها وتعريف عناصرها؟
هذا المنطق في الرفض والإلغاء ليس حكراً على أصحاب الفكر الديني المتزمّت في بلادنا، وإن كانوا هم رواده ومروجوه، بل إنه يمتد ليطال شرائح كبيرة من أناس لا ينتمون لفكر بعينه، أو أناس يعتبرون أنفسهم يساريين حتى. ففي الحادثة الأخيرة في رام الله يمكن لأي مهتمّ رصد ردود أفعال العشرات ممن يؤيدون تحطيم التمثال بسبب بشاعته، أو بسبب المواد غير الجيدة المستخدمة في تنفيذه، أو بسبب قناعات حقيقية أو مفترضة بأن البلدية قامت "بتنفيعة" لفنان قدّم لها مشروعاً لا يفيد ولا يضيف فكراً أو جمالاً للبلد، أو حتى بسبب قناعات لا يمكن الوقوف على مصدرها، بأن هذا العمل يندرج تحت التقليد الساذج وغير المتقن للغرب.
أصحاب هذه المبرّرات لا يعيبهم، بالطبع، أن حياتهم بكل تفاصيلها تقليد للغرب، من صحن الأكل حتى ربطة العنق. هم يتعاملون أن العالم وحدة واحدة فيما يتعلق بشكل ومضمون فكرة الدولة، وشكل ومضمون البرلمان، وتسميات أعضاء الحكومة، وتشكيل هيئة من أناس نطلق عليهم "مجلس بلدي"، وتشكيل لجان لهذا المجلس، وتخطيط المدن والشوارع، وقوانين السير، والأرصفة، والسيارات العادية والكهربائية، وملايين التفاصيل.
ينسون أن هذا تقليد للغرب، ويتذكرون عاداتهم وأخلاقهم حين يوضع تمثال بائس على أحد هذه الأرصفة، فيهجمون عليه ويحطمونه، ثم يحتفلون بانتصارهم على الغرب.
صحيح أن النحت والتماثيل ليست من ثقافتنا ولا من موروثنا، ومن قال غير ذلك؟ هل سمعتم مثلاً بالنحّات أبي لهب، أو النحات ابن تيمية؟ لا وجود لهذا المصطلح في كل تاريخنا بالتأكيد.
علينا أن نكرّم عمال النظافة بأن نكتب فيهم قصيدة، أن نصدر باسمهم بياناً نارياً، أو حتى أن نلقي القمامة في الشوارع لنؤكد لهم أن لا غنى عنهم، أما أن نصنع لهم تمثالاً، ونضعه في وسط مدينة تعجّ بكارهي الجمال، أو المستهجنين من المختلف، فهذا عمل أحمق وغير مدروس بلا شك
نحن نملك الشاعر المتنبي وصاحب المقامات الحريري، والإمام الشافعي، والخطيب قس بن ساعدة، والمفسّر ابن الأثير، مع كامل التبجيل لفتراتهم ولمنجزاتهم في عصورهم. ومن هذا المنطلق علينا بالتالي أن نكرّم عمال النظافة بأن نكتب فيهم قصيدة، أن نوزع عليهم كعك العيد، أن نصدر باسمهم بياناً نارياً، أو حتى أن نلقي القمامة في الشوارع لنؤكد لهم أن لا غنى عنهم، أما أن نصنع لهم تمثالاً، ونضعه في وسط مدينة تعجّ بكارهي الجمال، أو المستهجنين من المختلف، فهذا عمل أحمق وغير مدروس بلا شك.
هل نحن نكره الجمال فعلاً أو نكره المختلف، أو نخاف من الدخيل على ثقافتنا، إن كان لنا أصلاً ثقافة متمايزة عن العالم ويمكن تحديدها وتعريف عناصرها؟ لا أدري. كل ما أنا متأكد منه هو أننا لم نصل بعد لتعريف مصطلح المدينة، ولا للفهم البسيط لعلاقات المدينة وقدرتها على استيعاب كل مختلف، واعتباره إضافة ثقافية وجمالية، وعدم التعامل معه كدخيل يجب محاربته.
ونحن لا نكره الجمال أيضاً بقدر ما نكره فكرة الدولة أو المؤسسة التي "تحتكر العنف" حسب ماكس فيبر، ونريد أن يكون لكل منا رأيه وسلطته، وبالتالي قدرته على تنفيذ حكم الإعدام بكل ما يخلخل ثقافته الذاتية، وموروثه المكتسب من شيوخ الحارة، ومن مدارس لا تختلف عن شيوخ الحارة، وجامعات لا تبتعد كثيراً عن منطق شيوخ الحارة.
لدينا خلل كبير في فهم التعايش، وفهم الثقافات المشتركة، وفهم تداخل العالم بأفكاره وقيمه ومخترعاته، ولدينا خلل أكبر في فهم البلدية لدورها، وفهم الدولة لوظيفتها، ولدينا جميعاً فهم قاتل لمكاننا ومكانتنا في عالم اليوم، وحين نستطيع حل هذه الإشكاليات الكارثية، لن تقبل البلدية أن تضع تمثالاً "حيالله" على أحد أرصفتها، ولن يجرؤ أحد على الاقتراب منه لو وضعته.
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ 5 أيامSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ 4 اسابيعحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.