خلال جولاتها في رأس البسيط شمال مدينة اللاذقية السورية، لفتتها قواقع فارغة سوداء، خالية من الأشواك والنسيج الداخلي، ويبدو بأنها جزء من قنفذ البحر الأسود الشهير في اللاذقية، كما لفتها وجود قنافذ عليها أشواك عالقة قليلاً ومترسبة في قاع المياه، ما يعني أنها بداية حالة نفوق جماعي لهذا الحيوان.
تقول آلاء علو وهي طالبة ماجيستير في المعهد العالي للبحوث البحرية، إن هذا المنظر المؤلم الذي بدأ في الربيع الفائت وتحديداً خلال شهر أيار/ مايو، دفعها لدراسة الموضوع ومحاولة تفسير سبب نفوق أعداد كبيرة من هذا الكائن الذي كان يزين الشاطئ أينما التفت الإنسان.
وتتابع آلاء (31 عاماً) في حديثها لرصيف22: "لا يمكن اليوم رؤية القنفذ في كثير من الأماكن، ورغم بحثي عنه في عدة شواطئ، وحتى غوصي في الماء لعمق خمسة أمتار، لكن الكميات التي رصدتها شبه معدومة، وكان الموت هو القاسم المشترك لكل ما كنت أراه"، في حين حدّثها غواصون عن رصدهم للقنفذ بأعداد قليلة في أماكن أعمق من المسافة التي وصلت لها في غوصها.
ما هو القنفذ الأسود؟
يتميز قنفذ البحر الأسود بجسم كروي منتظم ومتناظر شعاعياً، ويشتهر بطول أشواكه السوداء الذي يراوح ما بين 10 إلى 12 سنتيمتراً وقد تصل حتى 30 في القنافذ الكبيرة جداً، وله فم مركزي في الجانب السفلي، في حين تتوضع فتحة الشرج المركزية في الجانب العلوي. ويتلون القنفذ بالأسود غالباً، بحسب ما تشرح الدكتورة ازدهار عمار، الأستاذة والباحثة في المعهد العالي للبحوث البحرية في جامعة تشرين في مدينة اللاذقية.
وتتابع الدكتورة في حديثها لرصيف22 بأن القنفذ كائن نشاطه ليلي، يتجول على بعد متر واحد من مسكنه للحصول على غذائه، وهو حساس جداً للضوء، كما أنه فريسة لغيره من الأنواع السمكية الغازية مثل المنفاخ والخنزيرة وبعض أنواع بطنيات القدم.
وعن ظهوره في سوريا، توضح المتحدثة بأن المعطيات الحقلية خلال العامين 2020 و2021، كشفت وجود قنفذ البحر الأسود Diadema setosum لأول مرة في عدة مواقع، وكان انتشاره بأعداد كبيرة على عمق 5 إلى 8 أمتار، مترافقاً مع أنواع غازية من الطحالب الكبيرة والإسفنج والقشريات والرخويات. وتستدرك بأن بعض الغواصين تحدثوا عن ملاحظة وجود عدد من أفراده منذ عام 2016 في نفس المواقع.
نفوق القنفذ
خلال شهري أيار/ مايو وحزيران/ يونيو من العام الجاري، رصد الغواصون وبعض الهواة في سوريا حالة نفوق سريعة جداً لقنفذ البحر الأسود، وهذا النفوق لم يكن خصوصية سورية فقط، إذ بدأت الظاهرة في نهاية العام الماضي في الشواطئ اليونانية، وانتشرت بسرعة نحو تركيا على امتداد مئات الكيلومترات، ووصلت إلى خليج العقبة وفي أغلب مناطق البحر الأحمر حتى الشواطئ السعودية.
تستمر آلاء بجمع عيناتها لتدعم رسالة الماجستير التي تعمل عليها والمتخصصة بالأنواع القاعية، والتي يشكل القنفذ جزءاً منها، وتحاول مع الأساتذة المشرفين على بحثها معرفة السبب، وحتى الآن لم يتمكنوا من تحديده بدقة.
لا يمكن اليوم رؤية القنفذ الأسود في كثير من الأماكن، ورغم بحثي عنه في عدة شواطئ، وحتى غوصي في الماء لعمق خمسة أمتار، لكن الكميات التي رصدتها شبه معدومة، وكان الموت هو القاسم المشترك لكل ما كنت أراه
ويرجع سبب اهتمامهم بالأمر إلى الأهمية العلمية لتحديد سبب نفوق القنفذ، مع احتمالية أن يكون مرضاً قد ينتشر لأحياء أخرى، كما أنه من الضروري معرفة الخلل البيئي الذي سينجم عن غيابه، كزيادة نمو بعض أنواع الطحالب الغازية التي يتغذى عليها، والتي ستؤثر بدورها على الأحياء البحرية الأخرى، وقد تؤدي إلى عودة ظهور أسماك محلية حل القنفذ مكانها في وقت سابق.
وتشرح الدكتورة عمار المشرفة على البحث، أنه حتى الآن لم يتم التأكد من السبب الحقيقي للنفوق، باستثناء بعض التحليلات من قبل بعض الباحثين، والتي تعزو الأمر إلى انتشار نوع من الهدبيات الطفيلية وحيدة الخلية تسمى "فيلاستر"، تستهدف هيكل القنافذ البحرية وتؤدي إلى وفاتها بسرعة.
ففي إحدى جامعات فلوريدا، درس باحثون الانقراض الجماعي لقنافذ البحر من الولايات المتحدة إلى منطقة البحر الكاريبي، وألقوا باللوم على طفيلي مجهري أحادي الخلية وهو مهدب يُعرف باسم "فيلاستر"، وبرأيهم قد يكون مسؤولاً عن القضاء على حوالي 98٪ من قنافذ البحر في المنطقة منذ الثمانينيات، وأدى فقدان هذا النوع من القنفذ إلى تغيير مصير الشعاب المرجانية تماماً.
درست ميا بريتبارت، أستاذة علم المحيطات البيولوجي في جامعة تامبا جنوب فلوريدا، مع فريق يضم علماء من جامعة كورنيل والمسح الجيولوجي الأمريكي القضية في غضون أربعة أشهر، عينات جُمعت من 23 موقعاً حول منطقة البحر الكاريبي، بما في ذلك أوروبا وجزر فيرجن الأمريكية وبورتوريكو، وراقبوا الكائنات الحية المرتبطة بقنافذ البحر، وأثبتوا أن اللوم يقع على عاتق الفيلستر من خلال وضع الكائن الحي في خزانات بها قنافذ صحية ونامية في المختبر ومشاهدة حوالي 60٪ من العينة تموت بنفس الأعراض التي تظهر في البيئة البحرية.
للاضطرابات المناخية التي يشهدها الإقليم، إلى جانب التلوث، دوراً في اختفاء القنفذ.
تغير المناخ
وتعتقد الدكتورة عمار أن للاضطرابات المناخية التي يشهدها الإقليم دوراً في الموضوع، ويدعمها التلوث الموجود، وهي أمور لعبت دوراً في سرعة انتشار العدوى والتخفيف من قدرة هذا النوع على المقاومة، بالإضافة إلى تغذي الأسماك على أجزاء من الحيوانات النافقة وحركة التيارات البحرية النشطة من الجنوب إلى الشمال، كل ذلك ساهم في سرعة انتشار الوباء وعجل في القضاء على العدد الأكبر من قنافذ البحر.
مع العلم أن بعض الباحثين يعتقدون أن الظاهرة طبيعية تحدث في سياق دورة حياة النوع، ولم يصدر حتى الآن أي تقرير علمي من أية جهة بحثية في المنطقة تحدد السبب الفعلي للنفوق، وربما يحتاج الأمر إلى مزيد من الاستقصاء والدراسة وتحليل للعينات.
تأثير الاختفاء
اللافت أن هذا الكائن وضع في قائمة أسوأ الأنواع الغريبة الغازية في شرق البحر الأبيض المتوسط، وكانت أعداده تتزايد في المنطقة يوماً بعد يوم، وخاصة في شمال سوريا، ولكن ذلك لا يمنع تمتعه بأهمية كبيرة من الناحية البيئية، إذ يلتهم الطحالب الكبيرة من مختلف المجموعات والتي يمكن أن تنمو بطريقة مفرطة في مناطق الشعاب المرجانية، لدرجة أنها يمكن أن تخنق هذه الشعاب، بذلك يلعب دوراً حيوياً في مساعدة يرقات المرجان على الاستقرار والنمو، كما يتغذى القنفذ على الفتات العضوي والرواسب ويصبح لاحماً عندما يجوع.
ويمكن أن يتحول القنفذ لمصدر دخل اقتصادي، عندما يستخدمه السكان في طعامهم، وتحدث صيادون في اللاذقية وجبلة عن بيعه بكميات كبيرة في السابق إلى لبنان، وعن إقبال كبير في ذلك الوقت على صيده.
وتشير الدكتورة عمار إلى أهمية خاصة لهذا القنفذ تتمثل باستخدامه في الطب، إذ له القدرة على تطوير نوع جديد من المضادات الحيوية في المجال الصيدلاني، وهو غني بالمركبات النشطة بيولوجياً التي تعمل كمضادات للأكسدة ومضادات الالتهابات والأورام والسرطان والبكتيريا.
لكن يوجد تأثير سلبي لهذا الكائن يتمثل في أشواكه الطويلة والنحيلة، التي تسبب إصابات مؤلمة للسباحين والغواصين والصيادين عندما يدوس أو يسقط شخص ما عليها، ويمكن للنهايات الحادة والمدببة للأشواك الأولية أن تخترق الجلد وتنكسر وتبقى مغروسة في الجسد، وتطلق من الأنسجة والتجاويف سماً يسبب احمراراً وتورماً وألماً شديداً يهدأ بعد بضع ساعات.
ولم تسلم آلاء بالفعل خلال دراستها من الجروح التي سببها لها هذا القنفذ، لكنها تصر على أنه كائن مسالم لا يقترب من أحد ولا يؤذي أي شخص ما لم يقترب منه، ولهذا أفضل طريقة للتعامل معه عند جمعه ارتداء قفازات.
يتمتع القنفذ الأسود بأهمية كبيرة من الناحية البيئية، إذ يلتهم الطحالب الكبيرة التي يمكن أن تنمو بطريقة مفرطة في مناطق الشعاب المرجانية،بذلك يلعب دوراً حيوياً في مساعدة يرقات المرجان على الاستقرار والنمو، كما يتغذى على الفتات العضوي والرواسب
وأمام هذه التحليلات يظهر صوت مختلف، فربما يكون لنفوق هذا النوع الغازي أمراً ايجابياً، كما يقول الخبير البحري يوسف جندي مدير المركز اللبناني للغوص، لعدة أسباب أهمها تجنيب السباحين والمستجمين الأذى بفعل أشواكه السامة، وثانياً على المستوى البيئي إذ يمكن أن يحل محله نوع آخر أقل ضرراً وأهم اقتصادياً، لأن مناطق انتشاره هي بالأساس أماكن تبويض وتفريخ العديد من الأنواع السمكية الهامة اقتصادياً كأسماك اللقس.
ويتابع جندي في تصريحه لرصيف22 أن الغريب في الأمر عدم نفوقه في لبنان حتى الآن، و"استمرار انتشار هذا النوع بغزارة في شاطئ محمية صور جنوب لبنان، بالإضافة لظهور أفراد من مختلف الأحجام والأعمار".
ويتوقع الباحثون عودة هذه القنافذ إلى الظهور والانتشار في بيئاتها الأصلية مجدداً، كالبحر الأحمر وقناة السويس وخليج العقبة وربما في الشواطئ السورية أيضاً، خاصة مع استمرار وجود عدد محدود جداً من الأفراد المنفردة في بعض النقاط المعزولة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...